مخرجات الواقع المسرحي المأزوم
طارق حنبلةالمسرح هو أقدم المظاهر الفنية والحضارية والثقافية في حياة الشعوب والمجتمعات الإنسانية وهو ما جعل المهتمين يطلقون عليه لقب “أبو الفنون”.لقد رسم المسرح ملامح المجتمعات الإنسانية العصرية بألوان قوس قزح وساهم من خلال حركته التثقيفية البنائية في ترسيخ القوانين والقيم السماوية والوصفية،ومنح الفرد أحاسيس جديدة ومتجددة وعمق له دوره الحضاري في تعزيز مفاهيم الحب والتضحية وعظمة الانتماء الوطني والأممي إذ كان المسرح وسيظل قنديل زيت حقيقي يضيء حياة الشعوب والأمم ويملؤها حباً ونوراً وتقارباً إنسانياً خلاقاً.لقد مثلت ولادة المسرح في حياة الشعوب والأمم نصراً فكرياً وثقافياً وحضارياً غير عادي وانعطافة إنسانية كبيرة كتبت بأحرف من نور للمجتمع الإنساني العصري الذي يدرك قيمة الإبداع في مساق حركة تطوره ونمائه الحضاري فكراً وسلوكاً كنتيجة طبيعية لتطور هذا المجتمع أو ذاك سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً عبر عقود طويلة من الزمن كمحصلة لمجموعة من التجارب والتفاعلات الفكرية المختلفة.وقد عرف العالم العديد من المسارح التي أسهمت في تنوير دروب الإنسانية في سياق إبداعي جميل نقل البشرية إلى مخاض تطويري عصري رائع وإلى مساحة وعي فني متجدد أذاب الحواجز النفسية بين الفن كمفهوم عطاء إبداعي لا يجافي الأديان والشرائع وبين الجماهير التي لطالما خشيت الولوج إلى مساحات العمل الفني نتيجة الأسباب هي في الغالب دينية ووراثية ضيقة خلال فترات زمنية متفاوتة ومتذبذبة من عمر الإنسانية.ولعل أبرز المسارح التي عرفتها الإنسانية على الإطلاق المسرح اللاتيني ومسرح العاطفة والخيال “مسرح شكسبير” بالإضافة إلى مسرح الواقعية “مسرح برتولد بريخت” إلى جانب مسارح كثيرة لا حصر لها سواء عربية أو أجنبية ساهمت في تعزيز مسيرة البشرية نحو التقدم الحضاري والفكري والثقافي بشفافية مطلقة نقلت الإنسان من براثن الخواء الفكري والروحي والجمود الثقافي والإبداعي إلى واحات العطاء والبذل والارتقاء بالنفس إلى فضاءات التجديد والمعرفة والحب والنغم والوعي والإدراك في مساق إنساني بناء لم يجاف الثوابت الأخلاقية ولم يكن أبداً غليظاً مع أدياننا السماوية العظيمة.أما فيما يتعلق بمسرحنا نحن “المسرح اليمني” الذي تجاوز عمره مئة عام..فلا أجافي الحقيقة ولا أجفف ينابيع الواقع حيث وأجزم في قولي إن مسرحنا اليمني هو من أعرق المسارح في منطقة الخليج والعالم العربي والإسلامي كمحصلة طبيعية للتطور الحضاري الذي شهدته مدينة عدن في منطلق القرن الماضي في مختلف المجالات نتيجة لموقعها الإستراتيجي المهم ومينائها على وجه الخصوص الذي وصلت شهرته إلى حدود العالمية كما يعرف الجميع.لقد شهد المسرح اليمني في العقود الماضية تطوراً كبيراً وملحوظاً خاصة في مدينة النور والريادة والوهج الحضاري عدن التاريخ وأسهم من خلال حركته التنويرية الإبداعية في تشكيل وعي الجماهير وأشاع حالة من الرقي الفكري والثقافي في أوساط المجتمع الذي تسلح لفترة ليست بقصيرة بأبجديات العصرية والشفافية والإبداع الحضاري ثم تذبذب في هذه المساحة نتيجة لعدة عوامل أبرزها عودة الوعي القبلي وتنامي التكتلات الأصولية والمناطقية المقيتة التي تظل في تصادم كلاسيكي مع وعي الجماهير ورؤى الثورة والوحدة المجيدتين.لقد استطاع المسرح أن يرسخ الوحدة المجتمعية وأسهم في فترات مده وجزره في هدم الحواجز النفسية بين أبناء الوطن الواحد الذين بات البعض منهم يعيشون حالة من الخواء الفكري والنفسي وعمى الألوان في الهوية الوطنية والحضارية نتيجة لسفر خيالهم وأرواحهم وفكرهم إلى مساحات الضغوطات الحياتية والواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الوطن الحبيب والعالم من أقصاه إلى أقصاه،والذي سنتجاوزه بإذن الله إذا آمنا بضرورة التلاحم والحب والتعاون واحترام إبداعات العقل الإنساني وعلى رأسها أبو الفنون وسيد المبدعين والمثقفين.ومن وجهة نظري المتواضعة هناك خطوات ينبغي إتباعها حتى يستعيد المسرح اليمني العريق والرائد في المنطقة مكانته الطبيعية في الحياة الفكرية اليمنية والعربية باعتباره أهم المظاهر التنويرية والإبداعية والعمود الفقري لحركة تطور الفنون الإنسانية..وهي كالتالي:- قيام وزارة الثقافة ببناء مشارح جديدة ترتقي بمستوى العمل في هذا الحقل الإبداعي الكبير.- صيانة وترميم المسارح القديمة لتحسين مستوى أدائها وإنقاذها من الاندثار والإهمال الذي جعل منها بيوت للطيور والزواحف بمختلف أشكالها وأحجامها..”المسرح الوطني بالتواهي أنموذج”.- تعويض الملاك السابقين لهذه المسارح بما لا يجافي حقهم المادي والإنساني.- الاهتمام بالعمل النقابي المسرحي كبوابة رئيسية للدفاع عن حقوق الفنان المسرحي الذي يشعر بكثير من الأسى والإعياء النفسي نتيجة لركوده ووهجه المبدد في ظلمات الأفكار البالية والرجعية.- تحسين المستوى المادي والمعيشي للفنان اليمني باعتباره مدخلاً أساسياً لإظهار مواهبه وإبداعاته وواحة ضرورية لخلق تجلياته الفكرية والروحية وإدخاله آفاق العمل الإبداعي والتنويري بما يسهم في إثراء الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية على صعيد الوطن ككل.- إنشاء معاهد عالية للفنون المسرحية في المدن المتوهجة فنياً وإبداعياً- عدن- صنعاء - تعز- لحج- الحديدة - حضرموت..كنموذج لهذه المدن المتوهجة التي اثريت عبر عقود من الزمن.- إقامة مهرجان نسوي للفنون المسرحية بحيث تحتضن كل محافظة مهرجان يمتد لمدة أسبوع على الأقل.وهذا سيؤدي دوراً كبيراً في إخراج المسرح من حالة الغيبوبة الطويلة التي عانى منها ويعاني حتى اللحظة.- توفير فرص عمل لطلائع العمل المسرحي الذين أثبتوا جذارتهم وحققوا نجاحات تستحق التقدير والاهتمام.- الاهتمام بأسبوع الطالب الجامعي والمسرح المدرسي لأنها قنوات أساسية تؤكد مواهب مسرحية حقيقية وقد عودتنا المدارس والجامعات على ذلك.الاستمرار في تكريم المبدع المسرحي لأن ذلك يعني دفعاً لطاقاته وإبداعاته وحماسه في العمل.- التشجيع على الاستثمار في بناء البنية التحتية للعمل المسرحي وحماية المستثمرين من “قراصنة الأراضي” الذين عاشوا في الأرض فساداً وإفساداً.- توقيع بروتو كولات التعاون الفني مع الدول الكبيرة والتي لبها باع طويل في هذا الحقل الإبداعي والإنساني الكبير..فعلينا أن نستفيد من تجارب الآخرين وتقدمهم في هذا المجال وهذا شيء عظيم لأنه يعني كسر الحواجز النفسية بين الأمم والشعوب وتعزيز أواصر المحبة والصداقة على أرضية القيم الإنسانية التي تجمعنا.