محمد عبده غانم مترجماً للشعر
بقلم د. شهاب غانمولد الدكتور محمد عبده غانم في عدن عام 1912 وتوفي رحمه الله في صنعاء عام 1994 ودفن بها في مقبرة خزيمة. وكان غانم أول شخص في اليمن بل في الجزيرة العربية يحصل على شهادة من جامعة حديثة ،فقد نال شهادة البكالوريوس بدرجة الامتياز من الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1936 وكان الأول على دفعته. كما نال الجائزة الأولى في المباراة الشعرية التي أقامتها جمعية (العروة الوثقى) بالجامعة عام 1936. وكان من مدرسيه أنيس المقدسي ومن زملائه في تلك المرحلة قسطنطين زريق والأردني عبد المنعم الرفاعي واللبناني منير بعلبكي و والفلسطينيان سعيد العيسى ومحمود الحوت والسوداني نصر الحاج علي والسعودي عبد الله بلخير، وغيرهم. وقد نال غانم خمس جوائز شعرية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية في مسابقات كانت تعقدها هيئة الإذاعة البريطانية عن مواضيع منها (الوحدة العربية) و(رهين المحبسين)، إلخ. وعمل في مناصب عديدة منها مدير المعارف بعدن. وقد نال غانم عام 1963 البكلاريوس بدرجة الشرف الأولى من جامعة لندن ثم درجة الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1969 وعمل رئيسا لمجلس إدارة ميناء عدن في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ورئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم 1977-1974، ومستشاراً ثقافياً لسفارة اليمن بأبوظبي في أوائل الثمانينيات، ثم عميداً للدراسات العليا بجامعة صنعاء في الثمانينيات ومستشاراً لرئيس الجامعة حتى قبيل وفاته رحمه الله في عام 1994. وتولى منصب اجتماعية عديدة منها رئيس نادي الإصلاح العربي بالتواهي، ورئيس حلقة (شوقي) الأدبية بعدن، ورئيس نادي صيرة للتنس بعدن، ورئيس نوادي الأحداث بعدن، ورئيس جمعية الشعراء بعدن ورئيس جمعية تأليف الكتب المدرسية بعدن، كما كان من مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مع عمر جاوي وعبدالله البردوني وعبد الله فاضل ومحمد سعيد جرادة وغيرهم. وكان غانم أيضا المؤسس الأول لندوة الموسيقى العدنية مع الفنان خليل محمد خليل الذي غنى العديد من قصائد غانم ومن أشهرها (حرام عليك تقفل الشباك). كما أنشأ غانم أيضا الرابطة الموسيقية العدنية مع حسين خدابخش وآخرين ليخلق جوا تنافسيا بين المجموعتين الموسيقيتين وكان أول من تبنى الفنان سالم أحمد بامدهف فنان الرابطة الأول من خلال كلمات أغانيه الكثيرة ومنها (قولوا له) و (على أيش) و (يا بو العيون الكحيلة) و(عرائس اللحن) كما كان أول من قدم الفنان محمد سعد عبد الله من خلال الأغنية الشهيرة (ما أحلى السمر جنبك). وغنى لغانم بعد ذلك عدد كبير من الفنانين نحو خمسين أغنية ومن هؤلاء أحمد بن أحمد قاسم الذي غنى له (قمري تغنى) و(عذبيني) التي ظهرت في فلم (حبي في القاهرة) و(أتعلم يا فاتني).وقد صدر لغانم نحو عشرين كتابا منها سبعة دواوين شعرية أولها (على الشاطئ المسحور) عام 1946 وثانيها (موج وصخر) الذي كتب مقدمته إبراهيم العريض وآخرها (الأنامل الجافة) الذي تمكنت من جمعه ونشره بعد وفاته ، وأصدرت دار العودة أعماله الشعرية في مجلد واحد كتب مقدمته د. عبد العزيز المقالح التي قال فيها: “وقلمي يغدو أضعف مني وذلك كلما اقتربت من أي أنتاج أدبي لأحد شاعرين أحس نحوهما أكثر من غيرهما من شعراء اليمن بتقدير خاص واحترام نابع من أعماق النفس والشاعران هما الأستاذ الشهيد محمد محمود الزبيري والأستاذ الدكتور محمد عبده غانم”. وأصدر غانم خمس مسرحيات شعرية أولها (سيف بن ذي يزن) وقد أصدر المجمع الثقافي بأبوظبي مسرحياته الخمس في مجلد واحد عام 2009 بمقدمة لي. ومن أشهر كتبه النثرية (شعر الغناء الصنعاني) الذي يعد المرجع الأساسي في موضوعه، وقال عنه د. شوقي ضيف في أول سطر من مقدمته للكتاب: “لا أعرف دراسة علمية جادة لأغاني بلد عربي تبلغ حد الإجادة والإتقان مبلغ هذه الدراسة”، وقد أعيد نشر هذا الكتاب مرات عديدة. ومن كتب غانم (عدني يتحدث عن البلاد العربية والعالم) الذي أعيد طبعه ثماني مرات، وكتاب تعليم العربية بلهجة عدن باللغة الإنجليزية وكتب تحقيق وأدب ودراسات مختلفة. ولكن لم ينشر غانم أية كتب مترجمة مع العلم بأنه كما كان يقال أفضل من كان يجيد الإنجليزية في وطنه بين بني قومه. وكان غانم يلم أيضا بالفرنسية وفي أواخر عمره تعلم مبادئ الألمانية كما كان يعرف بعضاً من اللغات الهندية والصومالية واللاتينية.وقد سألته ذات مرة منذ نصف قرن لماذا لا يترجم وينشر بعض الكتب المترجمة؟ فقال لي إنه يرى أن الشاعر أو الأديب المبدع ينبغي أن يركز على إبداعه ولا يشتت جهوده فغيره يستطيع أن يقوم بالترجمة. وأنا وإن كنت أختلف معه في هذا الرأي لأني كنت أعرف مدى تمكنه من اللغتين -العربية والإنجليزية- وكنت أدرك أنه كان كشاعر يمكن أن يثري المكتبة بترجمات شاعرية لبعض الشعر، إلا أنني تفهمت موقفه لشدة انشغاله في عمله ونشاطه الوظيفي والاجتماعي والثقافي المتعدد والكثيف. ولكن (غانم) لم يتجاهل الترجمة تماما فقد نشر في مطلع الأربعينيات سلسلة من المقالات في صحيفة (فتاة الجزيرة) عن قضايا الترجمة واللأدب المقارن وأثر الشعوبية في الأدب العربي يكاد من يقرؤها يظن أنها كتبت اليوم لنضجها وقد أشار إلى بعض تلك الكتابات د.حيدر محمود غيلان في كتابه (بواكير الأدب المقارن في اليمن ومتطلبات النهضة الثقافية) المنشور عام 2007 في صنعاء عن مركز الأمين.أما في مجال الشعر فقد ترجم قصائد قليلة وكان يحافظ فيها على الوزن والقافية إذا كانت تلك القصائد في الأصل موزونة ومقفاة. وقد وجدت بعضها بين مخطوطاته ومنها على سبيل المثال قصيدة للورد بايرون بعنوان (بحيرة ليمان ونهر الرون)، ويبدو أن غانما اهتم بها في تلك الفترة من الأربعينيات لتأثره بالرومانسية في مطلع تجربته الشعرية ومن أبياتها:كم تثير الهوى بحيرة ليمان ببلور خدها المصقولهي للطود والكواكب مرآة تريها حسن الخيال الأصيلأي عمق من الصفاء بديع لارتفاع من الفضاء مهولوفرار الأريب من عالم الإنسان لا يعني كرهه للناسليس كل الورى جديرا بأن تخطو خطاه في السعي والالتماسوتعاني من الشدائد والأهوال ما يغمر النفوس بياسأما في فترة كهولته وخطوه نحو المشيب فنراه يترجم قصيدة للشاعر تي إس إليوت بعنوان (نحو المشيب) يقول فيها: دعني أجلو لك ما يختص الشيب من المنح الحسنىحتى تغدو تاجاً يعلو فوق جهاد العمر الأسنىبدءاً بالقَدح البارد في الحس المتسرب اذ يفنىخلوا من وهج السحر ومن وعد قد يعطى أو يمنىالا ثمراً شبحاً مراً لا طعم له أبدا يجنىلما ينزاح الجسم إلى اليسرى والروح إلى اليمنىثم الغضب العاتي يغزو عته الانسان فلا يفنىفالضحك الجارح مما لا يبقى في الضحك له معنىفالخاتمة الألم الفاري بإعادة ما كان وكناومن القصائد الإنجليزية الحديثة التي اهتم غانم بترجمتها قصيدة بعنوان (عدن الكريمة) نظمتها شاعرة إنكليزية كانت تقيم في عدن في الخمسينيات من القرن الماضي ونشرتها في إحدى صحف عدن وتأثر غانم بهذا التغني بوطنه فترجمها في قصيدة بيتية عمودية جميلة بلغت 47 بيتا منها:أنا موطني أرض الضباب والشمس كابية الاهابحيــث المنــازل كالعنا قيد أنتظمن على الروابيفـي مأمــن من عاديا ت الريح في ظل الهضابشجراء يكسو سفحها الريان غاب اثر غابقد رصعت من زهرها البري بالوشي العجابوترنمت أطيارها النشوى بأنغام عذابوعلى الرحاب سكينة بالند تعبق والملابومنها أيضا: ما ذاك ياعدن الكريمة ما لديك من الهناءحتى يرن نداك في ريف السكينة والصفاءفأهب كي ألقاك من وله إلى طيب اللقاءوأخلف المأثــور من وطن ومن خل ورائيلأذوب حرا في رمالك والصخور على السواءوأقدم القربان بين يديك موفور الولاءومنها أيضا: ويشوقني صيادك الهادئ في الفجر المنيريلقى الشباك مكيدة قوراء في قاع البحورويسل من أعماقها سمكا كمنثور النضيروالناقة الوجناء تنظر من بعيد في غرورونداء “حي على الصلاة” من المنابر في البكوروالفلك تجري في الخليج كأنها تم الغديروكما تفاعل غانم مع شاعرة تتغنى بعدن تفاعل مع شاعر غربي يعمل مع غانم في جامعة صنعاء ويكتب قصيدة من وحي انقطاع الكهرباء المتكرر في صنعاء. وإن كانت القصيدة الأصلية نثرية فقد ترجمها غانم كقصيدة تفعيلة وعنوانها (انطفاء) ومنها:ذات مساءهناك في صنعاء بينا أنا في قاعة الطعامفي فندق أقرأ في كتابانقطعت في الغرفة الأنواروفي المنازل المقابلةعبر مساحة المدينة المربعةودورها المشيدة من قطع مسبوكةيدهمنا الظلام مثل موجةوتعتلى الصرخاتوتوقد الشموعويلتقي النزيل بالنزيل بالنزيليلتمسون راحة على السطوح ومن ذراها يشرفونعلى المدينة التي يغمرها الظلاموفي السماء علق المساءفلقة بدر مثل زر منكسروحوله قد غرزت نجوم كأنها هام الدبابيسوتحتنا في الشارع الغارق في الظلاميحاول المصباح من سيارةأن ينهش الظلام..وقد ترجم غانم أيضا بعض قصائده إلى الإنجليزية. وأول تلك القصائد كما أظن قصيدة من أهم قصائده بعنوان (كلمنجارو) كانت من وحي رحلة في إفريقيا زار فيها ذلك الجبل الأعلى في القارة السمراء. وقد علم أحد الزعماء الأفارقة بخبر القصيدة وكان من خريجي جامعة أكسفورد فكتب إلى والدي رسالة يطلب فيها القصيدة وترجمة لها، فقام والدي بترجمتها وطلب مني أن أعرضها على أستاذي في اللغة والأدب الإنجليزي في (كلية عدن) واسمه ماكنيل وكان من خريجي أكسفورد أيضا فأعجبته الترجمة كثيرا وكتب لوالدي يرجوه أن يترجم المزيد من شعره مادام شعره بذلك المستوى الرفيع. وقد وجدت بين مخطوطات والدي ترجمته لقصيدة روحانية بعنوان (نعمة الإسار) فنشرتها مع ترجمته لقصيدة كلمنجارو في كتابي بالإنجليزية (قصائد من أرض سبأ) الذي نشرته عام 1999 وفيه مجموعة من القصائد لعدد من شعراء اليمن كنت قد ترجمتها إلى الإنجليزية ومن ضمنها بعض قصائد والدي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته!.