الرياض / متابعات : ما بين فتاوى متشددة تحرّم الصلاة خلف أناس معينين وأخرى تطالب المرأة بتغطية وجهها حتى وهي بين النساء وإجازة إرضاع الكبير، وبين فتاوى تحلل الغناء والزواج بنية الطلاق وحتى الرشوة والتهرب من الجمارك بات الناس في حيرة من أمرهم، ولم يعودوا يعرفون من يختارون تصديقه من الطرفين، وبات إصدار فتوى تربك المسلمين من أسهل الأمور.وأخيراً اعتبر وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ أن “عدم الالتزام بالفتوى جعل العالم الإسلامي الغربي ينظر إلينا باستغراب، كون بعض تلك الأمور ليست من صميم همومنا وتطلعاتنا الأساسية”، مشيراً إلى أن ذلك أصاب الفتوى بعدم الاتزان خصوصاً عندما تتطرق لأمور نادرة الحدوث او تقع مرة في العمر فقط، ودعا الوزير السعودي إلى “التريث قبل الشروع في إعلان الفتوى، وعرضها أولاً على الجهة المختصة لعرضها على المشايخ المختصين قبل أن يصرح بها إلى وسائل الإعلام وبالتالي خلق نوع من الريبة لدى العامة”.هذا التخبط هو ما جعل هيئة كبار العلماء السعودية تتحرك بهدف منع هذا الارتباك بتعيين مفتٍ رسمي مرضيّ عنه من قبلها في كل منطقة من المناطق السعودية لمنع من لا ترضاه من الرد على تساؤلات الجمهور، غير أنه قد يصعب تطبيق هذا التوجه، فعدد المستفتين أكبر من أن يستطيع 12 عالماً الإجابة عن كل استفساراتهم اليومية. وتحاول هيئة كبار العلماء من خلال حصر الفتيا في أشخاص معينين من قبلها الحد من الفتاوى التي تخالف النهج السائد في الشارع الديني السعودي، لكن المزيد من الأصوات كانت ضد مثل هذا القرار.ومن الرافضين لمثل هذا القرار المستشار بالديوان الملكي الشيخ عبدالمحسن العبيكان الذي أنكر في أحاديث صحافية على من يطالب بحصر الفتوى للناس والسائلين وقصرها في هيئة شرعية رسمية كهيئة كبار العلماء، مؤكداً أن ذلك متعذر وغير متيسر إطلاقاً، ويقول “الناس تختار من الفقهاء والعلماء من تراه أقرب إلى نفسها، وما تقر به أعينهم، وتطمئن به أنفسهم”، وتعجب العبيكان من تلك المطالبة بقوله: “ومن الذي يقول إنه لا يتصدى للفتوى إلاّ من يؤذن له؟ هذا غير متيسر، بل هو متعذر. بعض الناس يطلب أشياء لا تصح المطالبة بها عقلاً ولا شرعاً”.ويؤكد الشيخ عادل الكلباني في حديثه لموقع “العربية.نت” أن من الصعب حصر الفتوى الشخصية في عدد محدود من العلماء، ويقول: “يمكن حصر الفتيا في الأمور التي تهم البلد بشكل عام كالقانون والنظام، لكن لا يمكن حصرها في الأمور العامة، فالرياض مثلاً فيها أربعة ملايين شخص فهل سيكفي اثنان أو ثلاثة لتلبية كل تساؤلاتهم؟ لا يمكن أبداً، هذا الأمر من الصعوبة بمكان، فعندما يسأل شخص عن سهو في صلاته مثلاً هل نقول له اذهب للمفتي؟ سيكون الأمر صعباً”، ويتابع: “لا يوجد شيء في قضايا الحلال والحرام خاص وعام، هناك قضايا شخصية لها المحاكم والفتاوى الخاصة، وهناك أحكام عامة يقوم بها من يعرف فيها”.ويؤكد أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض الدكتور علي الشبل أنه لا يجوز لرجل العلم أن يمتنع عن الفتيا عندما يسأل لأنه ممنوع من حجب العلم، إلا انه يشدد على ضرورة أن يتروى المفتي قبل الجزم بما يقول لأنه في هذه الحالة يتحدث نيابة عن الله سبحانه وتعالى.ويقول في حديثه لـ”العربية.نت”: “المفتي منصوب من الله عز وجل بما معه من العلم الذي تعلمه، وليست الفتوى لكل من انتسب للإسلام، وفي الأزمان المتأخرة عندما حصل الاضطراب كان على ولي الأمر أن يمنع أي أحد من الفتيا وهو لم يؤذن له بها، هذا في الأمور العامة أو على الملأ، أما إذا أتي الإنسان إلى بيته وسئل عن أمر شخصي فلا مانع أن يفتي لأنه ممنوع من أن يكتم العلم، إلا إذا منعه أو من ينوب عنه ولي الأمر من ذلك، فهنا عليه أن يمتنع عن الفتيا، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، نهي بعضهم عن الفتيا في زمنهم، وامتنعوا”.ويرفض الشبل انتقاد الفتاوى التي يراها البعض متشددة، معتبراً أنها مادامت قد صدرت من أناس مشهود لهم بالعلم فلابد من الأخذ بما يقولون، رافضاً أن يسميها بالفتاوى المتشددة، ويقول: “إذا كانت الفتاوى من أناس مشهود لهم بالعلم وأذن لهم ولي الأمر بذلك فهي معول عليها، ويجب أن ينظر فيها من أهل العلم الآخرين، هل هي على مقتضى الشريعة ام لا، ولكن لا ينظر فيها من غير المختصين وأهل العلم، ولكن أصبح الذي يحكم على فتاوى العلماء العوام والصحافيون وغير أهل الاختصاص وهذا غير صحيح، الاختلاف في استنباط الأحكام واختلاف الفتوى سنة دارجة من زمن الصحابة بل في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، عندما اختلف الصحابة في فهم أمر للرسول اجتهدوا في فهمه عندما قال صلى الله عليه وسلم “لا يصلي أحدكم العصر إلا في بني قريظة” هناك من فهم أن ذلك للحث على الإسراع وصلاها في وقتها، وهناك من أخذ بالنص وأخر العصر حتى غربت الشمس، فصوب الرسول الكريم الطائفتين ورجح الطائفة التي صلت في الطريق، فالاختلاف وارد، وإذا كان المفتي من الذين عينهم ولي الأمر ارتفع الحرج عن بقية الناس وكان بينهم وبين الله في هذه الفتوى”.ويرفض الدكتور الشبل اعتبار الفتوى مقصورة على المنتسبين لهيئة كبار العلماء فقط، معتبراً أن هناك علماء قادرين على الفتيا وهم من خارج الهيئة، ويقول: “العبرة ليست في كبار العلماء بل في الفتوى، فيمن إذن لهم ولي الأمر في الفتيا، وهي ليست محصورة في هيئة كبار العلماء فقط بل في كل من سمح له ولي الأمر أو سماحة المفتي بالإفتاء حتى لو لم يكن من هيئة كبار العلماء”.ويتابع في توضيح العلماء الذين يحق لهم أن يتصدوا للفتيا: “الله تعالى خاطب الذين لا يعلمون قائلاً: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وأهل الذكر مبينون بأمرين: العلم بشرع الله وتنزيله على المسائل الواقعة، والمسألة الثانية الديانة، فقد يكون لديه علم ولكن ليس له ديانة، أي ورع وتقوى، وهذا لا يصلح أن يفتي للناس، ولهذا النصارى عندما عرفوا بالرهبنة والتقى دون علم سموا الضالين، واليهود عندما كان لديهم علم دون تقوى سموا بالمغضوب عليهم، فمن فسد من عبادنا فيه وصف من النصارى ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن يحدد ذلك هم أهل العلم المنصبون من ولي الأمر”.من جهته يعتبر أستاذ كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض الدكتور عقيل العقيل أن الخلاف في الفتيا شر عظيم يهدد الأمة الإسلامية، مطالباً بأن لا يسأل عن الأمور العامة والمهمة سوى نخبة من العلماء ولا تترك لرأي أو اجتهاد فردي، ويقول لـ”العربية.نت”: “الفتاوى العامة يجب أن تكون لهيئة كبار العلماء ولا تترك للأفراد”، ويتابع: “أتمنى أن يتقيد بهيئة الإفتاء، فولي الأمر عين مفتياً عاماً وهيئة كبار علماء وفيهم كفاية”.ويستغرب العقيل تدخل بعض طلاب العلم في أمور كبيرة من تحليل او تحريم دون أن يكون لديهم رصيد كاف من العلم ليكونوا مؤهلين لمثل هذا الأمر، ويقول: “التحليل والتحريم دليل على تضارب الفتوى نتيجة الاجتهادات الشخصية، فمثل هذه الأمور يجب أن تصدر من هيئة كبار العلماء وليس من طلاب العلم، فطالب العلم قد لا يفهم الأدلة ولا يتمكن منها، وقد تكون الأدلة معتداً بها عند أهل الحديث وهو لأنه غير ملم بعلم الحديث يراها ضعيفة، المشكلة هي في التعصب للرأي، مع أنه يجب أن يعود للحق عندما يسمعه ولا يجب أن يكابر في ذلك، والأسوأ من ذلك من يقول إنه غير ملزم بأقوال الصحابة مع أن أبا حنيفة العالم الجليل كان يقول: “أما كلام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتوقف عنده”، وتابع: “أعجب أن أحد طلاب العلم في سؤال له في إحدى القنوات الفضائية سئل عن مسألة فقال: (قالت هيئة كبار العلماء بكذا أما أنا فأرى كذا)، هذا ليس أدب العلم أن تخالف رأي هيئة كبار العلماء، وكأنك تقول انك وصلت لعلم لم يصلوا إليه، فهل هيئة كبار العلماء لا تريد الحق ولا تقبل به؟!”.ويرفض الدكتور العقيل اعتبار آراء بعض العلماء مسلّمات لا يجب التشكيك فيها، معتبراً أن كل رأي فردي يخضع للصواب والخطأ، ويقول: “لاشك الفتوى إذا جاءت من شخص فهي عرضة للزلل، وكان نهج الصحابة هو الاجتماع وأخذ الآراء في الأمر، وهذا يدل على أهمية أن يأتي الرأي من جماعة وليس فرد، فالهدف هو الوصول للحق وليس التعصب لآراء معينة”.ويتابع محذراً من الاختلاف في الفتاوى: “الاختلاف شر ولا يأتي بخير، أتمنى وأرجو أن ترد هيئة كبار العلماء برد شافٍ على كل من تطاول في الفتاوى لمصلحة المسلمين وليس الرد على فلان وعلان، فحتى الشيخ محمد بن عثيمين كانت له فتاوى ردت”، ويضيف: “مرحلة الاجتهاد قل من يصل إليها، وهو ليس أمراً متاحاً للجميع بل له شروط وضوابط صعبة، والذين يقولون بعض الآراء ليسوا في عرف العلماء مجتهدين، وهل لو أتى مهندس ليجري علمية جراحية بحكم أنه قرأ أكثر من كتاب قلنا له لا مانع؟ لماذا نتساهل في أمر الدين وكأنه أمر عادي غير مهم”. على النسق نفسه يستبعد رئيس تحرير مجلة “راوئع” الإسلامية الشيخ سعد السهيمي نجاح فكرة قصر الفتيا في أشخاص معينين في كل الأمور، ويقول لـ”العربية.نت”: “أؤيد أن تكون الفتوى في الأمور التي تخص الأمة من اختصاص العلماء الكبار ولا تترك لمجتهدين أو دعاة قد يضلون الأمة فيها كي تكون صحيحة، ليس معقولاً أن يكون كل العلماء على خطأ إلا عالماً أو عالمين يرون رأيا مخالفاً لهم”، ويتابع منتقداً الفتاوى المتساهلة في أمور كبيرة. ويقول: “الفتاوى المتساهلة أرى أنها حسب ما يطلبه المستفتون يظهرون فجأة بفتاوى غريبة، كما فعل عادل الكلباني من تحليل للغناء، مع أن له فتاوى متشددة في وقت من الأوقات، ولم يخالف العلماء فيها، ولكن المشكلة ظهوره الآن بما خالف به جمهور العلماء جميعاً، فلم يقل بما قال الا عالمان أو ثلاثة فقط”.ويعتبر السهيمي أن المشكلة الأكبر هي في دخول طلاب علم لم يصلوا لمرحلة إصدار الفتاوى وينتقدون كبار العلماء، ويقول: “هناك من لم يصل إلى مستوى من العلم يؤهله للفتيا، فمثل هذه الفتاوى لا تخص العالم الذي قال بها فقط، بل قد يقع غيره في التهلكة بسببها”، من الصعب التقليل من شأن الصحابة وأقوالهم ونقول إنهم يخطئون وإننا غير ملزمين بما يقولون، هذا فيه تجاوز كبير، بعض المفتين يردون كلام الصحابة بحجة أنهم غير معصومين من الخطأ، من أنت أيها المفتي ألا تخطئ؟ من غير المقبول القول بذلك”، ولكنه في الوقت ذاته يرفض بعض الفتاوى المتشددة كالتي صدرت من الشيخ صالح الفوزان حيال الكلباني عندما حرم الصلاة خلفه، ويضيف: “الشيخ صالح معروف بأن فتاويه فيها حزم وشدة، وأنا لست مع الفتاوى المتشددة أيضاً”.ومازال الشارع الديني السعودي والخليجي في شدّ وجذب بين الفتاوى المتشددة التي تحرم ما اعتاد الناس على أنه حلال ككشف المرأة وجهها وشعرها بين النساء، وبين من يحلل الغناء وأنواعاً غير معتادة من الزواج، ولا يتوقف الأمر عند بعض الفتاوى الغريبة كجواز إرضاع الكبير، فبعض المفتين أباح رشوة رجال الجمارك ليسهلوا أموره واعتبر أن التهرب من الجمارك جائز لأنها مكوس لا تجوز على المسلم.وفي وقت يتخوّف رجال الدين من الفتاوى المتساهلة يخشى الآخرون من أن تتحول الفتاوى المشددة إلى قانون تشريعي أو تقليدي، وإلى أن يحسم الجدل حول هذا الأمر فمن المتوقع ظهور الكثير من الفتاوى المربكة.