مع الاحداث
تحت العنوان الفرعي أعلاه، كتب الصحفي الراحل أحمد جودة افتتاحية لصحيفة “التجمع” المصرية التي يرأس تحريرها، وكانت مقالته تلك خاصة بالشأن المصري شرح فيها المقصود بكلمة “الهوهوة”، وقد تذكرتُ تلك الافتتاحية الساخرة بعد تأمّلات عابرة لحال الديموقراطية في بلادنا العربية الواسعة من محيطها إلى خليجها. فمن يتتبع الوضع القائم الآن، يدرك أن ديموقراطيتنا المزعومة في البلاد العربية تقترب فعلاً من أن تكون مسرحية تتجلى فيها الكوميديا السوداء، إذ إن مفهوم الديموقراطية يختزَل في مظهر واحد هو “الانتخابات” التي غالباً ما يفوز فيها (الزعيم) وحزبه لمرات لا حصر لها؛ مما يعني أن الديموقراطية العربية بنيت “على شفا جرفٍ هارٍ” وإن تم استيراد القوانين الانتخابية من دول غربية ذات تجربة ثرية وعريقة في المجال ذاته.ومن بداهة القول إنّ الدول الغربية توصلت إلى حضارتها الحالية وثقافتها المتطورة بعد تجربة تراوحت ما بين الخطأ وإعادة المحاولة، قدمت فيها تضحيات كبيرة في صراعها المرير مع تسلط الديكتاتورية وممارساتها؛ ولذا يكون التطور الديموقراطي الحقيقي نتيجة طبيعية لتطور المجتمع ونضوج عقله الجمعي الذي يفترض أن يبدأ بالشك في مسلمات الواقع، مروراً بمرحلة الرفض والإنكار، وصولاً إلى الثورة الاجتماعية الشاملة على الواقع السيئ. وهنا من المهم القول إنّ الثورة الحقيقة تبدأ بـ (ثورة العقل) أولاً، ويمكننا في هذا السياق أن نعيد قراءة التاريخ من خلال الحدث المهم المتمثل بـ “الثورة الفرنسية”، لندرك أن وقودها الحقيقي تمثّل أولاً فيما أشاعته عقول الفلاسفة والمثقفين والمبدعين من أفكار تنويرية أسهمت بشكل رئيس في توعية المجتمعات الأوروبية بحقوقها، وعملت على انتشالها من الأوهام. وبصرف النظر عن الأخطاء التي مورست أثناء الثورة، تبقى الجمهورية الفرنسية مثالاً تاريخياً لا يمكن تجاهله، ويصح أن نعتبرها المفتاح الأول للثورات السلمية (الملونة) التي نراها اليوم في مختلف بقاع العالم. لكن الثورات العربية التي طبّل لها العرب وزمّروا في منتصف القرن الماضي، لم تكن سوى انقلابات عسكرية على الحكم المدني، وهنا مكمن السوء، وإن اتخذت الوحدة والحرية والديموقراطية شعاراً براقاً. ومهما وصفت بعض النظم العسكرية (الثورجية) نظم الحكم الأخرى بالرجعية، إلا أنها أثبتت من خلال التجربة أن نار السلاطين المزعومة أفضل بكثير من جنة العسكر الموعودة، بدليل أن بعض الدول التي احتضنت الانقلابات العسكرية تحاول اليوم العودة إلى النمط العربي السائد في الحكم، بل إن بعضها عاد فعلاً إلى مبدأ الوراثة التي طالما رفضها، ليصبح لدينا نمط هجين من نظام الحكم الجماهيري، في ظل مجتمعات يسودها الجهل وتعاني الإفقار والانعزال والكبت. الديموقراطية العربية إذن لم تتم بفضل الوصول إلى تطور حضاري-ثقافي معين عبر تمرحل تاريخي، بقدر ما كانت نتيجة المتغيرات السياسية التي فرضتها مرحلة ما بعد الاستعمار، وكانت تلك الديموقراطية المسكينة مطية للوصول إلى رأس هرم السلطة والتربع عليه دون أي نية للانزياح عنه إلا لظروف خارج الإرادة. وبذلك لم تعكس الدول العربية صورة حضارية عن أدائها السياسي، لكن تلك الصورة بدت على الأقل واضحة أمام الصورة القاتمة التي تشكلت بعد أن أتى العسكر إلى سدة الحكم. وفي كل الأحوال لا توحي التجربة السياسية بالنضوج الحضاري، لا سيما أنّ الإنسان هو من يصنع الحضارة، ولذلك يفترض أن تعمل السلطة كجزء من المجتمع الساعي باستمرار إلى تطوير ثقافته في حال سارت أجزاؤها على نحو أبطأ من الأجزاء الأخرى لتحدث عملية “التخلف الثقافي” التي تكون شاملة فيفشل الإنسان في استيفاء متطلباته وحقوقه الأساسية المتمحورة حول الحرية والمساواة. مهما يكن الأمر فإن الدول الحديثة التي تمخضت عنها المجتمعات العربية لم تكن أبداً معبرة عن الاستقرار السياسي على المدى الطويل، إذ غالباً ما يغيب التخطيط السليم لتهيئة المجتمعات لمستقبلها الوطني، مما يجعل غياب الأشخاص- أو بمعنى آخر سقوط الدكتاتوريات - يُحدث فراغاً كبيراً في السلطة كما حدث في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، وذاك بالطبع نتيجة إلغاء الدكتاتور السابق للإنسان العراقي بكل ما تعنيه كلمة “إلغاء” من معنى. أما في الدول العربية ذائعة الصيت في مجال الممارسة الديموقراطية فإن فيها أشياء تحدث لا تكون في الحسبان، مثلما يحدث اليوم في لبنان لتتحول الممارسة من حرية الاختيار إلى اللجوء للاتفاق على التعيين كمخرج من الأزمات.. فبعد انتهاء ولاية إيميل لحود الثالثة، الكل في لبنان يريد أن يكون على رأس الهرم. بوجه عام ازداد الحديث عن ضرورة التغيير والديموقراطية في العالم العربي بعد دخول الأمريكان للعراق، والحقيقة أن الدرس الأمريكي كان قاسياً أصاب بعض الأنظمة بالرعب فسارعت إلى إظهار النية في التغيير، بل إن الأمور وصلت أحياناً إلى العزم على الاستقالة، وفي أحيان أخرى فتح الدهاليز المخبأة أمام القوى الغربية. وقد شهدت المنطقة خلال فترة وجيزة حراكاً انتخابياً محموماً حصلت فيه بعض المفاجآت غير المتوقعة، ولنا العودة إلى ما حدث في انتخابات المجالس البلدية وظهور القوائم الذهبية، مما يوحي بأن المنتخِب غير واعٍ لما تعنيه العملية التي يفترض أن يكون حدّها الفاصل هو البرنامج الانتخابي لا التأثير الديني. ورغم أن صعود بعض التيارات الإسلامية إلى السلطة في الدول العربية أمر مقبول طالما ليس هناك محاولات لإلغاء الآخرين، لكن يبدو أن “الإسلام السياسي” ما زال غير قابل للتأهيل رغم أهمية النموذج التركي الإسلامي المعتدل، إلا أن بوادر فشل الولايات المتحدة في بناء النموذج الديموقراطي العراقي، جعلت الكثير من الأنظمة العربية الثورية تتنفس الصعداء واضعة “ديموقراطية الهوهوة” على ذمة الزميل الراحل أحمد جودة على الرف لحين الحاجة إليها.عن / جريدة “الوطن السعودية»