القرية في إبداع الشعراء
دفاع صالح ناجي القرية ..تلك اللوحة التي تجسد جمال الطبيعة وسحرها وتأخذنا الى فسيح جنانها من أودية وانهار وجبال وارض معطاء ,أناس بسطاء ..هواء نقي ..وبيوت متواضعة للكثيرين أمنية تراودهم بالجلوس أمام إحدى نوافذها الصغيرة للتأمل في قطرات المطر التي تنساب على دفء التراب وسماع صوت الرعد الشجي وصوت السيول القادمة التي تجلب الهمم للرعوي والفلاح .. وروعة السماء وصفاؤها بعد يوم ممطر..تلك الصورة الرائعة تجسدت في قصائد الشعراء.. وتوازيها صورة أخرى لملامح جميلة شدت رحالها عن القرية من أجل التمدن ثم ضلت الطريق..وتبقى الطبيعة البسيطة الخلابة هي الصفة السائدة في وصف الشعراء الذين اثنوا على كل ما فيها من هواء واشجار وسواق .. ثمار وطيور وقلوب عامرة بالألفة والوفاء .. يقول الشاعر أحمد صالح بن ابي الرجال في وصف احدى القرى اليمنية :[c1] وضة صب لها السعد شوقاً***وصفا ليلها وطاب المقيل جوها سجسج وفيها نسيم***كل غصن الى لقاه يميللست أنسى انتعاش شحرور غصن***طرباً والقضيب منه يميل وعلى دوحة خاطب الورق***ودمع الغصون طل يسيلولسان الرعد يهتف بالسحب***فكان الخفيف منها الثقيل [/c] سعيدة تلك القرية التي تنعم بسماء صافية وليل جميل وهواء منعش ونسيم عليل يطيب للانسان الاقامة فيها ناعماً بهوائها متمتعاً بظلها ومائها ومناظرها التي تستولي على النفوس وتشرح الصدور كصوت الشحرور الذي يشدو طرباً ومنظر الحمام فوق قمة الاشجار بهديلها الشجي وصوت الرعد يستحث السحب وقطرات الندى التي تسيل من غصون الاشجار في منظر جميل جذاب.ويصور الشاعر بدرشاكر السياب إحساس الريفي الذي غادر داره والاجواء الطبيعية والصفاء في الحقول والهواء وكذلك في النفوس التي تعرف معنى الصداقة والوفاء :[c1] ياغربة الروح في دنيا من الحجر والثلج والقار والفولاذ والضجرياغربة الروح لا شمس فأتلق فيها ولا أفق يطير فيها خيالي ساعة السحر نار تضيء الخواء البرد تحترق فيها المسافات تدنيني بلا سفر عن نخل جيكور اجني داني الثمر[/c] نستطيع إدراك العمق الذي بلغه السياب في القصيدة فانفعالاته التي برزت فيها ناتجة عن ذلك الضيق وتلك الغربة التي تملكت الشاعر في المدينة التي لايرى فيها سوى الحجارة والفولاذ والثلج وغربة تسكن الروح بسبب البعد عن نخل جيكور داني الثمر وعن روعة الاشراق للشمس الدافئة دفء الاهل والاصحاب.وتلك المشاعر مجتمعة نجدها في قصيدة للشاعر صلاح عبدالصبور إذ يقول فيها :[c1] وأتى المساء في غرفتي دلف المساء والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضريرحزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم حزن صموتوالصمت لا يعني الرضا بأن أمنية تموتوبأن أياماً تفوت..[/c] فالشاعر هنا يصور ما أحاط به في المدينة التي تجعله يبحث عن الصفاء والسعادة بعيداً عن العلاقات المركبة ويظهر فيها إحساس الشاعر بالحزن فهو يداخل نفسه ويتغلغل فيها مع ألوان المساء وسواده.ونعود الى الشاعر بدر السياب فقد عاد أخيراً الى (جيكور) :[c1] جئتها والضحى يزرع الشمس في كل حقل وسطحمثل اعواد قمحفرّ قلبي إليها كطير الى عشه في الغروب هل تراه استعاد الذي مرّ من عمره كل جرح وإبتسام ؟ياصباي الذي كان للكون عطراً وزهواوتيهاكان يومي كعام تعده المسرة فيه نبضً لقلبي تفجرمنها على كل زهرة كانت الارض تلقي حبها لأول مرة[/c] عاد شاعرنا ليرحل مع الضحى الذي زرع أشعة الشمس في تلك الحقول العامرة بأعواد القمح وتلك الاسطح التي زادت في دفئها الشمس فمع مرور الايام ودورانها يبقى إحساس الشاعر العميق بضرورة العودة الى المنبع والجذر (القرية) كالطائر الذي يعود الى عشه مع ظلام الليل ليجد المأوى والسكينة والأمان والألفة المتجسدة في قرب الاهل والاصحاب وحديث الذكريات عن الايام السالفة في رياض الصبا التي حملت للكون عطراً وزهواً وبشرى..وننتقل الى الشاعر عبدالعزيز المقالح الذي يصف لنا بعضاً من ملامح العيش في القرية اليمنية في قوله:[c1] في كل عام بعيد الحصادتجيء لقريتنا امرأة من يهود البلادوتدعى "عتيقة"كانت امرأة مثل كل النساءتبيع القماش الجديدوترفو القديموتنزل في بيتناونقول لها ما نقول لأحبابناونضيء لها ما نضيء لهم منسراج حميمأي أفق من الحب كان لنا ولهم[/c] فهكذا عرفت القرية قديماً بتبادل المنتجات بين الافراد وهكذا كان العطاء ..فللجميع حق يناله من خيرات الطبيعة وما يجنيه الفلاح بعد جد وعمل فيتقاسمون الخير دون وجود لأي تفرقة ..فالجميع يضمهم سراج حميم يضيء لهم دروباً من الود والتسامح.ويصف الشاعر عبدالله البردوني في (أصيل القرية) صحبة المراعي وحياة لها طعم المشقة والمتعة معاً برفقة القطيع على الوديان وفي سفوح الجبال وذلك الموعد اليومي الذي ألفته اقدامهم واحلامهم الخضراء الندية:[c1] وأغفى فنادى الرواح الرعاة***فعادوا ثنى وتوالوا زمروناشت خطاهم هدوء التراب***ورعش الكلا وسكون الحجر ونقر خطو القطيع الحصى***كما ينقر السقف وقع المطروشد الرعاة الى الراعيات***شباب المنى وملاهي الصغروأغفى رفاق الهوى والقطيع***على موعد الملتقى المنتظروليلتهم ذكريات وحلم***كلمع الندى في اخضرار الشجر[/c] إلاّ أن (القرية) ذلك (العالم الصغير) بدأت تفقد الكثير من ملامحها العفوية حين أصبح ( العالم) شبه (قرية صغيرة) وحين أصبحت بساطة العيش ممزوجة بالتراكيب المدنية التي غيبت أبناء القرية وخسروا هنالك معنى الحياة والطمأنينة فأضحت حياتهم تتدحرج بين اختيارين , وهذا ما أفصح عنه قول الشاعر عبدالعزيز المقالح:[c1] تلك التي لم تعد تأكل القمحمن خبز تنورهامزرعة النحل جفتولا عسل في الجبال ولا ورد نيسان باق ولاعطره ولم تعد قرية ثم لم تستطع مثلما تشتهي أن تكون مدينة [/c]