الروائي الطيب صالح
نجمي عبد الحميد منذ بداية عمله الأول ( نخلة على الجدران ) التي كتبها في عام 1953م إلى رواية ( عرس الزين ) الموضوعة سنة 1962م ووصولاً إلى رواية ( بندرشاه) عام 1971م أحتل الطيب صالح مكانة أدبية كبرى وهامة في تاريخ الأدب العربي الحديث وخرجت به إلى رحاب العالمية ليكون أدبه أحد المنابر التي لا يغفل ذكرها عند دراسة تطور الرواية العربية والعالمية فقد بلغت مكانة الطيب صالح منزلة جعلت من ترجمة أعماله إلى 60 لغة وتقديم الدراسات والبحوث في عدد من جامعات العالم وأدخالها في دائرة الحوارات والقراءات التي وصلت إلى حد الصدامات والتحريم والرفض ولكن هذا لا يسقط أسهامات هذا العبقري الذي جاء إلى عالم الأدب الروائي دون مقدمات وحول هذا الجانب من شخصية الطيب صالح يقول الدكتور يوسف نور عوض ( ظهر الطيب صالح في الحياة الأدبية فملا الدنيا وشغل الناس وكان ظهوره في حد ذاته حدثاً فريداً لم يتكرر كثيراً في تاريخ الأدب العربي الحديث فهو لم تقدمه للحياة الأدبية حركة ايدولوجية أو سياسيه استهدفت أن تجعله صوتاً لها وهو لم يكن واحداً من الكتاب الذين تعود القارىء أن يطالع أسماءهم في الصحف والمجلات فترسبت في أعماقه ميول خاصة نحوه وهو من زاوية أخرى كاتب مقل لا تقارن أعماله في حساب الكم بأعمال الكتاب الذين بلغوا نفس المكانة والشهرة). وقال عنه الأستاذ رجاء النقاش في كتابه أدباء معاصرين ( لم أصدق عني وأنا ألتهم سطور أعمال الطيب صالح وأنتقل بين شخصياته النارية العنيفة النابضة بالحياة وأتابع مواقعه الحارة المتفجرة وبناءه الفني الاصيل الجديد على الرواية والقصة العربية لم أتصور انني أقرأ أعمالاً كتبها فنان عربي شاب ولم أتصور أن روايته موسم الهجرة إلى الشمال الناضجة الفذة فكراً وفناً قد أخذتني إلى مرتفعات عالية من الخيال الغني والروائي العظيم وأطربتني طرباً حقيقياً بما فيها من غزارة شعرية رائعة ). أما الناشر البناني صاحب دار العودة التي نشرت كل أعمال الطيب صالح أحمد سعيد محمدية يقول عنه ( رأيت الطيب صالح أول مرة في بيت سفير السوادن في لندن جمال محمد أحمد وكان وديعاً رقيقاً ويكاد أن يكون حيياً . وأخذت أرقبه وكأنني أستطلع فيه صورة غربية من صور الكون العجيب كم تختلج وراء المظهر الهادىء براكين فنية !! وكم تختفي وراء هذه البساطة عوالم جياشة وحيوات محتدمة . كنت قد قرأت أعماله العملاقة القليلة والنادرة موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين روايتيه الخالدتين - وقصتيه دومة ودحامد وحفنة تمر وكنت أحس أن موهبة عظيمة قد أنفجرت في وطننا العربي وأنها قد بدأت تنساب روافداً دافقاً في نهر الأدب العربي المعاصر وأن هذه الموهبة تتويج للرواية العربية وتصعيد لمكانتها في الفن الروائي العالمي . وكان الضوء قد بدأ يشع حول الطيب صالح وينير أعماله الفذة وكان عن تواضع جم يستغرب هذا الأحتفاء ويكاد أن ينكره وكان الذين يرون هذا الجانب فيه يدركون أم الطيب لايرفض هذا الأحتفاء عن عدم ثقة ولكن عن أصالة وعن إيمان الفنان فيه بأن دورته الفنية لم تكتمل وأن لم يعط بعد كل ما يريد ). قدمت أعمال الطيب صالح صورة عن روح الأنتماء للمكان بالرغم من سنوات الاغتراب عن السودان إلا أن الهوية القومية للشخصية السودانية بكل مفارقاتها ظلت المحور الأهم في أعماله حتى أصبحت واجهة السودان الأدبية أمام العالم ولم يأت من يتجاوزه في هذا الجانب وتلك خاصية تنفرد بها العبقرية لتخلف حالة فصل زمنية مرحلة وأخرى من حقل الأنتاج الأدبي في الحضارات وعند الشعوب وكيف يصبح الألتقاء الثقافي المعادلة الفكرية التي توجد الرؤية الموضوعية في قراءة مكانة الهوية الوطنية عند الصدام بين الشرق والغرب وتعد شخصية مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال أحد المحاور التي دارت عليه مرتكزات الصراع بين حضارة العرب الفاتحة وحضارة الغرب المستعمرة وعمق القرية السودانية في هذا العمل الخالد هو الإطار الذي يحمي تكوين الهوية من التراجع أمام مغريات الغرب . ومن أخطر ما تطرحه هذه الرواية تقبل الغرب للعربي الذي جاء ليكسر حاجز الغرض منه هو جعل إنسان القارة السوداء في منزله دون البشر . لذلك كانت درجة الصراع بين مصطفى سعيد والغرب أروع ماصوره الأدب العربي المعاصر أما روح الانتماء فلا تكون إلاّ بالعودة إلى الأصل الأول . يقول الطيب صالح عن بطل موسم الهجرة إلى الشمال ( في محاولة الثانية موسم الهجرة إلى الشمال قدمت شخصية مصطفى سعيد ذلك الكائن الذي تستقر أشياء في وجدانه وفي عقله الواعي واللاواعي . ومن الواضح أن البلد بمعناه المجازي حيث فكرة التناسق في الكون كما كان في عرس الزين من الواضح أنه بدأ يهتز وبدأت صراعات جديدة بالظهور وخلصت إلى أن الشخصية المفيدة لاستقطاب هذه الأمور هو أن أخلق شخصية كلها عقل وليس لها إي قلب وهذا ماكان تقريباً تفكيراً تركيبياً .) في مجال القصة القصيرة وبالرغم من قلة عددها قدم الطيب الصالح كتابات حاولت تجاوز ماهو معروف في كتابه هذا النوع من الفن في الأدب العربي الحديث وتقديم مجموعته (دومه ودحامد) الطبعة الرابعة دار العودة -بيروت 1980م تجربته التي يذهب من خلالها إلى عمق المجتمع السوداني حيث يبحث في أصغر مفردته عن المعاني والأحداث التي تربط الناس بمصائرهم ففي قصة ( نخلة على الجدول) يقدم صورة عن العلاقة بين نخلة هي أخر ما يملك الشيخ محجوب بعد أن ذهب القحط والجفاف بكل ما كان يملك من ثروة حيوانية وزراعية ولم تبق له هذه النخلة بقايا من ارتباط الأمس مع الأرض والنخلة في القصة ليست هي مجرد حفنة مال بل هي روح الانتماء إلى المكان وبيعها للتاجر حسين هي عملته لجذور هذا الفلاح مع أصله والمساومة على الثمن لاتخلق إلى مزيداً من الاصرار على التمسك بها تبدأ القصة بهذه الجملة ( يفتح الله) هذا مايقوله الشيخ محجوب صاحب النخلة أما التاجر يظل يقدم العرض ( عشرون جنيها ) يحل ماعليه من دين وغدا العيد والأسرة تنتظر اللحم والملابس الجديدة . حول هذا القصة يقول محي الدين صبحي ( ففي قصته نخله على الجدول نجد تاجراً من البورجوزية الوسطى يساوم فلاحاً على نخلة له اضطرته الظروف إلى بيعها . وخلال المساومة تتداعى إلى ذهن الفلاح ذكريات حية عن حياته التي ارتبطت بهذه النخلة حتى غدت رمزاً وعلماً عليها : بحيث أن اضطراره إلى بيعها تسليم بهزيمته في معركته مع الحياة لقد أقبل العيد الاضحى وليس لديه ثوب نظيف يخرج به إلى الصلاة وليس عند زوجته غير ثوب زواق اشتراه لها قبل شهرين نال منه البلى وتراكمت عليه الاوساخ أما أبنته خديجه فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من أجل ثوب جديد تعرضه على لداتها وتعيد به مع صاحباتها ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري به خروفاً يضحي به ) في قصة (دومة ود حامد) تكون المواجهة بين ماضي الذات الأمية وبين المشروع الزراعية والمحطة الجديدة فهي الفئة من الشعب التي ترفض هذا الجديد القادم لقد كان مقرراً قطع هذه الدومة ولكن رفض الناس لهذا العمل موقعها في نفسهم مع ارتباطها بعدة كرامات لذلك كان هذا الاتصال بين هذا الدومة وأهل القرية الذين رفضوا التحديث وتكسكوا بالأرث القديم . يقول محي الدين صبحي ( أن دومة ودحامد أصبحت رمزاً ليقطة الشعب!! هنا تبلغ السخرية قمتها على قلم هذا الكاتب : هل يعد رفض المحطة والمشروع الزراعي رمزاً ليقظه الشعب! لكن الديماغوجيه لاتعرف حدوداً والفئات المتطلعة إلى الحكم تضحي بمصالح الشعب على مذبح شراهتها وكما يحدث في كل مأساة ملهاة يكون الظرفان دائماً على حق الشعب الذي يرفض أن تمس معتقداته محق في الدفاع عنها . والحكومة التي ترغب في التطوير محقة في فرض مشروعاتها ولو بالقوة فما هو المخرج من هذه الحلقة المفرغة التي لا تلائم غير الانتهاز بين ) . الطيب صالح (2009-1929م) يظل بعد رحيله ظاهرة أدبية متميزة في تاريخ الأدب العربي والعالمي وقدرة ابداعية لا تسقط من الذاكرة على مر الاجيال. المراجع :-1- الطيب صالح عبقري الرواية العربية : مجموعة كتاب - دار العودة بيروت الطبقة الأولى عام 1976م. 2- الطيب صالح في منظور النقد البينوي الدكتور يوسف نور عوض مكتبة العلم جدة 1983م.