كنت في غاية الدهشة وأنا أقرأ مقالاً لأحد "الأكاديميين" الإسلاميين، يحصر فيه موقف الإسلام من مخالفيه بالموقف التكفيري البحت، انطلاقاً من أن الإسلام يكيف علاقته مع المخالفين له وفقاً لسياق "الغيرية الضدية" التي تكفر ماعداها من العقائد والديانات. ومصدر دهشتي أن هذه الرؤية، التي ضمَّنها ذلك "الأكاديمي" مقاله، تمثل بالنسبة له، على ما يبدو، مشروع حوار يتواصل بموجبه مع الآخر - الغربي تحديداً - بدليل أنه أعمل منطقه الثنائي (مسلم/كافر) عند حديثه - كما ذكر - مع أحد موظفي مؤسسة (راند) الأمريكان، حينما أراد أن يشرح له معنى الكفر في الإسلام، حيث سأله أولاً بقوله: هل تعتقد أن ديني صحيح بالنسبة لك؟ وعندما أجابه صاحبه بالنفي - وفقاً لما ذكره - عقَّب عليه بقوله: وأنا كذلك بالنسبة لدينك. عنذئذ، شرح لمحاوره كلمة "الكفر" في "الإسلام" بأنها تعني أن "الآخر لا يؤمن بما نعتقده". وبمعنى ضمني، أكد له أن كلاً منهما يجب أن يكفر صاحبه ليكون مطبقاً لتعاليم دينه!!.ولجلاء موقف الإسلام من مخالفيه الذي اختزلته التقليدية الماضوية في دائرة التكفير والتكفير المضاد، لا بين الإسلام وغيره من الأديان الأخرى فحسب. بل بين المذاهب الإسلامية نفسها، يجدر بنا أن نستعرض منهجية القرآن في تحديده لعلاقة الإسلام بالأديان الأخرى التي كانت متواجدة في محيطه الزمني وقت تنزله. ولما كان الإسلام في جوهره ثورة على الظلم والاستبداد والتحكم بمصائر الناس، ولما كان الشرك رأسَ الظلم كما قال تعالى عنه (إن الشرك لظلم عظيم)، فقد كانت رسالته، في مضمونها، دعوة إلى إحياء التوحيد الإبراهيمي القائم أساساً على تأسيس علاقة مباشرة بين العبد وبين ربه بإزالة الوسائط المصطنعة، سواءً أكانت من جنس الأصنام التي كان مشركوا العرب يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى - أو كانت أيديولوجيات (تصنم) البشر - كما كانت عليه الحال مع عقيدة التثليث المسيحية التي تبنتها الإمبراطورية الرومانية عندما تنصرت في الثلث الأول من القرن الثالث الميلادي. في موازاة رسالة الإسلام التوحيدية، جاءت ردة الفعل التي أبدتها الديانات الموجودة في المحيط الزمني للدعوة المحمدية على ثلاثة أضرب: - الضرب الأول منها: تلك التي حاربت الدعوة الجديدة (أيديولوجيا)، استشعاراً منها بخطرها على مصالحها الاقتصادية ممثلة بالموارد التي كانت تدرها ( مزارات) الأصنام في مكة وباقي أجزاء شبه الجزيرة العربية لمصلحة الملأ من قريش من جهة، وبالعوائد الضخمة من القرابين التي كان يجنيها القيمون على الكنائس المسيحية الرومانية من جهة أخرى، كما تمثلت أيضاً بالعوائد الربوية الكبيرة التي كان يجنيها المرابون اليهود خاصة، والذين سيحاربون الدعوة المحمدية عندما تنتقل فيما بعد إلى المدينة. وتنحصر هذه العقائد - تقربياً - في مشركي العرب والمسيحيين من أتباع عقيدة التثليث واليهود فيما بعد بالمدينة. - الضرب الثاني منها: تلك التي كانت متقاطعة مع أدبيات الدعوة المحمدية، لأنها وجدتها دعوة لنفس ما كانت تدعو إليه من وحدانية الله، وتمثلت هذه بالمذاهب المسيحية التي رفضت عقيدة التلثيث، والتي زُندِقت وهُرطِقت من قبل المجمعات المسكونية الرومانية التي أقرت تلك العقيدة، ويأتي على رأس تلك المذاهب التوحيدية، المذهب الأريوسي الذي أسسه القسيس (آريوس). كما تمثلت أيضاً بالحنفاء الأوائل الذين نأوا بأنفسهم منذ البداية عن عبادة الأصنام. - في حين كان الضرب الثالث منها حيادياً تجاه مسيرة الدعوة المحمدية، كما كان الحال مع الصابئة. والسؤال هنا: هل (كفَّر) الإسلام كل تلك الأديان؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا معرفة الأصل اللغوي لمصطلح التكفير، حيث أن القرآن نزل وفقاً لمعهود العرب اللغوي والحضاري، ولا يمكن فهم نصوصه إلا من خلال الرجوع إلى ذلك المعهود. فمعنى (الكفر) في اللغة العربية (الستر والإخفاء)، ولذلك أُطلِق لقب الكافر على الزارع الذي يخفي البذور في الأرض كما في قوله تعالى (كمثل غيث أعجب الكفار نباته)، قال القرطبي في تفسيره: الكفار هنا: الزُرَّاع لأنهن يغطون البذور. كما أطلق على الليل الذي يخفي كل شيء بظلمته كما في قول لبيد (في ليلة كَفَرَ النجومَ غمامُها) .ومن هنا فقد جاء موقف الإسلام من الأديان المزامنة له مختلفا، وفقاً لمدى (إخفائها) حقيقة التوحيد من عدمه. وهذا الإخفاء لا يكون بعدم اتباع رسالته كما يتوهم البعض، بل يكون بحربها والتضييق على أتباعها بالوسائل المختلفة. فبالنسبة للشرك والمشركين، فقد تحدد موقف الإسلام منهم بقوله تعالى (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) وبقوله تعالى أيضاً (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها). وبالنسبة لعقيدة التثليث الشركية، فقد حدد موقفه منها بقوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) وبقوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وكفرهم هنا يعني إخفاءهم حقيقة بشرية المسيح، مما يجعل التكفير منصباً أساساً على القسس والرهبان الذين يعرفون حقيقة المسيح، ولا يتعداهم إلى العامة المُلبَّس عليهم. أما موقف الإسلام من اليهود، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبرهم، عندما انتقل إلى المدينة، من ضمن رعايا دولته، وذلك بأن آخى بينهم وبين المسلمين من خلال عقد صحيفة المدينة التي ضمنت لهم حقوقهم بالمساواة مع المسلمين. وفوق ذلك أشارت إليهم الصحيفة بلقب ديني محبب إليهم (يهود) ولم تعتبرهم الصحيفة كفاراً رغم بقائهم على دينهم. إلا أن الأمر اختلف عندما انبرت طوائف منهم لحرب الإسلام ومظاهرة مشركي قريش عليه وإخفائهم حقيقة الإسلام ونبيه اللذين يجدونهما مكتوبين عندهم في التوراة، حيث نزل قرآن المدينة بتكفير المعتدين منهم فقط، من جنس قوله تعالى (إن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) وقوله تعالى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين). أما من لم يحارب الإسلام، سواءً من الكتابيين الموحدين أو من أتباع العقائد الأخرى، فلم يرمهم الإسلام بالكفر على الرغم من بقائهم على دينهم، بل اعتبرهم من ضمن الفرق الناجية. يؤكد ذلك قوله تعالى في حق المذاهب المسيحية التي رفضت عقيدة التثليث (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) وكذلك قوله تعالى في حق الكتابيين عموماً ممن بقوا على دينهم ولم يحاربوا الإسلام، كما بقية الطوائف الأخرى التي بقيت على الحياد من رسالة الإسلام (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون). ومما يدل على أن القرآن لا يضع مخالفيه كلهم في خانة واحدة، أنه استخدم (مِن) التبعيضية عند حديثه عن أهل الكتاب، كما في قوله تعالى (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم) ومفهوم المخالفة هنا أن من أهل الكتاب من ليس بكافر، يؤيد ذلك أنه عطف المشركين كلهم على من كفر من أهل الكتاب ولم يستخدم في حقهم (من التبعيضية). كما يؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون). وربما يقول قائل: إن من أثنى عليهم القرآن، سواءً من أهل الكتاب أو من أتباع العقائد الأخرى، قد دخلوا مسبقاً في الإسلام. وأنا أقول: لو كان الأمر كذلك، لما نعتهم بالنصارى أو بالذين هادوا أو بالصابئين، ولسماهم مسلمين. والإسلام مضمون ديني يتسع في القرآن ليشمل الديانات السماوية التي تنتمي إلى دين إبراهيم كما في قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام)، وكذلك (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)، فالمقصود بالإسلام هنا هو دين إبراهيم، دين التوحيد، في مقابل الشرك. وهذا الإسلام - على خلاف ما يريده المتشددون والمتنطعون - لا يكفر مخالفيه لمجرد عدم اتباعهم رسالته، بل يكفَّر منهم فقط من يحول بين الناس وبين ممارستهم لحرية العقيدة التي كفلها لهم. ولم يلتبس الأمر إلا عندما اخترع الفقهاء مصطلح "دار الحرب" في مقابل مصطلح "دار الإسلام" زمن الفتوحات. فأصبحت دار الحرب تعني حينها كافة المجتمعات والدول التي لا تنضوي تحت لواء الدولة الإسلامية التي تمثل بدورها دار الإسلام، مما سمح بتعدية مصطلح " الكفر" لاحقاً ليكون وصفاً لكل من لا يدين بالإسلام. [c1]عن / جريدة "الرياض" السعودية [/c]
الآخر في ميزان الإسلام
أخبار متعلقة