نجمي عبدالمجيدالصحفي الساخر والكاتب المبدع محمود السعدني، ظاهرة قلما تتكرر في عالم الصحافة ودنيا القلم والكتابة من خلال هذه الرحلة الطويلة ومفارقاتها وصراعاتها والغوص إلى قاع المجتمع حيث العامة من الناس وهموم الحياة والجري وراء أبسط متطلبات الحياة، ومن ثم الصعود إلى قمة النجاح والمجد والشهرة، وبعد ذلك سنوات الاغتراب والرحيل، وأشواك السياسة التي تجرح الفكر وتدمي القلم.ادخل الكثير من المفردات العامية على الأسلوب الصحفي، وأصبحت تحمل عدة معانٍ، إنها كلمات بلون الناس، بحجم الأحلام الطائرة والانكسار المرعب، قال عنه الناقد الراحل رجاء النقاش.(هناك كثيرون من الكتاب والأدباء يعيشون حياتهم العادية، ثم عندما يريدون أن يكتبوا فإنهم ينفصلون عن الحياة ويعتكفون من أجل الكتابة .. ومحمود السعدني لا يفعل ذلك ابداً.إنه يكتب وهو يعيش فليس أدبه نابعاً من الحياة كما يقال .. أنه الحياة نفسها تلك الحياة التي عاشها السعدني واكتوى بنارها ولم يعرف الهدوء والعزلة أو الأبواب المغلقة والنوافذ المسدودة، فالحياة عند السعدني لأ فرق فيها بين البيت والغيط أو بين العمل والعلاقات الإنسانية المختلفة .. وهذه الحياة تشبه النهر المتدفق، فهي الماء والطمي والأعشاب والأسماك والحصى.السعدني يكتب وهو غارق في حياته، إن يكتب ويعيش في اللحظة نفسها والكتابة والحياة عنده لهما المعنى نفسه، فارتباط الكتابة بالحياة ظاهرة أساسية في كتابة السعدني تليها ظاهرة ثانية .. لقد أمسك الفقر برقاب الكثيرين من الشخصيات التي كتب عنها محمود السعدني هؤلاء الذين يعيشون على هامش المجتمع .. هذا الفقر تحول في كتابات السعدني إلى نوع من الأدب الغنائي الجميل.ترك الصحفي الراحل محمود السعدني مؤلفات عديدة تنوعت مابين المسرحيات والقصص والروايات والدراسات الأدبية وأدب الرحلات والمقالات الصحفية والكتابات السياسية والسيرة الذاتية، ونذكر من أعماله (مذكرات الولد الشقي)، (السماء السوداء) ، (حمار من الشرق)، (الموكوس في بلاد الفلوس)، (الجزائر أرض اللهب) ، (حتى يعود القمر)، (مسافر بلا متاع) ، (على الرصيف)، (بلاد تشيل وبلاد تحط)، وغيرها من الكتابات التي جعلت من أسلوبه الصحفي ظاهرة متميزة في عالم الصحافة وجعلته صاحب مدرسة تعرف من مفرداتها، فالقاموس عنده هو لغة الناس، وربما نكتة سياسية ساخرة من مواطن غلبان، تكون لها قوة انفجار أقوى من قنابل الجيوش، وذلك ما أدركه محمود السعدني، عامية الناس لا تعني لغة من سقطوا من ذاكرة الحياة ولكنها معانٍ تصنعها المرارة والقهر واحتراق النفس، أنها محاولات الخروج من تحت الرماد، محاولة جعل التجربة بداية مواجهة وليست نهاية للمشوار ، وعن الأخطاء والتجارب يقول محمود السعدني في مقدمة كتابه الرائع مذكرات الولد الشقي : (الأخطاء تصبح معالم على الطريق إذا استطاع المرء أن يستفيد منها ويحولها الى تجارب ! ولكنها تصبح مجرد أخطاء فقط إذا مرت بالمرء ثم مرت عليه، وقد تتحول في النهاية الى خطايا، فيذهب من أجلها إلى (اللومان) وقد يتشعلق بسببها في حبل المشنقة.والذي يساعده الحظ فينجو رغم أخطائه من (اللومان) ومن المشنقة يصبح مجرد حيوان ليس له غد ولم يكن له أمس).تلك هي الرؤية التي ينطلق منها محمود السعدني، التجربة لا تعني فقط فردية الحدث. لكنها التواصل مع الغير فالفرد عنده دون الغير حالة مقطوعة وخارج دائرة الحياة. والإنسان بنظره هو من الجماعة وبهم تكتمل مسارات حياته، أما الابتعاد عن الناس فلا يعطي لتجربة الفرد قيمتها الموضوعية، وهذا الشيء ما أدركه بحسه الإنساني وجعله نهجاً لحياته مع الكلمة، فالحياة مدرسة للمعارف وللناس ، والكاتب المقتدر هو من يمتلك القدرة على جعل مشاكل العامة قضايا إنسانية تعلم الآخر أن أبسط هموم الناس قد تصبح قضايا كبرى لو وجدت القلم الذي يكتب عنها بصدق وإحساس ، وهذه الخاصية أوجدت له قراء في كل مكان من العالم تعرف به اللغة العربية.محمود السعدني الكاتب الرحالة والسائح في بلاد الله، الحامل لهموم الانسان العربي، ماذا قال عن العرب في امريكا.يتكلم واليأس يعصر روحه من وضع العرب في المهجر قائلا: (كلما رأيت عرباً في الخارج اجتاحني السرور، كلما ناقشتهم ركبني الهم، فنحن في الواقع لا نخرج من بلادنا ونعيش في الخارج ولكننا نهاجر إلى الخارج ونعيش في بلادنا. نطبخ طعامنا الذي تعودنا عليه ونبحث عن الدخان الذي أعتدنا تدخينه ونتحدث في نفس المواضيع التي كنا بدأناها في بلادنا ولم نحسم النقاش فيها بعد، ونحن لا نذهب إلى الخارج كعرب ولكننا نخرج كقبائل وعشائر ونستأنف الحرب التي كنا قد بدأناها في أرضنا. وإذا لعبنا في الخارج لا نلعب كفريق ، ولكنا نلعب كشعب ونحارب من خنادق مختلفة ومتنازعة ونطلق من خطوطنا على خطوطنا، ولذلك نخسر الحرب دائماَ لأننا نتقابل في الساحة كفرق مختلفة بينما يحتشد أعداؤنا كفرقة واحدة، ونصطف نحن تحت راية واحدة ونتكلم بمائة لسان ويتكلم أعداؤنا بلسان واحدة، وكل منا يعرض قضية العرب من وجهة نظره، ويستعرض الأمور بمفهومه الخاص، ولذلك يشك كثير من الناس في الخارج إننا بالفعل امة واحدة فكل منا على حق وبقية العرب على باطل، وكل منا بطل والآخرون جميعاً خونة وكل منا في جيبه مفتاح حل القضايا بينما الآخرون يعرقلون الحل ويقفون عقبة في طريق الخلاص من المشاكل كلها، وكل منا في يده حل القضية بينما الباقون يسترزقون من بيع القضية ويتاجرون بها .. وفي إسرائيل حزب ومائة جماعة دينية ومائة مذهب ومائة ألف زعيم ولكنهم إسرائيليون جميعاً في الخارج ولهم وجهة نظر واحدة وهم ينفقون مائة إلف جنيه لتشويه العرب ويحققون نتائج باهرة، ونحن ننفق ملايين الجنيهات ولا نحقق أي نتائج على الإطلاق لأننا ننفق اغلبها في تشويه بعضنا البعض، وفي تسفيه آراء الذين يختلفون معنا.هي صورة من صور التمزق العاصفة بحال العرب في كل مكان ومحمود السعدني لم يتجاور حدود الأزمة بقدر ما نقلها لنا عادية مزعجة وحالة مرضية تعاني منها العروبة كلما تصاعدت حدة المواجهة بين العرب، في أمة ما كان لها أن تكون لولاء التوحيد، ولكنها دخلت في ثنائية التناحر والانقسامات إلى حد الهلاك.ومحمود السعدني الذي كانت بدايته مع الصحافة في عام 1946م لم يغفل هموم الأمة فمن مشاكل المواطن في الأحياء الشعبية الفقيرة إلى صراعات القوى السياسية إلى حوارات مع قادة الأحزاب والجيوش ورجال الدول، كل هذه الرحلات عبر دنيا الصحافة، وكانت أول المدارس الصحفية التي تركت أثرها عليه، مقالات محمد التابعي والصاوي وفرج جبران.وكم طالت رحلته مع عالم الصحافة لأكثر من نصف قرن، حتى السجن لم يترك السعدني في حاله وقد قال عن أسباب سجنه: (دخلت السجن ثلاث مرات. مرة كنت مع الحكومة ومرة ضد الحكومة ومرة لأنني كنت في حياة مع الحكومة) ومن هذه التجارب في عالم ما خلف الجدران يخرج لنا كتابه الرائع (الولد الشقي في السجن) ليقدم لنا صوراً مرعبة عن حال تلك الفئة من الناس التي غابت ذكراها عن الغير، عالم الشذوذ والقهر والتصالح مع الإهانة لكنه الولد الشقي في دنيا الصحافة يطلق كلماته مثل الرصاص ويقول: (الفرق بين الحكومة والعكومة ، الحكومة هي التي تزيح كل العقبات من طريق المواطنين والحكومة هي التي تسد الطريق وتحكم الحصار وتضيق الخناق على المواطنين وكم في شرقنا السعيد من عكومات من الوزن الثقيل!ولم تقف تجربة محمود السعدني في عالم الصحافة عند مساحة الوطن (مصر) ولكنه طاف عدة دول في العالم فقد كان لا يحب الوقوف على أرض واحدة، فالعالم مشاهدات وشعوب وتجارب، تعلم الإنسان الكثير ومن خلال نظرة واحدة قد ترى أشياء لم تجدها في عدة كتب.لذلك كان السفر عنده بحثاً في ذات الشعوب قبل أن يكون مجرد مناظر تسحر العين، وعن لذة السفر يقول: (العبد لله سفري وهوايتي القفز من مكان إلى مكان، وأعشق الصياعة ولا أجد فرقاً بين الصياعة والسياحة وأرى لذة العيش في التنقل حتى ولو كان التنقل بدون فلوس ولا شيكات، وحتى لو كان النوم على الرصيف، والأكل في المطاعم الشعبية)، هذا هو السفر عند محمود السعدني رحلة إلى روح المكان حيث العامة من الناس، البحث عن الجديد مع الناس، وربما نام ليلة في الشارع خرج منها بعدة مواضيع للكتابة، فالشارع بالنسبة له ليس مجرد طريق يمر به الفرد، ولكنه أحداث وحكايات ولا يدركها غير القلم الصحفي والمبدع.وعندما اختار عنوان كتابة (بلاد تشيل وبلاد تحط) لم يكن يقدم لنا غير صورة عنه علاقته بالسفر، حالة لا تعرف الاستقرار ولا الركود ولابد من البحث عن الآخر والخروج من هنا والرحيل إلى هناك وحتى هناك لا يكون المستقر النهائي طالما العالم بوابة مفتوحة نحو العبور.وفي كل مكان يصل إليه محمود السعدني يحاول البحث عن الإنسان العربي، عن بقايا التاريخ والمجد الماضي ولكنه كثيراً ما يجد الخراب والرماد وحياة ابتلعتها دوامات التناحر والسخافات التي حولت ماضيه العظيم إلى كومة حطب مركونة خلف الدار، وعن هذا يقول (مصيبة العرب الكبرى أن لديهم الإمكانات لتحقيق الأمجاد نفسها التي حققها أسلافهم ولكنهم بدلاً من الغزوات في سبيل الله، راحوا يغزون في سبيل المتعة، وتحولت القادسية إلى فريق لكرة القدم ! ومرج دابق وقع في اسر اليهود ! وصلاح الدين أصبح محلاً لبيع أجهزة التليفزيون في القاهرة!والظاهر بيبرس لم يعد احد يذكره الا شاعر الربابة وقادة بعض البلاد مشغولون الآن بإقامة الحد على الفقراء من المسلمين، ومتفرغون بعد ذلك للصلاة في أندية لندن والصيام في مواخير باريس كأنما حدود الله من نصيب الفقراء، أما الأغنياء فهم بالطبع أحباب الله).لقد رحل محمود السعدني عن الحياة وخسرت الصحافة برحيله مدرسة علمت العامة أن معاني الكلمات تخلقها تجارب الشعوب، وتفسرها المعاناة، لذلك تكون الصحافة أكبر جامعة للأمم.
|
ثقافة
الصحفي الساخر محمود السعدني أدخل كلمات بلون الناس وبحجم الإحلام الطائرة والإنكسار المرعب
أخبار متعلقة