الأمر الآن جد، وما فيه هزل، ومع اقتراب الانتخابات التشريعية فإن وضع القوى السياسية المختلفة تحت مجهر الفحص والتقييم هو واجب وطني من الطراز الأول.وكم يدهشني كثيراً أن وسائل الإعلام المتعددة تكاد لا تجد إلا الحزب الوطني الديمقراطي لكي لا تترك له لا شاردة ولا واردة إلا ويتم البحث عن أصولها وفروعها، والتركيز على كل ما يجرحها، أو يجد فيها مثالب متنوعة. ومثل ذلك وارد ومشروع، بل هو واجب في كل الأحوال، وكثيراً ما كان الحزب في السلطة فإن سياساته وسياسته- وهناك فارق بينهما- تظل دوما مغرية بالاقتراب والنقد والهجوم إذا لزم الأمر. وكثيراً ماكان لدى الحزب سياساته للتعليم، وأخرى للصحة، والتنمية العمرانية، ومحاربة الفقر، والسعي نحو العدالة الاجتماعية، والتعامل مع القضايا الخارجية المختلفة، بالإضافة إلى التعامل مع القوى والمؤسسات السياسية في البلاد وخارجها، فإن يصبح داخل دائرة الضوء الساطعة نقداً وهجاء. ولكن هذا الأمر لا يستقيم مالم يتم وضعه في مواجهة المقابل له في الساحة السياسية، وما تطرحه قوى في اليمين واليسار من آراء ورؤى للتعامل مع مشاكل المجتمع وقضاياه الكثيرة والمعقدة. وتكاد تكون المسألة مدهشة، عندما تعطي جميع وسائل الإعلام شهادة البراءة لقوى سياسية مهمة فقط لأنها في المعارضة، ناسين أن الديمقراطية التي يطالبون بها، ويسعون إليها، ويلحون على تبادل السلطة فيها، لاتستقيم مالم يكن هناك البديل الحقيقي للحزب الوطني وسياساته.مناسبة هذا الحديث هي ما قاله الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان ـ خلال حفل الإفطار السنوي الذي أقيم في شهر رمضان بمدينة طنطا يوم27 أغسطس الماضي ـ إن الجماعة ستتمسك بشعار الإسلام هو الحل بعد أن فشلت الحكومة في تقديم البديل وقادت البلاد إلى الفساد والخراب، وجربت جميع الأنظمة من اشتراكية إلى رأسمالية ، والآن تمارس النظام الفوضوي بلا رؤية محددة أو واضحة. وبعيدا عن الاستنتاج الذي توصل له المرشد عن خراب دولة يوجد في بنوكها ما يقترب من900 مليار جنيه، ولديها من الاحتياطي العام في بنكها المركزي قرابة35 مليار دولار، ويحتفظ فقراؤها في دفاتر توفير البريد بما يتجاوز68 مليار جنيه . وبعيدا أيضا عن قياس درجة الفساد في مصر وكيفية معالجته، فإن الخطاب كله قام على فرية تاريخية وهو أنه قد تم تجريب النظام الرأسمالي وفشل، والنظام الاشتراكي وفشل أيضا، وآن الأوان لتجربة النظام الإسلامي، بالطبع وفقا لصيغته الإخوانية التي تحمل من السماء ماء طهورا يكفي لتنظيف المجتمع والحكومة من النجاسة، أو هكذا قال المرشد دون أن تطرف له عين وبصراحة يحسد عليها حين قال إن الجماعة في ثوبها الراهن لا ترى في المسلمين المصريين إلا جماعة ملوثة بالنجاسة حارما إياهم من الطهارة والعفاف.ولكن ذلك ليس موضوعنا الرئيسي اليوم، فموضوعنا هو البحث في المقولة الرئيسية للمرشد العام حول النظم الاقتصادية والاجتماعية التي جرى تجريبها لدينا ولدى غيرنا وفشلت بينما يوجد لديه الحل، وهي المقولة التي قامت علي نوعين من الكذب أولهما صريح حيث إن النظام الإسلامي تمت تجربته قديما وحديثا، ولكن الجماعة لم تجد أبدا الشجاعة لتقييمه وبحث أمره، وثانيهما أقل صراحة وأكثر تعقيدا حيث يشير بالفعل إلى العديد من المشكلات والمعضلات التي قابلتها تلك الأنظمة البشرية أو الوضعية، ولكن دون الإشارة إلى حقيقة أنها نتيجة بشريتها ووضعيتها فهي قابلة للإصلاح والتغيير والتبديل، أما الأنظمة الدينية في عمومها فإنها نتيجة تصورها الخاطئ أنها تحكم باسم الله وتنفذ إرادة الله في الأرض، فإنها تقف عاجزة ـ كما سنرى ـ عن التغيير والتبديل والتكيف مع الظروف والمستجدات. وفيما عدا ماليزيا وتركيا اللتين جرى التطور فيهما أخيرا على قاعدة علمانية وديمقراطية، فإن السجل الذي قدمته التجربة الإسلامية كان مخيفا في نتائجه وفقا لأي معايير للقياس والتقييم، ولكنه لم يوضع أبدا تحت مبضع الجراح السياسي سواء من قبل الإخوان أو حتى من غيرهم.وكان ذلك هو ما جرى منذ قيام دولة الخلافة الأولى حتى آخر صيغ الخلافة الإسلامية حيث تم تطبيق النظام الإسلامي بحذافيره التي يراها الإخوان، ولكن النتيجة ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حينما أصبحت الخلافة العثمانية تعاني من التخلف، والعجز عن اللحاق بالحضارة الغربية، ومن ثم كانت النتيجة الطبيعية هي تساقط ولايات دولة الخلافة الواحدة بعد الأخرى تحت أقدام المستعمر بأنواعه المختلفة. والمدهش أكثر أن قليلا من الانتباه قد جرى لما حدث للشعب المصري خلال هذه التجربة، الذي فيما عدا فترات قليلة إبان الخلافة أو الحقبة الفاطمية وحكم المماليك، فإن الحكم وإدارة الاقتصاد والمجتمع كانت مروعة إلى الدرجة التي انتشر فيها الفساد والاستبداد والمؤامرات والانقلابات والثوارات الداخلية نتيجة غياب الشورى وظهور الحكم الملكي الوراثي، الأمر الذي أدى إلى تراجع الدور الحضاري للمسلمين وتناقص عدد سكان الشعب المصري وشعوب اسلامية أخرى باستمرار نتيجة الاستبداد والفساد والمجاعة والأوبئة في ظل حكم محسوب على نظام الخلافة الاسلامية.مثل ذلك لم يتعرض له الإخوان قط في مداولاتهم وأطروحاتهم لأن مصر قليلا ما ترد في أدب البحث والتمحيص لدى الإخوان، اللهم إلا في إطار التعريض بالوطن والمجتمع وبالطبع الحكومة. ولكن الأخطر من التاريخ والماضي هو الحاضر وما جرى ويجري فيه، فتكاد الجماعة تغض النظر تماما عن حكمها للسودان منذ عام1989 حتي الآن وما تسبب فيه حكمها من تقسيم البلاد، وتراجعها الاقتصادي، وعزلتها الدولية، وحروبها الأهلية في غرب وشرق وجنوب البلاد. فلماذا هذا الصمت المدوي على ما جرى في هذا البلد الشقيق والمعضلة أن هذا الصمت قد يكون مفهوما من جانب الجماعة والمرشد، حتى مفهوما من المعتدلين في جماعة الإخوان الذين قبل إزاحة معظمهم كانوا يصدعون أدمغتنا بالقدرات التقدمية للتجربة الإسلامية، وما فيها من نزعات ديمقراطية مؤكدة، مع إشارات يقينية إلى الطريق التركي في الجمع ما بين القومية العلمانية والهوية الإسلامية، ولكن ما هو ليس مفهوما بالمرة أن تصمت تماما كل هذه البرامج الفضائية التي تشرح الحكومة والحزب الوطني الديمقراطي صباح مساء دون نظرة واحدة لما جرى في هذه التجربة التي يقولون عنها إنها كانت العصور الذهبية للحضارة.ولكن ربما كان السودان حالة خاصة، وكانت الحرب الأهلية السودانية الأخيرة بعد تطبيق الشريعة الإسلامية ـ كما رآها الرئيس جعفر نميري ـ لم تترك مجالا لإصلاح، أو أن تجربة الإخوان جرت على أرضية من حروب أهلية سابقة، ومع ذلك فإن التطبيقات الإخوانية التي تنافس التجارب الاشتراكية والرأسمالية تم تطبيقها كليا أو جزئيا في أفغانستان وإيران وباكستان وغزة والصومال، وحتى وقت قريب سيطرت الجماعات الإخوانية المختلفة على النظام التعليمي في اليمن ودول الخليج العربية، وكانت النتيجة المرعبة في كل هذه التجارب هي انتشار الأفكار المتطرفة والإرهاب وإعداد حملة الاحزمة الناسفة والانقسام والتفتيت للدولة بأشكال مختلفة ومتنوعة ووصولها لأشكال من الحرب الأهلية أو استخدام العنف ليس فقط ضد من لا ينتمي إلى هذه الجماعة المتطرفة أو تلك، وإنما داخل الجماعة نفسها بعد أن تنقسم إلى جماعات أكثر تطرفا وتشددا. وفي هذا السياق، لا تجد الجماعة الشجاعة للاعتراف بأخطائها فيما حدث، وإنما لديها المشجب الدائم المتمثل في المؤامرة الغربية والصهيونية لكي تتملص من مسئولياتها. وفي كل هذه التجارب لا نجد تقدما اقتصاديا أو اجتماعيا من أي نوع، وإنما سير مستمر على طريق التخلف الذي تظهره بجلاء التقارير الدولية التي يتم الاعتماد عليها هي ذاتها لإدانة الأوضاع في مصر دون مقارنات بين نوع ودرجة الإنجاز في كل تجربة. أما هؤلاء الذين تم ابتلاؤهم بالنظام التعليمي في الجماعة، فقد انتهى بهم الأمر بنظام للتعليم لا يخرج فقهاء ولا متخصصين في أي من مجالات الحياة، أو حتى مجالات الآخرة. وبالطبع لن نتحدث كثيرا عن النظام السياسي الذي جرى بناؤه استنادا إلى دولة ولاية الفقيه الوحيد الواحد لدى الشيعة، أو ولاية الفقهاء لدى الإخوان حينما تقع الدولة في يد جماعات الفتوى المختلفة.هذه ليست أحكاما متعجلة، وإنما تستند كلها إلي أرقام في النمو والتنمية والممارسات السياسية، وكل ما هو مطلوب أن تجري العدالة في التقييم بين كافة القوى السياسية بحيث تحصل كل منها علي نصيبها من الفحص والدراسة والمقارنة الصحيحة على نحو يضع أمام الرأي العام صور عادلة لقوى سياسية موجودة علي الأرض، وليست واقفة في السماء تستعد للهبوط على الأرض مع الماء الطهور لتخليص الناس من نجاستهم. أما الحديث عن الرأسمالية ودرجة انهيارها، فذلك يطول شرحه، وحاجتها إلي اتباع القواعد الإخوانية الاقتصادية فإن المعنى الوحيد لذلك هو أن جماعتنا لا تعرف شيئا عن الدنيا، ولا عن الذي جرى فيها خلال القرون القليلة الماضية حيث زاد عمر الإنسان وتواصل الناس وجرى اختراق الفضاء، وزادت المعرفة بالأديان والآداب والأخلاق والفنون، وتراكمت الثروة وتخلصت الأمم من العبودية والرق ومن أمراض وأوبئة ، حتي لم يحدث في التاريخ أن جرت إغاثة الإنسان لأخيه الإنسان وإنقاذه من الفاقة والمجاعة، كما حدث خلال القرون الماضية. وخلال العقود الماضية وحدها، ونتيجة انتشار النظام الرأسمالي في الصين والهند وحدهما خرج مئات الملايين من غياهب الفقر والفاقة والحاجات الإنسانية والأخلاقية والروحية إلى رحابة التقدم والمعرفة والاتصال الإنساني.ولكن مثل ذلك ربما لا يكون واجب الجماعة والمرشد وإنما مهمة أجهزة التعليم والإعلام التي عليها أن تعلم وترشد وتوضح وتطرح الأمثلة وتعرض التقارير الدولية لكي ترى الجماعة وغيرها العالم كما هو لا كما يجري التعرف عليه وسط تقاليد السمع والطاعة التي تجعل قوى سياسية فريسة أقوال لا يسندها واقع ولا حقيقة.[c1]* مفكر مصري[/c]
|
فكر
التجربة الإسلامية في الحكم
أخبار متعلقة