المفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري
نجمي عبدالمجيدفقدت الثقافة العربية والعالمية برحيل الباحث والمفكر الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري عقلية جبارة أسهمت في وضع العديد من الأسس لقراءة التراث والتاريخ العربي الإسلامي، وهو في هذا المجال يعد من الشخصيات الرائدة التي سعت لخلق رؤية جديدة في التعامل مع الأصالة والمعاصرة، والبحث في عمق العقل العربي منذ البدايات الأولى لعصر الجاهلية ومجتمع البداوة وعقلية التناحر القبلي حتى ظهور الإسلام ديناً يدعو إلى وحدة الأمة، وبداية الصعود العظيم لأمة الإسلام وتحول القبيلة إلى دولة والاتصال مع حضارات وشعوب، وتعرض هذا الارتقاء إلى هزات وصدام، والانسحاب من مساحة الأمة والتقوقع في زوايا الشعوبية وصولاً إلى سقوط تلك الحضارة وغروب شمسها.ما يطرحه الدكتور محمد عابد الجابري في مؤلفاته الكثيرة وبحوثه الهامة، النظر في حالة الحضارة الإسلامية، فهي بقدر ما قدمت للإنسانية من معارف .. لم تخل من ثنائية الانقسام والتناحر.تلك حالة لا ترسم حدودها عند إرث الماضي، بل هي استمرارية متواصلة حتى الحاضر، وكأن العقل العربي رفض كل إنجازات حضارته ولم يعد يملك غير إفراز حلقات من الأزمات والصراعات، وأصبحت نقاط وأسباب الصدام في تاريخه هي مرجعيته التي يعود إليها كلما أراد استدعاء تاريخه الماضي، أما المعرفة الإنسانية لتلك الحضارة فقد سحبت إلى خارج دائرة الاهتمام حتى وصلت إلى عدم الانسجام معها وخلق تصور بأن الحضارة الإسلامية هي قداسة بدون معرفة.يقول الدكتور محمد عابد الجابري: (إن البنية المعرفية الخاصة بالمرجعية التراثية، يجعلها (العرب) مفهوماً ينتمي إلى الماضي أكثر من انتمائه إلى حاضر الإسلام، في أي عصر من عصوره، تقدم الأمور بصورة توحي بأن مفهوم (المسلمين) قد حل محل مفهوم (العرب) قد تجاوزه واحتواه ليصبح وحده الحقيقة الحاضرة حضوراً ابدياً. ذلك أن (العرب) باعتناقهم الإسلام يكونون قد عادوا إلى أصلهم .. إلى جدهم إبراهيم الذي سماهم مسلمين.ليس هناك ما هو أكثر إثارة لسوء التفاهم وخلق المشاكل المزيفة من عدم تحديد المفاهيم، من عدم الاتفاق على قاموس موحد ومرجعية واحدة لغوية ومعرفية للخطاب وآلياته ومرتكزاته. نعم ليس من الممكن دائماًَ تحقيق حد أدنى من الوحدة على صعيد المرجعية الإيديولوجية، وهذا مفهوم ومقبول: فاختلاف المواقف على أساس الاعتبارات الأيديولوجية سيظل قائماً مادام هناك اختلاف في المصالح المادية والمعنوية الموروثة والمكتسبة غير انه عندما يضاف إلى الخلاف الايدولوجي اختلاف في المرجعيات المعرفية، الذي يؤدي إلى عدم اتجاه الفكر إلى شيء واحد محدد عند استعمال الكلمات فان التفاهم يصبح في هذه الحالة صعباً إن لم يكن مستحيلاً لان ما يحصل فعلاً هو أن النقاش يتحول إلى (حوار الصم)، إلى نقاش يكون فيه (المستمع) مشدوداً إلى ما يسمعه في داخله وليس إلى ما يقوله خصمه، ويكون فيه (المتكلم) يناجي نفسه حينما يتكلم).إن العقل العربي لا يقدم ثنائية الالتقاء مع الآخر، وذلك ناتج عن وصول أسس حضارته إلى مراحل من الأزمة التي تجعل من الفردية هي محور الكل، مع أن الحضارة الإسلامية حملت صفة العالمية وانطلقت نحو الحضارات الأخرى بطابع هويتها وتمازجت مع معارف الغير متجاوزة ما أنتجه الغير إلى رحاب أوسع، وبكل ما قدمت ظلت روحها الإسلامية هي المنبع الأول فكانت الفلسفات والعلوم والفنون والآداب والتاريخ واللغات، تجعل من المصدر الإسلامي، هو الفكر الموجه للعقل والحضارة لذلك كان تكوين الحضارة الإسلامية تكويناً معرفياً واسعاً لا يجعل من اختلال الأمور حالة رفض وعداء بل يحاور كل المستويات والأفكار وينتصر للحق والعدل ويجعل من معارف الأمم سبلاً لإصلاحها من خلال الإسلام.ولكن ما تعرضت له الحضارة الإسلامية من هزات وصراعات ومحاولات لتقييم أمة التوحيد، قد أنتج حالات من الصراع مع الذات والآخر، وحول قاعدة الحوار إلى ساحة صراح وذلك من العوامل التي ساعدت على الانغلاق ورفض صوت الغير واحتساب كل لصالح (الأنا) وكأن العالم لم يفرز غير فردية نحن وعليها تبدأ مشاريع التقاطع والصدام، وذلك ما قاد الحضارة الإسلامية إلى دوامة عصر السقوط، وسقط ركام رمادها على إرت العقل الإسلامي لتحدث القطيعة بين المعرفة والعقل، وهذا ما بحث فيه طويلاً الدكتور محمد عابد الجابري، كيف يصبح هذا العقل الذي قاد المعارف وصنع الحضارة، هو ذاته الذي يرفض حوار الآخر ومعارفه ؟؟إنها الحضارة عندما تكون الأمم صاحبة هيبة حضارية ولها مشروعها، تصبح الأقدار في خلق مستويات التوازن، ولكن حين يذهب مجدها وتزول مكانتها تصبح عرضة لأمراضها وأزمتها، فلا تجد من حماية لها الا بالعودة، لذاتها وربما إلى البدايات الأولى حيث جاهليتها ومنبع تناحرها، فيكون صدامها مع نفسها والغير.وتلك حالة عانت منها معظم الشعوب والحضارات عند فترات وحقب السقوط وذهاب المجد، لذلك تصبح مرجعية العقل هي رغبة الذات وليس تجارب المعرفة، وغالباً ما تقوم النزعة الدانية على مبدأ الصدام وتمتد على مسافات من الأزمنة حتى تصبح هي التراث السابق للحضارة بل من مراجعة في تفسير أمور إعادة فرض هيبة حضارة الماضي على الحاضر، وبذلك يصبح أمام الفرد تاريخ القطيعة والحروب والفتن هو مصدر التشريع الأوحد للأمة أما مجدها العلمي فقد يصبح من المحرمات أو بقايا اجتهادات فردية لا إنتاج عقل حضارة، ومن هنا تدخل الشعوب في غيبوبة مع التاريخ وفي حالة إفراغ من موروثها وحق الانتماء له.تعددت القضايا والأفكار التي ناقشها وطرحها الدكتور محمد عابد الجابري في أعماله الفكرية والتي فتحت في حقول الدراسات العربية منافذ جديدة، في قراءة تراث الحضارة الإسلامية العظيم، فكانت دراسته عن أبن خلدون سيرة وتاريخ من المؤلفات التي عززت العودة إلى تراث هذا العلم الخالد ودوره في الثقافة العالمية وأهمية منهجه في علم العمران ونهوض الأمم وزوال الحضاراتكذلك قدم دراسته عن الفيلسوف ابن رشد، تلك العقلية الإسلامية الكبرى التي سارت أوربا على أفكاره قروناً من الزمن وأصبح من أعمدة النهضة في تلك القارة.وإذا كان الغرب هو من اكتشف واستفاد من تراث الحضارة الإسلامية، وذهب العقل العربي إلى خارج هذا التراث فكيف السبيل إلى عودة العقل العربي إلى هذا الحق التاريخي، وهل من سبل لإعادة إحياء هذا المطلب الموضوعي؟إن الباحث يرى بأن فترات القطيعة مع التراث قد ساعدت إلى حد كبير في تغييب دوره في قيادة التاريخ ومع غياب هذا الدور فقدت ملامح الهوية الحضارية للعقل في الحضارة الإسلامية، وتلك أزمة ظلت قائمة حتى اليوم. فالعقل الذي لا ينتج المعرفة لا يصنع مصيره. فهو إما مرهون مع الماضي إلى حد تقزيم مكانته وإرادته وإما يجد في الحاضر الخصم الذي يجب أن يحارب، وبين ثنائية الحق والباطل تشتد الأزمات وتتصاعد نيران الحروب، وهذه الأوضاع لا تعيد مجد الماضي بقدر ما تكون عوامل تدمير للذات قبل الآخر، وغالباً ما تقوم على القفزات الفكرية وبعدها الانكسار الفكري.وعن الراهن وأزمة النخبة في الوطن العربي وعلاقة الديمقراطية بالعامة من الناس يقول الدكتور محمد عابد الجابري: (والثغرة الخطيرة التي تعاني منها (النخبة العصرية) في كثير من البلدان العربية، إن لم يكن في كلها، هي غياب العلاقة العضوية بينها وبين جماهير الشعب، غيابها في كافة الميادين السياسية والاجتماعية وايضاً، ولم لا غيابها في الميادين الروحية الدينية والثقافة بالمعنى الواسع للكلمة. وإذن فعندما نقول (الجميع) يطالب بالديمقراطية فإن كلمة (الجميع) هنا مضللة، لأنها ليست (الجميع) بالفعل، بل (الجميع) بالقوة والإمكان فقط.لا جدال في أن شعار (الديمقراطية) هو أكثر الشعارات الرائجة اليوم في ساحة (المطالب الشعبية) في الوطن العربي، إنها المطلب الذي يحظى اليوم بـ (الإجماع) في كافة الأقطار العربية: فالكل يطالب بها وينادي بضرورتها، وحتى أولئك الذين لا يتحمسون للمطالبة بها اولاً ينتظرون خيراً كثيراً من نتائجها تراهم يساهمون في الإشادة بها او على الأقل يسكنون ويحجمون عن إبداء رأي مخالف. وإذا أنت سألت عما يقصده الرأي العام العربي بـ (الديمقراطية) اليوم جاء الجواب على صورة قائمة من المطالب السياسية على رأسها حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الانتماء السياسي وحرية تشكيل الأحزاب وحرية الانتخاب .. الخ. وبكلمة قصيرة أن المطلوب اليوم هو نفس ما كان يوصف قبل عقدين من السنين، وفي الساحة العربية عينها، بـ (الديمقراطية البورجوازية) هذه الديمقراطية التي كانت، في جل البلدان العربية خلال الستينيات، موضوعاً للنقد والتشهير، بل للهجاء والسب.لا تقف رؤية الدكتور محمد عابد الجابري في قراءة التاريخ عند حدود الماضي ـ التراث ـ بل يرى في الحاضر ونخب مجتمعاته معاناة وأزمة في الراهن ، فشعارات العدل والديمقراطية والمواطنة المتساوية مازالت مجرد حوارات عزلتها النخبة المثقفة في اطارات محددة بعيدة عن فهم واحتياجات العامة. وهذا ناتج عن بعد النخبة الثقافية عن الحياة والناس وغياب دورها الفاعل كطليعة في قيادة المجتمع. وحالة الإغتراب هذه جعلت من دور الثقافة في قضية إعادة صياغة العقل العربي المعاصر، ضعيفة الحضور والتاثير عند الفرد، وعاجزة عن الاتصال مع الغير لأنها تتحدث بلغة الصوت الواحد، أما العامة فقد سقطت من دائرة اهتماماتها، وهذه العزلة في المجتمع بين الناس والفكر هي الصدع الذي يعود الى تشققات في بنية الحياة ويعرضها الى هزات خطيرة قد تذهب بالناس الى ساحات واسعة من الإنفجارات والدمار، ويسحق الإنتماء للوطن ويطرح بدلاً عنه السقوط في دوامات المذهبية والمناطقية والقبلية، وهذا ما يدخل الأوطان في محارق الحروب الاهلية لان صوت الوعي الثقافي غاب ولغة الحوار تكسرت مفرداتها، وعندما يصل مجتمع الى هذه الوضعية يصبح غير قادر على إيجاد هوية معاصرة يبني عليها كل مشاريع نهضته، وعندما يكون في حالة من التصدع الفكري والنفسي القابل للاختراق وتوجيه الضربات له وهذه الأوضاع عانت مجتمعات الشرق الأوسط منها وهي تمر بكل تجاربها القومية ومارافقها من صدام بين أفكار واوضاع وقيادات وتجارب.وعن أهمية الثقافة في عالم اليوم يقول : (تكتسي المسألة الثقافية في عالم اليوم، وفي مختلف الجهات والأقطار، أهمية خاصة: فما من بلد في عالم اليوم الا ويعاني بصورة ما، وبهذه الدرجة او تلك، من مظهر او من عدة مظاهر تدخل كلها في تكوين هذه (المسألة) او تشكل أحد تجلياتها، حتى أصبح من الجائز القول ان (المسألة الثقافية) بمعناها الواسع واللامحدود هي اليوم (المحرك) للتاريخ: التاريخ المعاصر، الراهن.اما طبيعة الحركة التي يولدها هذا (المحرك)، أما اتجاهها ومدى توافقها أو تناقضها مع حركة التاريخ الحقيقية، حركته الكلية العامة، فهذه مسألة اخرى. المهم بالنسبة الى موضوعنا ان نلاحظ أن لـ (المسألة الثقافية) في التحركات الإجتماعية والسياسية في جل أقطار عالم اليوم، دوراً بارزاً، بل هي تقدم نفسها، في بعض الأقطار، كفاعل وحيد).سوف يظل تراث الدكتور محمد عابد الجابري حالة ابداعية تفتح ابواب الحوار الحضاري مع الذاتي والموضوعي، مع الفكر والتراث وعلاقة الإنسان العربي مع تراثه الإسلامي والعالم، وسوف تظل الكتابة عن الجابري حالة صدام مع من يقبل الرؤية المغايرة، ومن يرفض الخروج عن مسار الماضي والذي يجب استدعاؤ في الحاضر وجعله نهجاً، دون وضع حسابات الفروق الزمنية وتلك حالات سوف تظل موضع بحث على مدى عقود مقبلة.[c1]المراجع:[/c]وجهة نظرنحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر تأليف : الدكتور محمد عابد الجابريمركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروتالطبعة الأولى ـ 1992مالخطاب العربي المعاصردراسة تحليلية نقديةمركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت تأليف : الدكتور محمد عابد الجابريالطبعة الرابعة ـ 1992م