يتكلم الذئب العجوز بوصفه وزير الخارجية الأسبق والأستاذ الجامعي معاً. معرفة وخبرة تكللهما جائزة نوبل للسلام، وتضفي عليهما هالة تتجاوز الانتماء إلى موقع محدد. ورغم ذلك، فالمقال الطويل الذي نشرته جريدة «لوموند» الفرنسية منذ أيام - وسواها بالتأكيد، يفتقد إلى البريق ويشبه مخططاً عجولاً لدرس غير افتتاحي، لحصة عادية.يجد كيسنجر لاجتماع انابوليس فرادة. وتبدو هذه كمؤشر إلى أهميته. فهو يخالف ما يحدث عادة في المفاوضات، حيث يبدأها كل طرف واضحاً بخصوص مواقفه بينما تغيب عنه المحصلة الممكنة. يتعين على الطرفين في انابوليس البدء من الآخر، مما ينبغي التوصل إليه، قبل نقاش التفاصيل والسياق. والتحفظ الوحيد الذي يبديه السيد كيسنجر يتعلق بالقدرة على التنفيذ، مساوياً لهذه الجهة بين الطرفين. وهو يدافع عن مقاربته هذه للاجتماع الوشيك بعرض للمستجدات التي تجعل تفاؤله ممكناً، مبرزا التقارب الموضوعي، على الأرض (ولعله يصح أكثر القول «على الورق») بين القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، معتبراً أن تغيراً ثورياً قد حدث لهذه الجهة! فإسرائيل تتهددها أخطار أربعة تجعل قيادتها تميل إلى مغادرة موقع الرفض التاريخي السابق للاعتراف بدولة فلسطينية، وللتعاطي مع القدس كعاصمة متقاسمة، ومع موضوع عودة اللاجئين. والأخطار هذه هي: العمليات الإرهابية المنفذة من قبل مجموعات صغيرة متحركة، وهو ما يختلف تماماً عن الحروب السابقة التقليدية التي كانت تشن عليها. ويأتي في المقام الثاني التحدي الديموغرافي، حيث يمكن لتعسر نشوء دولتين أن يرجّح حل الدولة الواحدة التي تودي بالطابع اليهودي لأغلبية السكان. ثم هناك التهديد النووي، وبالتحديد من قبل إيران على ما يقول كيسنجر. وأخيراً ترد البيئة الدولية التي تتهدد إسرائيل بعزلة متعاظمة، معتبرة أن تصلبها السياسي هو مصدر العداء العربي للغرب، وهو موقف يقول الكاتب إنه منتشر في أوروبا الغربية، وحاضر وإن لدى دوائر أقلية، ولكن متنفذة، في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.أما ما بدّل الموقف الفلسطيني باتجاه الاعتدال، فهو خوف «الدول العربية السنية المعتدلة» من تعاظم النفوذ الإيراني! فقط لا غير. لا يكلف السيد كيسنجر نفسه عناء تفحص الوضعية الفلسطينية ذاتها، وكأنها لا وجود لها، مما يُفصح طويلاً عن استمرار فكرة محو فلسطين التي يقول أن إسرائيل تخلصت منها. بعد ذلك ينتقل النص مباشرة من تأكيد اختزالي - المشكلة الوحيدة هي إيران - إلى آخر، فيجد أن هناك تقاطع مخاوف، أميرك ية، عربية، إسرائيلية وأوروبية، يجعل من «التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وجيرانها العرب وسيلة لتهدئة بل ولإزالة تلك المخاوف المشتركة». أما كيف، فعلمه في بطن الشاعر. ثم هل موضوع اجتماع أنابوليس هو الصلح بين إسرائيل وجيرانها العرب، أم بين إسرائيل والفلسطينيين؟ لو كان البروفسور كيسنجر يصلّح نسخة من فرض مدرسي قام به أحد طلبته، لتوقف بالتأكيد أمام هذا القصور المتعدد في المنهج، ولأعاد التلميذ إلى نقطة الصفر.ثم وبتعجل، يغادر السيد هذا الميدان تماما، لينتقل إلى ما يليه، فيطرح هنا أيضا سؤالاً لا يجيب عنه. يسأل إن كان التفاؤل حيال البرنامج المقترح مبرراً وما هي تبعات الإخفاق؟ لينتقل بعدها إلى اعتمار قبعة ملتبسة، نصفها لأستاذ ونصفها الآخر لديبلوماسي، معلناً أن قاعدة ديبلوماسية «عامة» تتوقع من طرفي أي اتفاق تحمل مسؤولية تطبيق بنوده وفرض احترامها. ولكن طرفي التفاوض في الجلسة ضعيفان داخلياً، فالرأي العام العربي (مجدداً؟!) غير متجانس، ويمكن توزيعه بحسب الكاتب إلى مجموعات ثلاث، ليس بينها سوى أقلية صغيرة جداً و»مخلصة» (لمن؟) تؤمن بصدق بالتعايش مع إسرائيل، ولكنها غير مسموعة، بينما المجموعة الأعظم تسعى لتدمير إسرائيل، بعضها بالصدام الدائم معها، وأخرى بالوسائل التفاوضية، أو بتبرير المفاوضات على المستوى الداخلي كوسيلة للوصول إلى هذه الغاية. وللغرابة، يضطرب الحقل المدروس تماماً، إذ يتساءل كيسنجر عن استعداد الدول العربية المعتدلة لدعم المجموعة الراغبة بالتعايش. فلا نعود ندرك تعريف هذه «المجموعة» التي ظننا لوهلة أنها هي نفسها «الدول» إياها. بل أكثر من ذلك، يتساءل كيسنجر عما إذا كان الاعتراف بإسرائيل سيضع حداً للحملات الإعلامية، الحكومية والتربوية في العالم العربي، التي تقدم إسرائيل كدخيل غير شرعي، امبريالي ومجرم. ماذا نناقش بالضبط؟ثم يبدو كيسنجر وكأنه معادٍ للاتفاق بسبب نتائجه التي ستضع المعتدلين العرب في موضع الاتهام بخيانة القضية العربية، بدليل... تصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية ضد الاجتماع، التي تمثل «بداية حملة منظمة»! إلا إذا... وهنا نصل إلى بيت القصيد: إلا إذا «رافقت الولايات المتحدة السيرورة إلى النهاية عبر استعدادها لتوفير دعم طويل المدى لشركائها العرب بوجه هذه الهجمة المتوقعة». لا فصل إذاً بين العملية السلمية بخصوص فلسطين ونزاعات الشرق الوسط التي يستخدم الرجل بخصوصها مفردة «الاندراج» دون أن نعرف من يندرج في الآخر. أما اجتماع انابوليس، فيحرص كيسنجر على التأكيد بأنه لا يسجل نهاية المطاف، بل يرسي أسس مرحلة جديدة تبعث على الأمل (؟)، ذلك أنها ستتابع مع الإدارات القادمة، ولا يجب ترك الأجندة السياسية الأميرك ية تؤثر فيها، ولا يجب تطلب ما لا يقوى عليه أصدقاء الولايات المتحدة من العرب والإسرائيليين ولا ولا... يعني، وكما قال القادة الإسرائيليون، المسألة تحتاج إلى عشرات السنين.أخيراً يشدد كيسنجر على صواب موقف السيدة رايس حين تطلب من المتفاوضين التخلي عن اللغة التقليدية، وعن استخدام صفات «ما زالت تنتظر بعد عدة عقود، تعريفات محددة لها». ما هي هذه الصفات يا حزركم؟ إنها: سلام «عادل» و»دائم» داخل حدود «آمنة» و «معترف بها» التي يستعملها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 242! اي القرار التأسيسي. والقويسات في هذا المقطع من لدن السيد كيسنجر نفسه، الذي يضيف عليها جملة ترد في خريطة الطريق، عائدة إلى مسألة اللاجئين، وتنص على «حل عادل منصف وواقعي». هذه لغة خشبية يا قوم وعليكم مغادرتها كي تحققوا النجاح!ما النجاح؟ الله أعلم. ويبدو أنه نجاح الولايات المتحدة واسرائيل. فبعد ذلك، ترد جملة اعتراضية خارجة من لامكان وشديدة الإبهام، يدعو فيها الدكتور واشنطن إلى توفير اتفاقيات محددة وضمانات، إذ لا يعقل مطالبة تلك القوة السيادية الناشئة (المقصود إسرائيل بالطبع) بالبدء بنزع سلاحها وبمجابهة الإرهاب في آن. فإن كان المقصود هو السلاح النووي الإسرائيلي، فهل به تجابه إسرائيل «الإرهاب»، ومن هو المقصود بالإرهاب هكذا بإطلاق العبارة؟ينتهي النص بقاعدة يسنها السيد كيسنجر تعلن أن صورة الولايات المتحدة لا يمكن تلميعها بالانسحاب، من فلسطين كما من العراق، وأن مصير القوى المعتدلة يتوقف على مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، التي يخشى عليها العزلة إذا ما وقع الفشل.على أية حال، يُفصح العنوان عن المضمون، فالسيد يتكلم عما هو «نحو»، أي ما قبل نقطة الابتداء! يحدث ذلك مع حلول السنة الستين للقضية، وبينما تعصف بالمنطقة رياح أخرى لا يخفي السيد كيسنجر سعادته بها، بل ومشاركته في النفخ في أوارها. قد يدافع أصدقاء الولايات المتحدة عن أنفسهم فيقولون أن النص، المرتبك والذي لا يشبه كيسنجر، لا يعبر عن الواقع، وأنه لا يفعل سوى فضح حقيقة بشرية، وهي أن الذئب العجوز قد فقد النعت الأول وأمعن في الثاني! ولكن ذلك لا يفسر شيئاً، فأنابوليس في ظاهرها وباطنها، تشبه هذا النص كثيراً!![c1]- عن صحيفة/( الحياة ) [/c]
|
فكر
سلام في الشرق الأوسط، حسب هنري كيسنجر
أخبار متعلقة