ربع قرن أو يزيد منذ التقيته أول مرة وسرعان ماتحول اللقاء ليصبح آلفة رائعة.. توطدت معرفة بعضنا البعض طولاً وعرضاً وترسخت علاقتنا عمقاً فوجدته على الدوام منفعلاً ومتفاعلاً مع نبض الوطن وقضاياه الكبرى..كثيراً ما أراه منشغلاً ومشغولاً بالشأن العام بين جهد سياسي وإعلامي ناهيك عن عمله ونشاطه الثقافي التنويري المستمر مما دفع الآخرين لوضعه في هذا الإطار دون سواه.فتحت المكلا عيناها ذات صباح مشرق لتجد الأستاذ باعامر يتغنى بكحل عينيها وصباحها المكلاوي البهي، ويرسم عباراته المشكلة فنياً على رموش عينيها وهو يردد مع الشاعر “ محمود درويش”:[c1]“اقسم إني سأخيطمن رموش عينيك منديلاًاكتب عليه شعراً لعينيك”[/c]لم يكتف باعامر بترديد القسم الدرويشي بل جسده عملياً حين أهدى لمعشوقته المدينة البهية “رواية” لم يجد لها اسماً ارق وأجمل من اسمها فسماها” المكلا”.تعلق باعامر تعلقاً جلياً بالكلمة وسحرها، وسافر كثيراً مع العبارة ومجدها وتمترس عميقاً خلف اللغة وجمالها الفنان وامتشق الفن وروعته وبريقه وصعد عالياً، عالياً في ثنايا الإبداع مترنماً بطقوسه مردداً أنغامه والحانه التي تحمل في طياتها قيماً لإنسانية وحضارية غير قابلة للزوال بما تكتنزه من بذور البقاء والخلود الأبدي.حملت رواية المكلا صوراً جمالية وتراكيب لفظية جديدة يضاف إليها قدرتها في التعبير بصدق وجدية عن واقع معاش نبش باعامر تفاصيله وخباياه بعناية فائقة وطريقة ممتعهةممتلئة بالإتقان والجودة تساعد القارئ في الحصول على الفائدة الجمة والمتعة البالغة والموقف الصلب.. صدر مؤخراً عن وزارة الثقافة الأعمال الأدبية غير الكاملة للأديب الكبير صالح سعيد باعامر والتي ضمت إضافة إلى روايتيه الشهيرتين “الصمصام” و “المكلا” مجموعاته القصصية المعروفة وهي “ حلم الأم يمنى”، “ دهوم المشقاص” ثم “ حكاية حلم” وكذا “ بعيداً عن البروتكول” وللأسف لم تضم هذه الأعمال مسرحياته والتي قدم بعضها على خشبة المسرح واذكر على وجه الخصوص مسرحيته التي عرضت في المكلا وصنعاء وهي “ اللحن الخالد”.
تضج اغلب قصصه القصيرة بانحياز واضح للمكان (القرية، الشاطئ، الساحل، القارب)و.. والمكان هنا باعتباره مرتعاً للصراع الاجتماعي والنشاط الإنساني وحاملاً للموروث الفني والثقافي الذي نلمس الكثير من تجلياته عبر الكلمات الشعرية العامية المبثوثة في كثير من قصص باعامر القصيرة، ناهيك عن المقولات النثرية التي تبدو حكماً شعبية تتناقلها الأجيال باعتبارها نتاج تجربة طويلة وعناء أطول.. هذا الموروث الثقافي المنتشر كثيراً في إعمال باعامر القصصية يعبر بجلاء وصدقية عن هوية المكان ورائحة تفاصيله ويحكي بتلقائية وفنية عالية الصراع الاجتماعية المتداول والأمور المتعارف عليها ودرجة القبول أو الرفض لها ..البحر قاسم مشترك لأغلب قصص باعامر القصيرة بل وجل أعماله الأدبية، لكن البحر عند باعامر يقود إلى السفر والترحال والغربة عن الوطن والأهل والأحباب.. حملت أعماله صرخات المعاناة وترك الزوجة والحبيبة والأبناء ..لاشك في ان للهجرة والاغتراب فوائد لكنها آنية وتتوقف عند المظهر دون الجوهر وان حملت في طياتها بعض معاني المعرفة والاطلاع على منجزات الآخرين والاستفادة منها، لكنها صارت مع ارتفاع شهوة الاستهلاك الى مجرد تجميع للكماليات وأدوات الزينة دون تمحيص وتفكير.. لذا نلمس في بعض أعماله تحذيراً من الهجرة والابتعاد عن الوطن دون التزود بقيم المحبة والصدق وحمل الوطن في الأحداث أينما توجهت السفن ..دعوة باعامر واضحة للتشبث بالوطن والعمل على تحسين أوضاع المعيشة بداخله..رواية “المكلا” في تقديري واحدة من أهم الروايات السياسية في المشهد الروائي اليمني المعاصر لكونها استطاعت الإمساك بتلابيب أحداث مرحلة سياسية عرفها الوطن وان آخذت أحداث الرواية تفرعات مختلفة إلا إنها تمكنت من إعادة صياغة ذلك الواقع بصورة إبداعية غاية في الجمال السردي المثير.أكثر من مرة وأنا اقرأ فصول الرواية أجد نفسي بداخلها.. احد شخوصها أتحرك مع أحداثها، واصرخ ارفض، أقاوم.. لماذا؟!لان جزءاً كبيراً من أحداث الرواية نحن صنعنا تفاصيلها، عشنا فيها وعايشنا وقائعها بل هي الحاضر الذي نتنفسه نتاج الماضي الذي قمنا بصياغته وفقاً ورؤية معينة.بحق استطاع باعامر من خلال روايته وبفنية عالية ان يؤرخ لمرحلة حساسة وحرجة سياسياً من حياتنا المعاصرة وتاريخ هذا الوطن المنشغل بالأحلام والآلام.تظهر في رواية (المكلا) بوضوح خبرة باعامر في مجال الكتابة السردية خصوصاً بعد نجاحاً تجربته الروائية الأولى “الصمصام” التي تناولتها الصحافة الثقافية باهتمام جاد وحقيقي، لذا نجد في “المكلا” تقنية متطورة في تصاعد الأحداث والإمساك بحركة الأشخاص بمهارة جلية ونجاح كبير.جمعت رواية (المكلا) بين القيمة الفكرية للعمل السردي وحركتها الدرامية التي تجعلها في مرمى مخرجي السينما، ولكون الرواية تاريخياً احد أهم مصادر دوران عجلة السينما فرواية (المكلا) ستكون إضافة جيدة في هذا الاتجاه.لدى أمل شخصي ان تصبح رواية (المكلا) ذات قيمة كبيرة في عالم يكتسب فيه الفن السابع مكانة مرموقة وانطلاقاً من الحقيقة القائلة ان اغلب الأفلام السينمائية المتميزة هي تلك المأخوذة عن إعمال أكثر تميزاً لذا فأني أتوقع مسبقاً نجاح فيلم “المكلا” أليس كذلك؟!
|
ثقافة
المكلا رواية اسمها باعامر
أخبار متعلقة