مع الأحداث
بالأمس كان المواطن العربي يشارك مشاركة فعالة في صنع السياسة الخارجية حين ساهم بأشكال متعددة في مرحلة النضال من أجل الاستقلال. وقد تراوحت تلك الأشكال بين القتال والتظاهر والتعاطف وتنظيم الأحزاب الوطنية وكتابة المنشورات السياسية وتعبئة الجماهير. ثم جاءت مرحلة شارك فيها هذا المواطن في بناء الدولة وفي تحديد معالم سياستها الخارجية حين كانت هذه السياسة تطرح كبرهان على استعادة الشعب لكرامته، ولقدرته على المساهمة في بناء نظام دولي جديد يضمن للدول حديثة الاستقلال نصيباً في صنع السياسة الدولية. وبالرغم من أن حجم المعلومات والتطورات الدولية لم يكن بالقدر الذي هو عليه الآن، فإنه مع قلة المتاح منها للمواطن كان يتفاعل بحماس لا يتوفر لتفاعله الراهن مع التطورات الحالية.ولا شك أن التفاعل النشط في المرحلة الأولى كان من أهم العوامل التي كشفت عملية البناء الداخلي للدول الناشئة. بالإضافة إلى ذلك، كان لدى إنسان تلك المرحلة وقت للسياسة ليناقش إنجازات زعمائه وزعماء الدول الشقيقة أو المجاورة، ويبدي رأيه في سياسات الدول العظمى مفعماً بالثقة فيما حققه وفيما يستطيع أن يحققه.وكان زهو المواطن بالتحدي والأمل في تشييد البناء المستقل يمثل جزءاً كبيراً من سعادته يعوض بها افتقاره لحاجات مادية كثيرة، ويمنح حكومته الفرصة لكي يخطط بهدوء من أجل تعبئة إمكانات الدولة الناشئة لتتمكن بعد فترة من تلبية تلك الحاجات، كذلك تقدم هذا الإنسان خلال تلك المرحلة خطوات واسعة نحو الاقتناع والإيمان بأسبقية الولاء للدولة على ولاءاته القبلية أو الطائفية، ووصل في سنوات قليلة إلى الاعتقاد بأن الدولة ومؤسساتها أفضل حارس لحقوقه وضمان لمستقبله.ولكن بعد أن اختل التوازن الدولي نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وترتب عليه قيام نظام دولي جديد، أحادي القطبية، تنفرد بالهيمنة عليه كلياً الولايات المتحدة الأمريكية، والمتسم بالعولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتقنية المعلوماتية والاتصالية.. الخ، انقلبت كل موازين القوى السياسية رأساً على عقب، فأصبحت أمريكا هي المهيمنة الوحيدة على مقدرات الشعوب، وهي الآمرة والناهية في الشأن الدولي لكل أمة من أمم العالم.وتأسيساً على ذلك، فقد برزت ظاهرة الإنسان الجديد في العالم النامي عموماً، وعالمنا العربي خصوصاً، إنه إنسان لم يعد يميل إلى المشاركة بفاعلية. إنه إنسان لا ينفعل بالأحداث الدولية التي يشاهدها يومياً على شاشات القنوات الفضائية، وبينها الأحداث التي تمس حياته ومصيره. وإذا حدث فانفعل بسبب بشاعة الحدث فإنه لا يكشف عن هذا الانفعال.إنه إنسان أراد أو أريد له أن يتحجر قلبه السياسي، وأن ينشغل فقط بقضية تضخيم ثروته الشخصية أو البحث عن لقمة العيش.ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أنه واقع على كيان الدولة في العالم العربي وعلى مستقبلها، وهي الظاهرة التي بذل من أجل تكوينها جهد خارق، إنها تحرم الدولة من أهم أرصدتها وأسلحتها. فالإنسان المشارك هو في حقيقة الأمر نواة لرأي عام له بصيرة تاريخية لا تتوفر عادة لدى كثير من الحكام. إن الحاكم تقيد حركته ضغوط وواقع وحسابات تجعل بصيرته محدودة وضيقة الآفاق أما الرأي العام – ونواته المواطن – فإنه تلك الجعبة التي تحمل تراث الأمة وتاريخها، وهو الضمير العام الذي يحدد أبعاد الحقوق والطموحات، وهو الوسادة التي تضعف عليها صدمات الهزيمة، والعمق الوحيد الذي يحمي الدولة وحكامها من ضعف البصيرة وانحرافاتها.ختاماً نقول: ليس مستبعداً أن تكون هناك مصالح دولية معينة لا تريد للإنسان في العالم النامي عموماً، وفي العالم العربي بوجه خاص، أن يفيق قبل أن يتم رسم خرائط جديدة للعالم العربي بصورة خاصة، وما يمهد له الآن عبر الكثير من السياسات والحروب والصدمات والمجازر والإذلال المتعمد هو خلق إنسان جديد لا يغضب من هذه الخرائط التي يجري رسمها.