دراسة أدبية
عبدالوهاب الحراسيهكذا ينقد المصدوم (الحضراني): الثقافة الدينية والفكر الديني السكوني، يرفضه، يناهضه حتى لكأنه سيتبرأ منه، لكنه في الأخير يعود إلى هويته المنقودة، لأنه في النهاية لايمكن له ان يكون غيره” يرجع البصر كرتين اليها” فيراها ليكرهها لكنه يعترف بها :[c1]مريومي معرضا عني بقية وبكبروعن الأمس أنا ثرت على الأمس بشعريمن أنا؟ أين أنا؟ أين مكاني؟ لست ادريانأ دويشك يارب، وما غيرك ذخريوكفاني، إنني أصبحت لا اجهل قدري[/c] * * * لكن الشاعر كأي شخص أو جماعة أو مجتمع يشعر بحقارة حاله وواقعه المتردي بعد ان كان له حضارة وتاريخ ساد على العالم، يرى أن من حقه الرفع من شأن مجتمعه، أمته وحضارته، فيحال باحثا عن طريق لذلك، فيجدها مغلقة إمامه. ولقد أدرك الشاعر بعمق حقيقة الواقع البائس للحضارة العربية، الأمر الذي أدى إلى القدرة على استشراف المستقبل (والذي هو اليوم الحاضر الذي تعيشه الأمة العربية):[c1]“ ويحه لم يستجب رأسي، ولم تسعف يدي؟أتراه الداء- ياللهول-داء الأبدلاتقولوا قد سرت رعشته في ولديودعوني ازرع الآمال في دنيا الغد [/c] (ص 165-167،ت1973م)ان انقسام –وتالف-الموقف الثوري في الشاعر إلى لحظتين أدى إلى تميزه وتمزقه في الوقت نفسه، والذي ظهر في النصوص السابقة بلغتين متنافرتين (لغة ساخطة عنيفة وأخرى رقيقة حانية) في النص الواحد الى درجة التناقض.لكنه، بالرغم من ذلك، حتى الأن يقبل بثورة اللحظة الأولى- مفهوما وأسلوبا لثورة 38-ذات اللغة العنيفة في مقابل لحظته الثورية الخاصة، وهو في نصه المعنون بـ” صفحتان من الرحلة وهامش” يعرف لنا مراحل التطور والتغير في الافكار والقناعات التي عاناها، بل ويتضمن هذا النص اجتماعا تراتبياً للحظتيه الثوريتين، وفيه يظهر التمزق الفكري والوجداني (الثورة الدموية-ثورة المواجهة مع الذات او الانقلاب عليها- الحيرة –الندم-الشك-الخلوصية واخيراً التسوية لوقف الارهاق الناجم عن الصراع الداخلي والفصام في شكله السياسي الاجتماعي الذي سنراه في المقاطع (3،4،5) من النص:[c1]“الــقـريـة تـعــرف والبــنـدروالكثرة في وطني الأكبرالكل يشير بإعجابهذا قد ثار وما قصروأنا مازلت كبركانيغلي، يتلظى، يتفجر”مهلا ساقول لكم شيئاًثار البركان وما فكر [/c]* * * ونلاحظ ان الشاعر في نهاية المقطع يشير إلى عدم اقتناعه بمفهوم الثورة المتداول (الحرب، العنف،الضحايا،....الخ) أو انه يضعها بين قوسين.ثم يتابع:[c1]قلمي، كلمتي، أعماقيثارت،جنت،نفثت ناراومررت شواظاً من لهبوسحقت كبارا وصغارا،وكفرت بقومي تاريخاوعبدت بلادي أحجاراوحميت الدار،ولكنيلم احم الصاحب والجارا![/c]* * *فيتضح لنا نظرته السلبية (العنيفة والدموية) للثورة وتردده تجاهها، بل وشعوره بالندم وتأنيب الضمير في حس مرهف عميق وواسع، ناجم-ربما-عن شعوره الفريد المتفرد بالخيانة لإيمانه بمفهوم الوطن/الوطنية (ذات المفهوم الذي يساوي الإنسان/ الآخر الذي معه وبها وله ومنه يمكن تحقيق حياة تقوم على تقاسم وتشارك لقيمة ومبادئه).ويزداد عمقا لشعوره بالندم، بل أصبح ينهش أعماقه كلما تذكر أن الثورة التي تبناها قد نالت من أشخاص أحسنوا إليه:[c1]كم قلب رف ليغمرنيبالحب وعين ترعاني ويد مدت لاب حدبنحوي وشعورإنسانيفلويت الكف ولم احفلمنهم بالقاصي والداني[/c]ولكنه لايقوى على تحمل هذا الندم الغضوض فيحاول- مباشرة-التخفيف منه، بل وإعادة التوازن لموقفه العاطفي وموقفه الفكري:[c1]لم أذنب، كلا لم أذنبنفذت إرادة أوطاني[/c]* * *ويبدو ان التبرير في – البيت الأخير-السابق لم يكف لإيقاف صوت ضميره الصارخ:[c1]وهنالك همس يزعجنيدوماً ويناشدني الثمنا[/c]* * *ويعزي نفسه-متمنياً – ان يكون الثمن هو ضرورة توجيه الثورة- التي تبناها- بأكملها لخدمة الشعب “الأمة:[c1]ويقول عساك بما أسلفتذكرت الأمة والوطناوحملت العبئ بمقدرةوهجرت الراحة والوسنا[/c]ولكن وطأة الندم مازالت من الشدة بحيث جعلته يشك في أمنيته.. بل وحتى الاعتراف بخصلة لايحملها: [c1]فأكاد أجيب وبي خجلالكل تلاشى، غير “أنا”[/c]ان الحضراني في هذه المرحلة متردد في موقفه من الثورة، بل يعذبه ويرهقه التردد في موقفه منها ففي الوقت الذي “ مازالت” موجة الثورة غاضبة كان( هو”وشراعة” يبحران ولم يرسوا) في خضم تردده بين شعوره بالندم الناجم عن التزامه بالشرط الأخلاقي تجاه كل من احسنوا إليه او شعر بأنهم احسنوا إليه في ظل النظام الأمامي وبين ضرورة الثورة على ذلك النظام من اجل أناس لاتحفل لشيء!!فاكتشفت حاجته المحلة الى حسم موقفه تجاه انقسامه على نفسه- وهو الانقسام الناجم عن ذلك التمزق الفكري (اللادرية والحيرة الفلسفية او هي التمزق ذاته ولكن في صورة موقف سياسي اجتماعي- والخلاص “ الثورة” منه:[c1]والموجة مازالت غضبيوانا وشراعي لم نرسوالناس تسير كما كانت طفل لم يحفل بالدرسوقصارى الأمر أقول لكمفي همس لو اجدى همسيأعظم بالثورة لو إنيفجرت الثورة في نفسي[/c]* * *ولئن كان التكفير العميق في الثورة وموقفه اليائس منها قد ارهقه، فقد اشفق على نفسه او يئس وتوقف عن التفكير .. تاركا ذلك للسطحيين في تفكيرهم وشعورهم وقيمهم من رفاقه:[c1]وطويت الصفحة في صمتفالصورة تبدو مهزوزةوتركت السطح لفارسهفرسان السطح لهم ميزة[/c]غير انه يستفيق او يظن انه استفاق عندما تذكر الحظ السعيد- ربما ذلك “ الحظ” الذي أنقذه من تنفيذ حكم الإعدام الذي كان ينتظره وهو معتقل في سجن/ قلعة حجة- ويعيد الاعتبار الى من وصفهم بالسطحيين من رفاقه، فيقرر حاسما موقفه الايجابي من الثورة التقليدية:[c1]وذكرت الحظ.. فارعشني وتذكر تربي ابريزهوطغي البركان وثورته قد كانت رفضا وغريزة[/c]وأظن ان هذا الحسم غير أصيل.. او اختيار غير حقيقي، لأنه ناتج عن صدفة( تذكر) لصدفة أخرى هو” الحظ” قضى بها على تردده، وانقسامه وفصامه..وبالرغم من ذلك يستمر الشاعر في تدعيم حسم موقفه السياسي، والاجتماعي لصالح الثورة بمفهومها المتداول والذي طالما رفض ذلك المفهوم(حتمية الضحايا من الأبرياء، انقلاب الثوار-فيما بعد- على قيمهم الثورية التخاذل او النسيان لأهداف الثورة باعتبارها من اجل الأمة والشعب، تولي سلطاتها من قبل أشخاص وقيادات لاتمت بصلة لروح الثورة) أقول يستمر تدعيم ما يظنه حسما لصالح الموقف الأول من الثورة راكنا لنجاح حركات التحرر العربية من الاستعمار الأجنبي:[c1]ولـدى” سينـاء” وفـي “جـولان”نكست الهامة إجلالونفضت الزيف باجمعهونسيت يمينا وشمالاووقفت احيي بخشوعفي الجبهة قومي الأبطالاان ماتوا ثم فقد تركوافي كل فؤاد آمالا[/c]* * *ويؤكد حسن اختياره واقعا تحت تأثير المد القومي وحماس خطاب أصحابه:[c1]قد كنت اسافر في تيهوالدرب يمزق اقداميمعصوب العين بلا امللم ادر ورائي واماميواليوم اليوم بما بذلواامشي والشعلة قداميويطول السير فلم اعبافالنسر يداعب أحلامي[/c]ويذهب إلى ابعد من تأكيد خيار الثورة.. إلى حد ارتداد والتراجع، بل الانقلاب على فكرته الخلاقة عن الوطن والوطنية:[c1]آمنت بقومي تاريخامهما كانوا وكما كاناآمنت بأرضي انهاراتجري بالخصب وكتبانامن ارض “ الشام” إلى “نجد”فالى”بغداد” “وتطوانا”آمنت بهم، وبوحدتهمفكرا، شاوا، أو وجدانا[/c]* * *وهذه نتائج تبديل عقيدته في الثورة التي تقوم على مفهوم الوطن/ الوطنية المتداولة(الحدود، التاريخ، الطبيعة):[c1]وكفرت بغرس لم يسقلم ينم بأرض عربيةلم المح فيه على قربنفحات البيد الوحشيةوانا من عاش بآفاقليست في الصفحة مرويةوبعدت، بعدت ولكنيآمنـت اخيـرا “بغـــزيـة”[/c]ومع ذلك، وبالرغم من كل هذا الإيمان نجد الشاعر يضع لنا “ هامشا” ولنفسه خطاً للرجعة!! عن عقيدته وإيمانه المستحدث القديم، ليبقى الشك.. هو سيد الموقف، وان المسألة ( إيمانه الحالي بالثورة التقليدية مفهوما واسلوبا) لاتعدوا كونها أصبحت ضرورة إجرائية لابد من تجريبها، فان فشلت فان الشاعر لن يتردد كما يبدو في العودة الى كامل لحظته الثورية الخاصة( طريقته الخاصة في الثورة ومفاهيمه الجديدة التي تقوم عليها):[c1]يانبع بلادي لاتبخلفأخي في الجبهة ظمآنيازرع بلادي لاتخلففانا من حولك غرثانيارب الاسرة فلتنصفالكل بسوحك اخواناولا: فاقـــــــول بلاوعـــــي[/c]بركان بركان بركان؟ “(ص123-125،ت 1975م).لكنه يكتشف بعد عقد من الزمان ان قناعته بالثورة التقليدية (لحظة الثورية الاولى) وتجربتها وتجريبه لها تشير- على الاقل- الى فشلها، فنجد الشاعر يمر بفترة انتقالية قبل ان يرتد فيكفر بالثورة التقليدية وباسلوبها بل والعودة الى رؤيته الثورية الخاصة.ويمكن ان نصنف تلك الفترة بانها الشعور بالحزن والضياع، وما يترتب على ارتكاس في القناعة السياسية.. كل هذا في نص “ الحداة والقافلة”.[c1]“ وهنت في ساحة (الضرب) يداياووهت من طول مسراها خطايا[/c]ثم يقول :[c1]كنت احدوها ويحدوها معيصاحب لي في السرى جم المزايايرصد السير.. فلايرضى لهامقلة تغمض،اونفسا .. تعايا..!فيقر بحزن عدم جدوى الثورة او انحرافها:فيطول السير ما من قبسيتراءى، غير اشباح الضحاياونفوس هاهنا، او هاهناتتناجي، يا لاحلام المرايا..![/c]واخيراً يبرر فشل الثورة، وربما ايضاً فشل مشروعه الثوري الخاص( أي فشل اللحظتين الثوريتين معاً) ثم يشعر جراء ذلك بالوحدة، او العزلة او الغربة والحنين الى رفاق السنين الخوالي من الكفاح:[c1]آه للأيام تغتال الرؤىكل حال بينيها حائلة حكمها يجري- على ماتشتهيلا على ماتشتهية السابلةتعكس الاشياء حتى يغتديعالي الشيء يضاهي سافلهمن معيني.. وانا اجتازهافي عراك؟ وهي حولي صائلة.؟!ارفع الصوت فمن يسمعني؟اين انتم يارفاق القافلة؟[/c]”(131-132ت:1987م)واخيراًهاهو يعود الى رؤيته الثورية الخاصة، ولكن بعد ان يهاجم مدينا مفهوم الثورة التقليدية.. فيكشف اولاً مايبدو له تناقضاً فيها، ويرفضه.. انها من اجل الإنسان وابادة له في الوقت نفسه:[c1]“ايا من ترسل الدمع سخينا طرفها الباكيعلى واحدها البكر.. رمته كف سفاكدعي النوح فما يجدي بان تدمع عيناكهو القاتل والمقتول، والمشكو والشاكيلماذا حمل السيف لماذا لبس” الكاكي”؟[/c]* * *[c1]الا يا امه الثكلى ويا والده المحزونلقد اودى وان الذنب في نفسيكما مخزونوماهو غير تعبير لشيطانكما الملعون،ايبكى واحد اودى، ولايبكى على مليون؟على النفس على القلب، على المتمرد المجنون![/c]* * *[c1]تعد النار يا انسان، والصاروخ و” الذرة” وتذكر من طوته الحرب بالحسرة، والعبرة فما اسخفها دعوى، وما اكذبها فكره..على نفسك فلتبكعلى طينتك القذرةعلى الشر، على الحقدعلى الغش، على الاثرة[/c]* * *[c1]لقد آن بأن تصحووان تفهم يا انسانعلى لعلعة الذرةاو قعقعة الصوانوان تنتزع الشروان تستاصل الطغيانوتبحث في حناياكعن الرحمة توليها[/c]* * *[c1]عن الخير، عن الايمانعن الصفح،عن الاحسان[/c]ويتوصل الى مايوحي بتفسير ذلك التناقض بانه طبيعة او غريزة بشرية- وحشية-لايمكن التخلص منها:[c1]على نفسك فلتبكعلى طينتك القذرةعلى الشر على الحقدعلى الغش،على الاثرة[/c]ان رفضه وادانته للثورة التقليدية اسلوباً، ونتائجاً ليس قاصراً/ ناجماً عن التجربة اليمنية لها، بل هو موقف يشمل تجربة العالم لها مادامت تقوم على مفهوم واحد واسلوب واحد ونتائج واحدة( العنف، القتل، الحرب، الدمار)وان اية ثورة لابد ان تكون من اجل خير البشرية..اذن كيف يمكن ان تقوم بثورة- نتائجها سريعة بالمقام الاول-دون ان تقوم على التضحية او ان تكون بلا ضحايا، او عنف أو..أو..؟ان الشاعر لم يجب ولايجيب، بل ولايمكنه الاجابة، فمشروع مفهومه الثوري الجديد لايمتلك الكيفية السريعة لذلك.وهكذا فان مشروعه فاشل.. فماذا بقي له القوه؟انه لايريد الثورة التي عرفتها المجتمعات الانسانية وجربتها وماذا بقي له؟ مالقوة او الوسيلة التي ستغير مجتمعه بسرعة دون ان يخسر او يتنازل اويضحي او يتجاوز او يمسح لقطرة دم واحدة ان تسقط؟ كيف ينفذ مشروعه الثوري بذلك الاسلوب( النقدي) الطويل والطويل جداً؟انه يعجز عن فعل ذلك، عن القدرة على فعل وتنفيذ ذلك. لذا نجده-مثل كل عاجز رافض- يلوذ بالوعظ:[c1]“لقد آن بان تصحووان تفهم يا إنسانعلى لعلعة الذرةاو قعقعة الصوانوان تنتزع الشروان تستأصل الطغيانوتبحث في حناياكعن الخير عن الايمانعن الرحمة توليهاعن الصفح عن الاحسان[/c]”(ص135-136).