أضواء
يبدو أن الكويت على أبواب معركة جديدة هذه الأيام، فما أن أسدل الستار على استجواب وزيرة التربية نورية الصبيح بانتصار واضح للقوى الديمقراطية حتى انفتح المشهد السياسي لمعركة أخرى لا تقل ضراوة عن سابقتها، بل ربما تفوقها ضراوة، وهي معركة في واقع الأمر ليست بالجديدة بل ظلت مع المجتمع الكويتي خلال عقود أربعة منذ أن افتتحت جامعة الكويت في العام الدراسي 1966/ 1967.لكن إذا كانت معركة الاستجوابات التي طوينا إحداها مؤخراً معركة بين النواب والحكومة، فإن هذه المعركة هي بين التيارات السياسية ذاتها، وستقف الحكومة كالعادة متفرجة أو ربما ترجح هذا الفريق أو ذاك تبعاً «للمقايضات» التي تتم «تحت الطاولة».وما يفرق هذه المعركة أيضاً أنها ابتدأت بتهديد بالقتل لأحد أطرافها بـ «سبع رصاصات» مما سيجعلها معركة حامية أكثر من الحدود المتعارف عليها. وهي فوق هذا وذاك، معركة مجتمعية لأن القضية باتت تهم كل من يسكن ضمن حدود الكويت ويستظل بسمائها. ولكي ندخل في الموضوع دون استطرادات غير ضرورية نقول إن ثلاثة نواب وهم فيصل الشايع ومحمد الصقر وعلى الراشد، وينتمون للتحالف الديمقراطي الوطني تقدموا بمشروع قانون بإلغاء منع الاختلاط، وهو قانون تم تمريره منذ عدة سنوات خلت، وحاولت الإدارات الجامعية تطبيقه بشكل كامل دون أن تصيب في ذلك نجاحاً. وما أن تقدم هؤلاء بمشروعهم حتى بدأت الأجواء السياسية بالتحرك، بيد أنها اختلفت هذه المرة عن سابقاتها، إذ تلقى النائب علي الراشد اتصالاً هاتفياً من شخص مجهول اسمعه كلاماً بذيئاً وهدده بالقتل بسبع رصاصات إن هو استمر في مشروعه ذاك. وسرعان ما حرك ذلك التهديد الأجهزة الأمنية واستنفرها حيث ألقت القبض على المشتبه به في وقت قياسي وتبين أنه في العقد السادس من عمره ومن أصحاب السوابق، وربما ليس سوياً من الناحية العقلية. وقد أجرى المشتبه به اتصاله من الهاتف النقال لسائقه الآسيوي وفي حضور أهل ديوانيته!! ويبدو أن هدف طرح موضوع الاختلاط ثانية هو تجميع القوى الديمقراطية حول قضية محورية، وهي القوى التي تسعى إلى إقامة دولة مدنية تحكمها النظرة المعتدلة للدين الإسلامي فضلاً عن ضرورات العصر. يضاف إلى ذلك رؤيتها لعدم إمكانية الفصل بين الجنسين وما يكلفه ذلك من أموال ضخمة يمكن الاستفادة منها في تطوير التعليم، علماً بأن الاختلاط موجود في العمل حيث تفوق أعداد النساء الكويتيات العاملات أعداد الرجال، وهن أصبحن متواجدات مع الرجال في كل الوظائف الحكومية وأيضاً في القطاع الخاص وعلى رأسه الأعمال المصرفية. وحصلت الكويتية أيضاً على حقوقها السياسية وباتت تنافس الرجال وتربعت على قمة الهرم السياسي كوزيرة وعضوة في المجلس البلدي. أما في الحياة العامة، فالاختلاط بين الجنسين فموجود في المطاعم والمحال وغيرها من الأماكن العامة، وليس ثمة من يعترض على ذلك أو يتبرم منه!! ويبدو أن القوى الديمقراطية والمدنية تكرر ما فعلته الجماعات الدينية في بدايات انتشارها، حيث اتخذت من الاختلاط قضية لتجميع عناصرها ولكسب المؤيدين وإعلان حضورها في الساحة. فمن المعلوم أن جامعة الكويت قد ابتدأت بنظام الفصل بين الجنسين، بيد أن هذا النظام كان يتعرض لكثير من الاختراقات، فالأساتذة ومعظم الطلبة كانوا من أصحاب الاتجاهات التحررية، ثم إن النشاطات الطلابية المتمثلة بالاتحادات والروابط كانت مختلطة يشارك فيها الطلاب والطالبات. وقد طرح موضوع الاختلاط في جامعة الكويت الناشئة عندئذ بحدة في الصحف التي كان معظمها يؤيده، فضلاً عن نقاشات مجلس الأمة، حيث كان نواب الحركة الوطنية يطالبون بالتعليم المشترك يساندهم في ذلك الجمهور العريض من الطلبة ممثلاً باتحادهم. وفي مساء الثالث عشر من شهر نوفمبر 1971 عقد الاتحاد الوطني لطلبة الكويت ندوة مشهورة حول موضوع الاختلاط دعا إليها بعض المتحدثين وأشهرهم مقدمة برنامج «مع الأسرة» فاطمة حسين وحضره جمهور غفير من الطلاب والطالبات المؤيدين للاختلاط. بيد أن تلك الندوة حوت أيضاً مجموعة من شباب الجماعات الدينية ( طلبة جامعيين ومن تلاميذ الثانوية وآخرين من الحضور العاديين ). وضم هؤلاء الشباب طلائع ما سيكون فيما بعد الحركة الدينية من جمعية الإصلاح التي تمثل الإخوان المسلمين في الكويت بالتحالف مع الجمعية الثقافية الاجتماعية ( التي كانت تمثل التيار الديني الشيعي السياسي وقد حلت تلك الجمعية بشكل نهائي في الثمانينات). وما أن بدأت الندوة حتى تهجم شباب الجماعات الدينية على المتحدثين وجرت مصادمات بين الحضور مما أدى إلى إلغاء الندوة. ومنذئذ أصبحت قضية منع الاختلاط ومحاربته من القضايا المحركة لقواعد وأنصار الجماعات الدينية، وباتت في السنوات الأخيرة تستخدم بشكل مدروس للتكسب السياسي والمزايدة على الداعين لإصلاح التعليم وتطويره. غير أن تحرك القوى الدينية لم يمنع تضعضع نظام الفصل خاصة إنه بعد عام من تلك الأحداث بدأت كلية التجارة والاقتصاد والعلوم السياسية بتطبيق نظام المقررات ومعه تم تطبيق نظام اختلاط جزئي، حيث احتلت قاعات الطالبات الدور الثاني في حين خصص للطلبة الدور الأول، وفيما بعد مزج الأساتذة الكويتيون طلبتهم وتبعهم في ذلك كل الأساتذة ليصبح الاختلاط أمراً واقعاً ولينتقل للكليات الأخرى في حلول العام الدراسي 1975/ 1976. وكانت إحد أهم مطالب جمعية الإصلاح للحكومة حينما تم حل مجلس الأمة في أغسطس من نفس العام، وتسلمها وزارة الأوقاف هو تفعيل تطبيق قانون الفصل بين الطلبة في الجامعة وفي المدارس الخاصة الأجنبية منها والعربية. إلا إن الاختلاط استمر بحكم الأمر الواقع. وساعد قلة عدد هيئة التدريس في الجامعة وأيضاً في التعليم الخاص بعد تحرير الكويت في العام 1991 من استمرار الأمر الواقع خاصة أن جامعة الكويت ومعاهد التعليم التطبيقي لم تجدد عقود كثير من الأساتذة باعتبارهم ينتمون إلى «دول الضد» مما جعل المطالبة بتطبيق نظام الفصل مستحيلاً. ولم يمنع ذلك مطالبة القوى الدينية المستمرة، التي أخذت بكسب الشارع والتي سيطرت على اتحاد الطلبة، لم يمنع مطالبتها بإلغاء الاختلاط وبتطبيق القانون الأصلي الذي يمنع التعليم المشترك، وقد أفلحت في ذلك منذ بضعة سنوات،وكان آخر نجاحاتها على يد وزيرة التربية الحالية نورية الصبيح المحسوبة على التيار الليبرالي، إذ أجبرت إدارة الجامعة الأميركية (وهي جامعة خاصة) على فصل نشاطات الطلبة عن نشاطات الطالبات، متعللة بمسئوليتها عن تطبيق القانون بغض النظر عن قناعاتها الشخصية. معركة الاختلاط التي بعثت هذه الأيام ربما تكون الشرارة التي تعيد توازن المجتمع الذي مال كثيراً إلى التزمت والانغلاق بعيداً عن الواقع ومتطلباته، وبعيداً عن روح العصر ومستجداته. * عن/ جريدة «البيان» الإماراتية