مع الاحداث
لعل من أهم المقالات التي نُشرت عن الاستجابة الإسرائيلية لهدم السور الفاصل بين غزة ومصر ما كتبه كوبي نيف في صحيفة معاريف (28 يناير 2008) في مقال بعنوان «مع كل فشل نفاجأ بأن العالم لا يتصرف كما نريد أو وفق الغرور في جينات الصهيونية». يصف المقال في دقة بالغة الخريطة الإدراكية الصهيونية التي تُعمي المؤسسة الصهيونية عن الواقع. يبدأ المقال بالإشارة إلى أن الإسرائيليين يعتقدون حقاً أنهم قادرون على كل شيء. «فلا يتعلق الأمر بهذا الزعيم أو ذاك، هذا الحزب أو ذاك، هذه الشريحة الاجتماعية-الاقتصادية أو تلك. هذا يتعلق بنا جميعاً، من رئيس الوزراء وحتى رئيس كل بلدية. من وزير الدفاع وحتى الحارس في المجمع التجاري، جميعنا واثقون من أننا قادرون على كل شيء. أعطنا فقط نقطة نمسك بها زمام الأمور، أي ما يكفي من الدبابات والطائرات، ونحن سنحرك العالم إلى حيث شئنا. هذا التفكير المغرور لم يبدأ اليوم، بل كان معتقداً يتجذر عميقاً في جينات الصهيونية. وهكذا نحن نعود إلى التفكير، في كل مرة من جديد، بأننا قادرون على كل شيء». ثم يذكر الكاتب سلسلة الأوهام التي تساقطت: «كنا واثقين تماماً بأن بوسعنا أن نحتفظ بسيناء ومخزون النفط فيها إلى الأبد، دون أن يتمكن المصريون من عمل أي شيء في هذا الشأن. وكنا نعول ونثق بأن بوسعنا أن نحتفظ بالشعب الفلسطيني تحت الاحتلال والاستغلال إلى أبد الآبدين، دون أن يثوروا. وعندما ثاروا رغم ذلك، كنا على قناعة بأن بوسعنا أن نقمع تمردهم هذا من خلال تحطيم عظامهم». «وفي حرب لبنان الأولى كنا واثقين من أنه بوسعنا أن نفرض على لبنان النظام المرغوب فيه من جانبنا. وفي حرب لبنان الثانية مرة أخرى، كنا واثقين بأنه إذا ما استخدمنا ما يكفي من القوة، فسنخضع لبنان و(حزب الله). والآن مرة أخرى كنا واثقين من أن بوسعنا أن نحبس ونجوِّع مليون ونصف مليون إنسان إلى أن يستسملوا مرة أخرى مثلما هو الأمر دوماً، لإرادتنا».ثم يشير الكاتب إلى أن الصهاينة قد وقعوا صرعى خريطتهم الإدراكية إلى مدى إصرارهم على عدم إدراك الواقع. «والمفاجئ الأكبر هو أنه في كل مرة يعود فيها هذا المفهوم إلى الانهيار، نعود ونفاجأ من جديد بأن العالم لا يتصرف كما نريد، رغم أننا استخدمنا تجاهه كل قدراتنا التي يفترض بها أن تخضع كل من يقف في طريقنا، من خلفنا ومن أمامنا ومن كل الجوانب، بواحد، اثنين، ثلاثة». نظرية التصدي للإرهاب من خلال حبس منطقة جغرافية كاملة انهارت والاحتكار الذي احتفظت به إسرائيل لنفسها على عملية السلام قد تبدد وتلاشى. «ماذا، هل حقاً اعتقدنا أننا إذا ما حبسنا وجوعنا وظلمنا الفلسطينيين في غزة، فإنهم لن يحطموا السور مع مصر كي يحطموا جوعهم؟ وماذا، هل حقاً اعتقدنا أننا إذا بنينا استحكامات على القناة، فلن يتجرأ المصريون حتى على التفكير باجتيازها؟ ماذا، فهل حقاً اعتقدنا أننا إذا احتللنا لبنان فسيكون بوسعنا أن نعين هناك رئيساً كما نشاء ليصنع السلام معنا؟.. هل حقاً اعتقدنا أنه سيكون بوسعنا أن نبقي المستوطنات في قطاع غزة إلى الأبد؟ وهل حقاً نعتقد أنه سيكون بوسعنا أن نمنع إيران من التحول النووي بقوة الذراع الجوية، الصاروخية، الذرية عندنا؟». بعد ذكر هذه القائمة من الأوهام التي تساقطت (والتي لا يرصدها مع الأسف الإعلام العربي)، ينصح الكاتب المؤسسة الصهيونية والعقل الصهيوني بأنه «بدل العودة لإضاعة وقتنا، قوتنا، عقولنا وأنفسنا على لجان تحقيق تعود لتفحص مرة أخرى إذا كان شكل مغاير من استخدام القوة (من تجنيد الاحتياط عبر استخدام الطائرات وانتهاء بهذه العملية البرية أو تلك) كان سينجح في أن يدفع العالم إلى التصرف كما نشاء، فلعله حان الوقت لأن نفهم، في عمرنا المتقدم (فنحن بتنا أبناء 60!)، بأننا لسنا حقاً كليي القدرة، ويمكننا أخيراً أن نتعاطى مع الواقع كما هو، وليس كما نحلم». وفي وسط كل هذه الأصوات، ظهر صوت أو صوتان يقدمان رؤية مختلفة تماماً. فقد كتب «يوئيل ماركوس» مقالاً بعنوان «خمس ملاحظات على الوضع» (هآرتس 25 يناير 2008) يقول فيه: «لقد تدفق عشرات آلاف الغزيين على الأرض المصرية لشراء الغذاء والوقود، فيما كان المخربون معفيين أخيراً من حفر الأنفاق. قد يكون هذا سبب للقلق عندنا، ولكنه أيضاً يزيل الضغط الدولي عن إسرائيل كدولة مصابة بالجرائم ضد الإنسانية. من الآن سيكون القلق برمته لمبارك. ارتباط (حماس) بالإخوان المسلمين في مصر من شأنه أن يكون تهديداً زاحفاً على نظامه». ولكن يلاحظ أن تاريخ المقال هو 25 يناير 2008، أي قبل أن تظهر أبعاد الموقف كافة. والموقف عبّر عنه «جلعاد شارون» في (يديعوت أحرونوت 2008 يناير 2008) في مقال بعنوان «انتقال الشر إلى مصر»، يقول فيه: «إن انهيار السور وفتح المعبر بين قطاع غزة ورفح المصرية تطور حسن لإسرائيل، فقد أدخلوا المواد المتفجرة وسائر الوسائل القتالية في الماضي أيضاً، ولكن أصبح واضحاً للجميع الآن أننا غير مسؤولين عن مصير أهل غزة. أصبح كل شيء واضحاً الآن: هذه حدودكم، واجبكم منع التهريبات، وإذا كانت لكم أفكار في المجال الإنساني فتفضلوا وطبقوها بأنفسكم».ثم يشير الكاتب إلى أصحاب الرؤى المغايرة فيقول: «في هذه الأثناء نعجب للأصوات عندنا التي يقلقها فتح القطاع باتجاه مصر، ويقولون لنا أنظروا ما الذي سببه الضغط، كأنه يجب علينا أن نضبط أنفسنا أكثر لإطلاق النار الذي لا ينقطع علينا. وهذا بدل سماع تنفس الصعداء قليلاً لأن المسؤولية عن كومة الشر التي تُسمى قطاع غزة، قد انتقلت رسمياً إلى جهة أخرى». ومن الواضح أن كاتب المقال (وهو نجل آرئيل شارون، رئيس الوزراء والإرهابي السابق) شخص موتور وقع صريع الأوهام الصهيونية التي ترى أن سياسة الحصار والتجويع الإرهابية ستؤتي أُكلها يوماً ما، وهو ما فنّده الكتّاب الآخرون. وفي مقال في جريدة يديعوت أحرونوت (27 يناير 2008) بعنوان «العطش سيقود أهل غزة كالمسحورين لمصادر المياه الأقرب الاقتحام التالي.. الهائل.. باتجاه إسرائيل» بقلم «زئيف تسحور»، يطرح كاتب المقال متتالية جديدة لم تطرأ على بال أحد. فقد جاء في المقال: «إن المفاجأة الوحيدة في قصة اندفاع جماهير سكان قطاع غزة إلى مصر هي أن حكومة إسرائيل فوجئت بما حدث. فهل الموساد والشاباك والاستخبارات المجيدة عندنا لم تنقل إلى الحكومة المعلومات التي يعرفها كل واحد من السكان في غلاف غزة؟».«من سمع المرة تلو الأخرى، الانفجارات المخيفة لنار المدفعية في ضواحي بيت حانون كلما كان يطلق من هناك صاروخ قسّام، يمكنه أن يقدر بأن حدود المعاناة الإنسانية توشك على التحطم. من رأى في الأسبوعين الأخيرين قوافل الشاحنات المحملة بالغذاء من إسرائيل تعود من معبر كارني دون أن تنزل شحناتها، عرف أن هناك جوعاً في القطاع. لا حاجة لوحدات التنصت المجيدة للجيش الإسرائيلي كي يعرف المرء أن 10 أنفاق تهريب من الحدود المصرية بل وحتى مئات الأنفاق لا يمكنها أن تغذي مليون ونصف مليون جائع. سادتي وزراء الحكومة، كي لا تقولوا مرة أخرى إنكم فوجئتم، فإن التوقع بالاقتحام التالي الهائل، الذي سيتدحرج ككرة الثلج من القطاع، ويحطم الجدار الذي يغلف غزة، سيذهب هذه المرة ليس باتجاه مصر بل باتجاه إسرائيل. الاقتحام التالي لن يتم لأن حماس ستنظم الباصات مع الإعلام والشعارات، الاقتحام التالي سيقع في اليوم الذي تنفد فيه المياه من المخزونات الجوفية للقطاع». ثم يشير الكاتب قائلاً: «إنه ليس من الصعب حساب متى ينفد الماء، المعامل الوحيد هو سنوات من الجفاف، مثلما هو الحال هذه السنة. الوقت قصير ولكن الجفاف سيزيده قصراً».ثم يحذر الكاتب قائلاً: «إنه حينما ستندفع الكتلة الفلسطينية العطشى نحو المياه، لن يعطي أي ضابط في الجيش الإسرائيلي أمراً بإطلاق النار عليها، لن يطلق النار أي جندي. كل مخزون السلاح لدي إسرائيل سيكون عديم القيمة أمام الكتلة الإنسانية التي تتحرك بتصميم من ينعدم لديه البديل، آلاف النساء الحوامل، أمهاتهن العجائز، وخلفهن مئات آلاف الأطفال والرجال العطشى، ووجهتهم جميعاً نحو صنابير مياهنا. ساعة الرمل لهذه الهجمة مصنوعة من ملح البحر، ملح يحتل يوماً بعد يوم مخزون المياه الجوفي لغزة. العطش أقسى من الجوع لا يمكن الصمود أمامه. قوة المندفعين نحو المياه ستحطم كل سور واقٍ».وختاماً، يمكن القول: إن التقييم الحقيقي لهذا الحدث ما قاله كاتب هذا المقال: «ما حدث الآن في غزة ليس مجرد اختراق للجدران، هذا تغير استراتيجي جرد السياسة الإسرائيلية من ملابسها. نظرية التصدي للإرهاب من خلال حبس منطقة جغرافية كاملة من وراء الجدار الذي انهار، والسياسة التي رغبت في إحداث عصيان مدني ضد قيادة (حماس) انهارت، والاحتكار الذي احتفظت به إسرائيل لنفسها على عملية السلام قد تبدد وتلاشى. من الصعب على الشريك الفلسطيني الآن بدرجة أكبر إجراء مفاوضات مع إسرائيل. وهناك مسألة أشد خطورة في سيناء، يتجول الإرهابيون الآن ويستطيعون اجتياز الحدود المصرية المخترقة».والله أعلم.* عن/ جريدة « الاتحاد »ا لاماراتية