التعثر بالآخر .. وشعرية الرؤية
سلطان عزعزيفي إصدارها الشعري الرابع المعنون بـ (اشتغالات الفائض) تختط الشاعرة هدى أبلان افتراقات إبداعية ملحوظة على صعيد الاشتغال البنائي للنص الشعري، قياساً بإصداراتها السابقة (ورود الملامح) و (نصف انحناءة) و (اشتماسات) وهذا الافتراق لا ينصرف على حقل التجربة الشعرية للشاعرة نفسها، بقدر ما يرسم تمايزاً خاصاً إزاء عدد من الأصوات الشعرية النسوية المجايلة للشاعرة نفسها إذ تنحو اللغة إيغالاً في البوح الشعري متخففة من الدوران في تهاويم لغة الجسد الأنثوي ومفرداته الموازية، بحثاً عن المعنى الإنساني الأعمق لأسئلة الجسد في تقاطعاته الكبرى مع إشكالية الوجود الإنساني العام، وما ينبثق عنه من القيم والمثل والعلاقات الاجتماعية وهو ما يجعل نصوص المجموعة الشعرية تنفتح على تكثيف شعري يعتمد على التعبير الرؤيوي للذات الشعرية في تداخلها مع الذوات المحيطة بها، حيث تتحول الذات الشعرية إلى وسيط دلالي يتحسس الاختلالات والتشظيات التي تنتج فجيعة الذات الشعرية ولا تتهددها بمفردها بل تنذر بانفلات قيمي، ترتسم تداعياته على البعد الإنساني العام للذوات المحيطة بها.إن اللغة الشعرية وما تنضح به من نضح رؤيوي في المجموعة، تشي بمحاولة للخروج من محنة وعذاب سؤال الذات الشعرية - كجسد - إلى فضاء اجتماعي إنساني ينفتح من على قلق الوجود ويستوعب أسئلته الجارحة.إن الذات الشعرية لا تقترح خروجها من معتقل الجسد الأنثوي للذات بل ينكشف انفتاحها على دروب واسعة للحياة بعيداً عن أسوار الذات وعذابها الخاص .. هكذا تقترح الذات الشعرية إيقاف النزيف الخاص ضمن رؤية إنسانية النزوع تنتصر لقيم الصدق والتوازن والجمال ضد الهشاشة والخيبة والزيف الذي تتحسسه الذات الشعرية وهي تترصد تشققات وانكسارات الذوات المحيطة بها، حيث تنزع الذات الشعرية للاحتفاء بالحياة في مواجهة الموت، الذي يتهدد المرأة والرجل معاً هكذا يتحقق الخروج من أكثر من نص وهو ما يجعلها تعلن في أكثر من موضع: [c1]حين تضيق الروح من قميص موتها المثقوب بالحياة.. أجي من خارج النار التي داخليستخرج امرأة من شرشفها الكاتم للسر.سيخرج طفل من ظلمة باذخة باللحم الناطق لي الآن أن أخرج من تشققات يديك.سيخرج رجل من رماده.[/c]تنتظم دعوة الذات الشعرية للخروج في المجموع من اللافعل والعجز إلى الفاعلية الإنسانية ، إنه حث للخروج من المظهر الخادع والفعل السطحي إلى عمق الموقف .. إنه الخروج على لحظة داخل الزمن المسكون بالخيبة والخواء إلى زمن الاستواء والتوازن والامتلاء.في النص الأول الذي حمل أسم المجموعة “اشتغالات الفائض” تضعنا الشاعرة هدى أبلان أمام مواجهة الفائض عن حاجة الكائن الإنساني للتوازن والانسجام، ويتخذ النص الشعري منحى إنسيابياً متواتراً متكئاً على بنية سردية حوارية تتجه نحو الخارج - الآخر - الذي تستدعيه الذات الشعرية، وترصد انعكاساته القيمية عبر خمسة مقاطع نصية. إذ يبدو الآخر كطارئ ومعطل الفاعلية، وتتمازج في حركة النص الشعري حاسة البصر واللمس والتذكر والرغبات وتنصهر في مختبر التعبير الشعري ضمن رؤية مكثفة الدلالة ومتعددة الإيحاء، وتنبثق ترميزات حاسة البصر في استخدام الشاعرة لمفردات اللون - اللوحة - الدم الذي يصنع حمرة العالم واستحضار الفنان يبكاسو والفنانة آمنة النصيري تعميقاً لهذا التشكيل البصري.[c1]حين يندلق من يديك اللونوتفيض الأشياء عن إطار اللوحةوتخرج الريشة شاهرة رأس “بيكاسو”أو ربما أصابع “آمنة النصيري”تذكر أن الخيبات وحدها ستتجمعلتصنع لوحة فائضة عن الحاجة. [/c]وكما يحفل النص بالتقابلات الدالة للمفردات التي تسهم في تكريس معمق بالتناقض والالتباس الفائض عن حاجة الإنسان المعرفي، الذي يتلبس الآخر المخاطب، ويبرز ذلك في النص عبر أفعال المضارعة “يندلق - تخرج - تصنع - تتجمع” وكما يتعزز البعد الرؤيوي الشعري في إكثار الشاعرة من استخدام سين الاستقبال في قول الشاعرة - في المقاطع التالية:[c1]سترى الضوء في الطعنةالنسيان في جثث أصدقائكلسان طفل في تأتأة السياسيينالعفة في الليل..ستكون ابن مدن كثيرة..ستدمن غزو الجغرافيا.ستصبح حمالاً في ميناء الدنياستركض في عناوين المنسيين أنت العاشق بقلب أصدقائك[/c]يتوجه الخطاب الشعري في النص باتجاه الخارج - الآخر - الذي يعبر عنه من خلال ضمير المخاطب - في الزمن الحاضر- لتنفتح على فجائعية وتشوهات ومصائر هذه الأفعال في المستقبل فتتوسط الذات الشعرية هذه الأفعال عبر رؤية تنبؤية تنذر بكارثة التشوه والعجز والتقمص الناجم عن فعل الآخر في تشوهات هو خلل لا يقتصر على تشوه الفاعلية الخارجية لديه، بل تطال البعد الروحي والأخلاقي، فالآخر يبدو عاجزاً عن الإقامة داخل ذاته وإحساساته الطبيعية، فهو مستلب - روحياً وعاطفياً - حتى الحب لا ينبع من داخله و(أنت العاشق بقلب أصدقائك). إن الحب كفاعلية معطلة داخل الآخر بل تتحول إلى منطقة للاختباء وتقمص لمشاعر الآخرين. إن ثمة اهتزازاً يتخلل بنية القيم الروحية والعلاقات الإنسانية المحيطة بالذات الشعرية فهي تمضي لتحسسه وتلمس انبعاثات دفئه في العلاقات الإنسانية الحياتية، فتصدم بعبثية ولا معقولية ما يحدث ففي قصيدتها “الليل يسوط ما حوله” تومض بهذا المقطع الختامي للنص بالقول:[c1]لا قمر بعد اليوم سيدخل بيتيالقناديل مهشمة في رؤوس الرائينالأحجار لن تصطك ببعضها لخلق النار الدفء بين الأحبة أصبح حرقاً للوقت. [/c]وفي موضع آخر يتحول الحب في النص الشعري إلى حالة تذكرية استرجاعية، تستدعيها الذات الشعرية، كلما أشتد الضجيج حولها في الخارج واشتعلت لوعة الذات للطمأنينة ففي قصيدة “القاهرة” وأمام النيل تطل الذات الشعرية من شرفة التذكر في حوارية مع تفاصيل مدينة القاهرة بالقول: [c1]حيث الإنسان يحيا متعثراً بالآخر متكئاً عليه أتذكر رائحتك التي تخرج من جلدي لتدخل في قميص الحب أتذكر أصابعك الغضة التي ستكبر وتشد عضد الكلمات ترفع الظل المنهك الخطوات تأخذه حتى طرقة باب ملتاعة ليضيء كل ما في القلب من غرف وزوايا . [/c]تنبني معظم نصوص ( اشتغالات الفائض) على تماسك محوري للرؤية الشعرية جوهرها الرفض للمظهر الخادع والنفاق الاجتماعي والضلال المعرفي الذي يستبدل الحقائق بالأوهام والصدق بالأكاذيب والصور الأصلية للقيم بالنسخ الباهتة والزيف ، الأمر الذي يجعل من المحو والنفي والنكران علامات طاغية الحضور في الواقع الاجتماعي يحرض الذات الشعرية على استنهاض طاقة المخيلة الشعرية لتعرية ارتساما ته المختلفة. ويبرز ذلك بصورة أوضح في دلالات عدد من النصوص مثل (نيجاتيف) و ( ضلال المعنى) و( اشتغالات الفائض) كما يتجسد الانبعاث الرؤيوي للذات الشعرية في قصائد ( انفلات) و( الرؤية تستيقظ بأظافر طويلة محفوفة بغيمتين). ويمكن أن نلمح حضور الموقف الشعري إزاء الاستبدال للمعاني والصدق وحلول المظاهر الزائفة في قصيدة (نيجاتيف) حيث تقول : [c1]لا أحد هكذا صارت كشكشة الورقة أصدق من نبض اللحم. الحبر أكثر حلولاً في أوردتنا من الدم. الإمضاء أكثر حفراً في الجسد من التواءات القلب الضحكة التي تصدح في آذان الدنيا صارت تمتمات في فنجان عزاء هكذا كل شيء يذوب من شدة النفي - من الأيدي المرفوع للنكرانمن هندسة الزيف في عيون تبتكر الضلال فلتوزع الحياة حريرها الأبيض على كل الجهات ولتخل الساحة للموت الذي سيحكمنا بكل هذه الأناقة.. [/c]إن الموت في الرؤية الشعرية في النص لا يحضر كموقف ترتهن إليه الذات الشعرية بصورة مسبقة بل تأتي انبثاقاً لحالة تأملية شعرية إزاء عدد من العلائق والإحساسات والمواقف والأفعال التي توجد في شبكة العلاقات الإنسانية والاجتماعية خارج الذات الشعرية.ويتعمق هذا الإحساس عبر العلاقة الاستبدالية التي يمكن تمثيلها بهذه التقابلات..[c1]صدق الورقة - ينبض اللحمالضحكة - تمتمات عزاء الحبر - الدم الإمضاء - الجسد [/c]إن النصوص في مجموعة ( اشتغالات الفائض) وهي توجد ضمن تركيب شعري متقن ويمكن ملاحظة ذلك في تلك الكثافة التعبيرية للسطر الشعري.. إن ثمة كثافة شعرية في نصوص المجموعة لما تختزنه من الطاقة الشعرية الرؤيوية وهو ما يجعل السطر الشعري في معظمها يكاد يستقل بنفسه ودلالته كنص شعري مكتمل الوظيفة ويتجلى ذلك في هذه المقتطفات السطرية من نصوص مختلفة كقولها:[c1]المدينة معمار الرأس خراب عند الاتكاء لست أكثر من ظل لعابر فقدته ذات سير أجيء من خارج النار التي في داخلي الدفء بين الأحبة أصبح حرقاً للوقت لا شيء يمشي على الوجه غير حذاء الحقيقة أجمل النار ما نشعله في قسوة السواد وحده الصمت ينبح في وجه ثرثرة الطعنات[/c]وختاماً يمكن القول إن ( اشتغالات الفائض) لم تعكس اقتدار الشاعرة هدى ابلان على حفر انجازها الخاص الذي ينضاف إلى تجربتها الشعرية فحسب بقدر ما استطاعت هذه المجموعة أن تقدم الشاعرة هدى ابلان. نجد انفتاحاً تجريبياً على تقنية شعرية منفتحة الدلالة على البعد الإنساني العام بعيداً عن الاحتباس داخل القاموس الأنثوي الملحوظ في عدد من التجارب الشعرية الأنثوية عربياً ومحلياً .