قصة قصيرة
ـ أنا في ورطة الآن. ترى هل من معجزة تنقدني مما أنا فيه؟قال عبدالرزاق (أبو جمال) الرجل الفقير الحال محدثاً نفسه وقد أصابه الذهول وهو يرى السائح والسائحة يقتربان من المكان الذي هو فيه، وتمتلكه حالة من الخوف والارتباك وهما يتقدمان نحو المخزن. تقدم السائح والسائحة بخطى ثابتة وهما يركبان الحمار.. عفواً ـ أقصد خطوات الحمار الثابتة ـ ما العمل؟ تساءل أبو جمال لقد صرفت ثمن الحمار.سرت في حركته حالة من الارتباك. هل ينفذ بجلده؟اقترب السائح والسائحة من المخزن أكثر وقفا أمام الباب مباشرة ـ عفواً أقصد وقف بهما الحمار. فهما مازالا راكبين. اقترب صاحب المخزن منهما، شيء من الفرح داخل أبا جمال قال لنفسه لقد جاء الفرج، سيطردهما أبو العبد الآن فهو لن يسمح للحمار بالوقوف أمام متجره. ومهدئاً من روع نفسه قال: فرجت يا ابا جمال.جميلة منك هذه الخطوة يا ابا العبد. من لا شر فيه لا خير فيه. الآن آمنت بهذه الحقيقة. لم أكن اقتنع من قبل باجتماع الخير والشر في ذات الجسد ـ فكر أبو جمال.حاول ألا ينظر باتجاه الحمار.ـ ربما جاء السائح والسائحة إلى هنا بالصدفة لا للبحث عني. قال لنفسه.التفاتة منه أفلتت رغما عنه. ورأى. فيما يرى الذاهل يد أبي العبد تمتد إلى السائح والسائحة ـ يصافحهما وابتسامة تتمطى على فمه لتمتد من الأذن اليمنى حتى الأذن اليسرى. وأمتدت اليد ذاتها بعد ذلك إلى الحمار لتمسد شعر رقبته بحنان غير عادي، وذات الابتسامة وبذات الطول وذات العرض متجهة إلى وجه الحمار. كشر الحمار عن أسنانه ورد على ابتسامة أبي العبد بأدب جم.ـ والله أجاك العز يا حماري. قال ابو جمال لنفسه. لك العزل والدلال سبحان مغير الأحوال.وفيما اصحاب المتاجر المجاورة يفدون إلى متجر جارهم كان أبو جمال غير قادر على كبح خياله السابح في اللحظات القليلة الماضية غير قادر على التمييز ان كان ما يراه حقيقة أم مجرد أضغاث أحلام.اللحظات القليلة الماضية كانت بالنسبة له كابوساً انتهى على خير. أو ربما لم ينته بعد وسيبدأ من جديد الآن، من يعلم؟تذكر اللحظة الكابوسية، أو كوابيس الأيام الماضية التي عاشها في انتظار العيد. فالعيد على الأبواب. الأولاد بحاجة إلى ملابس للعيد، بحاجة إلى عيدية. بحاجة إلى لحمة العيد. والعبد الفقير لله عبدالرزاق لا يملك نيكلة واحدة. وأبواب الأرزاق مغلقة في وجهه. لم يعد يتذكر آخر مرة أشترى فيها ملابس جديدة أو حذاء جديداً لأي من أبنائه. وكابوس العيد يقترب ويقترب ويجثم على صدره. ما العمل؟ خرج من بيته راكباً حماره. توجه للبحث عن عمل. لم يكن في جيبه ما يمكنه ان يستقل أية وسيلة مواصلات أخرى. وصل المدينة. رام الله بعماراتها الشاهقة، بفاتريناتها التي تنادي على الرائح والغادي، اسواقها التي تكتظ بالبضائع من كل نوع ولون، شوارعها الواسعة وكل شيء فيها يضيق أمامه دون أن يجد فرصة عمل تحل له مشكلة العيد العالقة. بدأ اليأس يأكل قلبه والتهم البقية الباقية من بصيص الأمل لديه. سحب حماره وصعد به من شارع البريد. وقف هناك حول الدوار وهو يشعر بدوار في رأسه. ترى إلى أين يتجه؟ هل غرباً ليواصل البحث عن العمل لعل المعجزة تحصل في بيتونيا مثلاً؟ هل شرقاً ليعود خائباً من حيث أتى؟ هل.. هل..؟وبينما هو مستغرق في التفكير حصلت المعجزة.جاء رجل من اقصى المدينة يسعى باحثاً عن شخص يحرث له الحواكير المحيطة بمنزله. وما أن رأى الحمار حتى عقد أكلاً على ان يستقبل العيد ببيت لا تحيط به الأعشاب والأشواك من كل صوب. اتفق الرجلان على الأمر على أن يأتي أبوجمال في الصباح الباكر ليباشر الحرث "وقع العقد بالأحرف الأولى" قال عبدالرزاق ممازحاً نفسه وقد كبر فيها الأمل.عشية العيد "يوم الوقفة" انتهى أبو جمال من عمله. تقاضى أجره وعاد مسرعاً يركب حماره تارة ويسحبه تارة أخرى حسب ازدحام الشارع. في قلب المدينة الهادئة جداً والصاخبة جداً أخذ بثقة ينظر إلى المحلات التجارية، ففي جيبه ما يدفئ الجيب ويخفف من صقيع القلب. بدأ يلقى من أصحاب المحلات التجارية ما لم يدخل له في حساب.وقف أمام عمود كهربائي سحب "رسن" الحمار وأراد أن يربطه بالعمود ليدخل إلى المحلات احتج أبو فارس. وقال هذا لا يجوز. لا تربط الحمار هنا. وقال أبو العبد صدق المثل: فتحنا له دخل هو وحماره. تعليقات وأوامر كثيرة وسخرية مريرة واجهها عبدالرزاق في كل الأماكن التي توجه إليها. لا أحد يفهم ولا أحد يستفهم. صرخ بأعلى صوته. ياجماعة اليوم وقفة العيد وغداً العيد. عيد الله صام الغني ليشعر مع الفقير. ليس بالجوع وحده يكون الشعور. تكلم وصرخ ولكن لا حياة لمن تنادي. ضاع الوقت وغداً العيد وعليه ان يعود إلى قريته قبل ان يدركه الظلام ولكن ما العمل. ما بين نداء الليل الذي يدعوه للعودة وما بين نداءات أطفاله الذين ينتظرون عودته بالثياب الجديدة حيرة ما بعدها حيرة.جاء السائح والسائحة، انتشلاه من بحر الحيرة حين استأجرا حماره دفعا له مبلغاً مجزياً لم يفهم ان هذا المبلغ هو أجر الحمار لساعة أو بعض ساعة ظنهما اشتريا الحمار.عاد إلى السوق وها هو من جديد وجهاً لوجه أمام أبي العبد وأمام السائح والسائحة والأهم من هذا كله انه أمام الحمار الذي اصبح مدللاً في مثل لمح البصر.أبو فارس الذي عاش في بلاد الأجانب جزءاً من عمره ويتكلم الاسبنيولي اقترب منهم. وبدأ يتكلم بالاسبنيولي.السائح والسائحة يبتسمان. يتشجع أبو فارس ويقترب أكثر. يتكلم ويتكلم ولا أحد يدري عن أي شيء يتكلم. وأبو العبد يستجمع كل ما يعرفه من كلمات انجليزية منذ ايام الدراسة وما سمعه من الناس ويحاول ان يتحدث معهما بالانجليزية. أما ابو الكرم فظنهما يهوديين، وأراد ان يدلي بدلوه هو الآخر فقال: سلام توف.. سلام كويس.ولم يبخل بتربيته على ظهر الحمار ولا بتمسيده لشعر رقبته. وبلغ في مجاملته فاردف: خلاص اليوم NO انتفاضة.تبادر للحظة لذهن عبدالرزاق ان جحشه النهاق سيكف عن النهيق وسيبدأ الحديث عن صلاته بـ "أولادالعمومة" وأهمية التطبيع. ولكن خاب ظنه حين اقتربت امرأة تحمل ضمة من السبانخ، عبر الحمار لحظتها عن جوعه الشديد فاشرأبت أذناه واسترسل في نهيق محزن رق له قلب صاحبه ولعن اللحظة التي باعه فيها مرغماً. أما السائحان فقد ضحكا حتى كاداً يقعان عن الحمار. ارتبك الحمار وكف عن النهيق. جار أبي العبد المصور لم يطق ان يبقي بكاميرته بعيداً عن قلب الحدث.حمل الكاميرا في رقبته ودنا . فنظر السائح والسائحة إلى كاميرتهما فبدأ بالتقاط الصور. اقترب أصحاب المتاجر، وفي نفس كل واحد منهم رغبة في ان يظهر في الصورة مع السائح الأشقر وسائحته الشقراء.فواز المصور وضع اصبعه على الألم حين أعلن: ثمن الصورة الواحدة ثلاثة شواقل. وافق الحضور. وبدأ يلتقط الصور لهم مع السائحين والحمار. أزدادت الجلبة وضوء الفلاشات الساطع جعل الحمار يجفل. قفز السائح والسائحة عن ظهر الحمار. تنفس الصعداء رفع راسه بارتياح ومشط المكان بعينيه، التقت عيناه بعيني عبدالرزاق، سر الحمار وجرى باتجاهه. تقدم السائحان من عبدالرزاق. شكراه على الجميل الذي قدمه بتأجير الحمار وانصرفا. ربت عبدالرزاق على رقبة حماره. وضع مشترياته في الخرج ركب حماره ووصل البيت في جنح الظلام، لكنه كان يشعر بفرحة غامرة. الآن سينام مطمئناً لأن أطفاله سيلبسون ملابس جديدة وسيأكلون اللحم.في الصباح روى ما حصل معه بالأمس لأهل قريته فكانت القصة حديث الساعة طيلة ايام العيد. وذهبت "حكاية حمار عبدالرزاق في زمن النفاق" من يومها مثلاً.