يشهد اليمن منتصف الشهر الحالي حدثاً مهماً يتمثّل في انعقاد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الشعبي، الذي يعتبر أكبر الأحزاب اليمنية، وتعود أهمية انعقاد المؤتمر العام للحزب الى اسباب عدّة في مقدمها أن المؤتمر ينعقد في عدن وليس في أي مكان آخر، ومعنى ذلك أن اليمن بعد خمسة عشر عاماً على الوحدة صار بلداً لا فارق فيه بين مدينة وأخرى، على العكس من ذلك صار هناك أنصهارعلى الصعيد الوطني، بات من المستحيل معه التمييز بين يمني وآخر، ولذلك، يعتبر انعقاد المؤتمر العام للحزب الحاكم في عدن بالذات بمثابة تكريس لنجاح التجربة الوحدوية التي جعلت الشمال في الجنوب والجنوب في الشمال، لم يعد هناك أي فارق بين يمني وآخر في أي شكل من الأشكال، انها عملية ناجحة اسمها الوحدة اليمنية انتهت بعودة البلد الى وضعه الطبيعي من دون أي نوع من التعقيدات، وكانت العملية طبيعية الى درجة أن المحاولة التي استهدفت تقويض الوحدة فشلت فشلاً ذريعاً صيف العام 1994 رغم الدعم الخارجي الذي حظيت به ورغم المبالغ الضخمة التي رصدت لمشروع العودة الى الانفصال. واذا كان من درس يمكن استخلاصه من تجربة حرب الانفصال، فان هذا الدرس يتلخص في أن الوحدة تمثل الوضع الطبيعي لليمن، وأن من الصعب الانقضاض عليها أياً تكن المغريات، والدليل على ذلك أن انعقاد المؤتمر العام للمؤتمر الشعبي في عدن، التي كانت في الماضي عاصمة الشطر الجنوبي، وتحوّلت الى العاصمة الاقتصادية لدولة الوحدة، اصبح أمراً أكثر من عادي، بل أصبح هو الأمر الطبيعي، تماماً مثلما أن من الطبيعي أن ينعقد في صنعاء المؤتمر العام للحزب الاشتراكي اليمني الذي كان حاكماً في الجنوب قبل الوحدة.كان مهماً أن تجعل الوحدة الأحزاب اليمنية منتشرة في أنحاء البلد كله، وألاّ يعود الانتماء الى هذا الحزب أو ذاك مقتصرا على أبناء منطقة معيّنة او قبيلة معيّنة، لقد جاءت الوحدة لتكرّس وضعاً جديداً في البلد قائماً على فكر متجدد وحضاري يستند الى الديموقراطية قبل أي شيء آخر، ولذلك يندرج انعقاد المؤتمر العام للمؤتمر الشعبي في اطار التجربة الديموقراطية داخل الحزب نفسه، على أن تنسحب التجربة على الحياة السياسية في البلد عموما، وبكلام أوضح، يمكن تلخيص حدث انعقاد المؤتمر الحزبي في عدن بأنه تأكيد لرفض العودة عن الديموقراطية، اضافة بالطبع الى تأكيد للممارسة الديموقراطية على المستويات كلها بما في ذلك داخل الحزب الواحد.استطاع اليمن منذ ما قبل الوحدة أن يميز نفسه في المنطقة، ولا شك ان تجربة المؤتمر الشعبي العام كانت طليعية في هذا المجال، انه الحزب الذي استطاع منذ البداية، أي منذ ما قبل قيام الوحدة تشكيل نواة للتجربة الديموقراطية التي تبلورت مع تحقيق الانجاز الكبير الذي تحقق في الثاني والعشرين من مايو من العام 1990. وما لا يمكن تجاهله أن المؤتمر الشعبي، الذي كان وليد فكر الرئيس علي عبدالله صالح، شكل لدى تأسيسه مظلة اجتمعت تحتها الاتجاهات السياسية اليمنية كلها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، من المتدينين المتمسكين بفكرهم الى الأقل تديناً المتمسكين بما يعتقدون أنه الأنسب لليمن، وباختصار شديد، علّمت تجربة المؤتمر الشعبي العام اليمنيين على قبول التنافس السياسي، وعلى صراع الأفكار بعيداً عن العنف، وعندما تحققت الوحدة وصار المجال مفتوحاً أمام التعددية الحزبية، جاء الانتقال الى التجربة الجديدة في شكل طبيعي، واستطاع كل يمني أن يختار الموقع السياسي الذي يتلاءم مع تفكيره من دون أي نوع من الاكراه، ثمة من بقي في المؤتمر الشعبي متمسّكاً بنهجه المعتدل، وثمّة من اختار الانضمام الى احزاب اخرى، وقد حصل ذلك بطريقة حضارية تقوم على احترام الرأي الآخر وعلى التنافس الديموقراطي من خلال الانتخابات التي تشارك فيها الأحزاب المختلفة.لا شك أن المؤتمر الشعبي العام في حاجة الى استعادة حيويته واثبات حضوره في أنحاء اليمن كلها في وقت يشهد البلد تطورات مهمة على الصعيد الداخلي في مقدمها الاستمرار في التجربة الديموقراطية وتجديدها وتطويرها في الوقت ذاته.كذلك يبدو الحزب الأكبر في اليمن في حاجة الى اثبات أنه قادر على أن يكون في مستوى التحديات التي تواجه البلد على غير صعيد، أكانت هذه التحديات اقتصادية أوتنموية أو سياسية أو مرتبطة بالحرب على الارهاب، ومن هذا المنطلق، يمكن القول ان انعقاد المؤتمر العام للحزب في عدن وليس في أي مكان آخر كان خطوة ذكية لتأكيد ان الحزب كان ولا يزال حزب اليمنيين كلهم وأنه حزب الوحدة اليمنية وحزب التجربة الديموقراطية التي ساعدت في تطويره وجعله قادراً على الانتشار في مناطق اليمن كلها وفي أوساط الفئات الاجتماعية كلها.يبقى الاكثر اهمية من ذلك على الصعيد الاقليمي أن اليمن يظهر مرة أخرى كم انه متطور مقارنة مع محيطه، انه الدولة الفقيرة التي تجري فيها انتخابات في شكل منتظم بمشاركة المرأة التي تستطيع أن تنتخب وان تترشح وأن تفوز وتدخل مجلس النواب.والحديث هنا عن انتخابات تجري على اساس حزبي من دون عقد أو خوف من الأحزاب، أياً تكن الأفكار التي تنادي بها، شرط الا تكون أفكاراً تحض على العنف الجسدي، أو الانقسام الداخلي الذي يهدد الوحدة الوطنية.حمت الديموقراطية اليمن واليمنيين، كما ساهمت في حماية الوحدة، والمؤتمر الشعبي العام بممارسته الديموقراطية داخلياً يلعب دوره الطبيعي على صعيد تقدم الحياة السياسية في البلد الذي عرف كيف يتطور بشكل تدريجي بما يجعله في منأى عن الهزات، والفضل في ذلك يعود الى حدّ كبير الى رجل اسمه علي عبدالله صالح، آمن بان اليمن قادر على خوض التجربة الديموقراطية، وبأن هذه التجربة تشكل الطريق الأنجع لتجاوز الصعوبات أياً يكن نوعها وأن من الأفضل للتطرف والمتطرفين أن يكونوا في مجلس النواب بدلا من أن يكونوا خارجه، أكثر من ذلك، يدرك الرئيس اليمني أن أفضل طريقة لكشف التطرف والمتطرفين وإظهارهم على حقيقتهم تكون بتحميلهم مسؤوليات عامة بدلا من تركهم يمارسون لعبة اطلاق الشعارات والمزايدة على الآخرين.وقد يكون الاصرار على عدم استبعاد الآخر، بل التعاطي معه والانفتاح عليه، أحد أسرار نجاح التجربة اليمنية، أما السر الآخر، فانه يكمن في أن ممارسة الديموقراطية تبدأ في البيت، في كلّ بيت يمني، وما المؤتمر الشعبي بتركيبته الغنية التي تجعل منه رمزاً من رموز الديموقراطية في البلد، سوى البيت الذي يحوي كل العائلات اليمنية من المناطق والقبائل والمشارب السياسية كلها ويتّسع لها، انه ضمانة لبقاء اليمن ديموقراطيا أوّلا وبلداً يسوده الاعتدال الى حدّ كبير ثانياً، والى اشعار آخر يظل الاعتدال الطريق الأقصر لمواجهة آفة العصر التي اسمها التطرف والمتطرفون الى أي فئة انتموا. صحافي وكاتب لبناني مقيم في لندن
|
مقالات
اليمن وتجربة المؤتمر الشعبي... لا عودة عن الديموقراطية
أخبار متعلقة