محمد بن عيسى الكنعانتكتنز المكتبة العربية كتاباً قيّماً لمفكر إسلامي كبير هو أبو الحسن الندوي رحمه الله، والكتاب يحمل عنوان: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، ففيه تجسيد للوضع الراهن وتوصيف جلي للخسارة التي يعيشها العالم أجمع، الذي يفتقر للجانب الروحي في أنماط حياته ومعاملاته، وتحكمه النزعة المادية المتسلطة، بسبب أوجه الانحطاط الذي يعاني منه المسلمون، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصناعي، وقبل ذلك كلّه العلمي والإعلامي، وانعكاس ذلك الانحطاط على مسيرة الحضارة الإنسانية، حيث غلبتها النزعة المادية تحت منهاج الغرب الليبرالي، وصارت المصالح هي معيار القيم ومحرك الأخلاق، ثم أثّر هذا في تقوقع المسلمين في مؤخرة مركب هذه الحضارة، على الرغم أنهم كانوا سادة الدنيا وقادة البشرية وشامة التاريخ قروناً متلاحقة.لا أدري.. لماذا جاز لي استذكار هذا العنوان ومحاولة المقاربة بينه وبين عنوان شبيه لحالة عصيبة نعيشها اليوم تقول: (ماذا خسر المسلمون من إرهاب القاعدة؟)، خاصة أن هذا التنظيم العالمي لم يعد ينكر أو يلزم الصمت تجاه القول بمسؤوليته أو تبنيه أعمالاً إرهابية في بعض دول العالم من ضمنها بلدان إسلامية، الأمر الذي يعني أن التنظيم أعلنها حرباً واستمر فيها على من يسميهم الصليبيين، متخذاً ميدان هذه الحرب كل شبر يوجدون عليه، حتى لو كان ضمن نطاق أرض الإسلام، فكانت التفجيرات والأعمال الإرهابية في أكثر من بلد عربي ومسلم، حتى المملكة بلاد الحرمين ومقصد المسلمين لم تسلم من هذا الشر المجنون، وحتى يمكن الإجابة العلمية بالدلالة الواقعية على هذا السؤال الكبير، لابد من الرجوع لتاريخ (تنظيم القاعدة) والوقوف على منهجه العقدي ومراحل تكوينه الفكري، التي أفرزت تلك الأعمال التي تنشر القتل والخراب والفوضى في أرجاء الأمة، وذلك من خلال الأبعاد التالية: البعد التاريخي.. أصل تنظيم القاعدة: هذا التنظيم ولد من رحم الأزمة الأفغانية بعد غزو القوات السوفيتية لدولة أفغانستان عام 1980م لمساندة الحكومة الشيوعية في كابول، التي وصلت إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 1987م، فكانت النتيجة وقوع حرب الثوار (المجاهدين) الأفغان مع القوات الغازية، التي أحدثت هزة في العالم الإسلامي، حيث تنادت الأصوات من تيارات دينية ومؤسسات سياسية للدفاع عن (شرف) الأمة وطرد الدب الروسي (الملحد) عن أرض الإسلام الأفغانية، فتوافد الشباب المتحمس من أقطار الوطن العربي وأرجاء العالم الإسلامي للمشاركة بما سمي وقتها (الجهاد الأفغاني)، وما صاحب ذلك من دعوة شاملة ودعاية عارمة في كل بلد عربي وإسلامي عن (عقيدة) الجهاد وفضله، من خلال الأشرطة السمعية والمقالات الصحافية والخطب الدينية والبيانات الرسمية، وكان ما يسمى (المجاهدين الأفغان) يتوزعون على (سبع) فصائل مقاتلة، كل فصيل يتواجد في منطقة معينة لتشتيت القوة الروسية وإضعافها وقطع إمداداتها عن الحكومة المركزية، بينما كان المقاتلون العرب (الأفغان العرب) يتمركزون في منطقة (خوست)، التي توجد بها (مأسدة الأنصار)، وهي (قاعدة) تدريب هؤلاء المقاتلين الذين يتشكلون من جنسيات عربية وأطياف إسلامية تتنوع من سلفية وأخوان وتكفيريين وغيرهم. هناك كانت بذرة (تنظيم القاعدة) الذي نما في تربة دينية تعج بالأفكار المتطرفة ومشحونة بالفقه التكفيري في أجواء القتل وصوت الرصاص، خصوصاً عقب اندحار القوات الروسية وخروجها المرير من أفغانستان عام 1989م، وبداية مرحلة تقاسم السلطة السياسية أو (جهاد البناء)، التي تصمد حيث اندلعت الحرب الأهلية الأفغانية بين (رفقاء السلاح) من فصائل من كانوا يسمون بالمجاهدين في أوائل التسعينيات الميلادية عقب كارثة احتلال الكويت عام 1990م، حتى تغير مسار هذه الحرب بشكل مغاير بعد ظهور حركة (الطالبان) على مسرح الأحداث عام 1996م، وعودة أسامة بن لادن من السودان الذي سافر إليه عام 1994م، وانضوائه تحت راية هذه الحركة المدعومة من النظام الباكستاني آنذاك عن طريق الجماعات الإسلامية الباكستانية. البعد العالمي.. جبهة قتال الصليبيين: خلال الفترة من ظهور الطالبان - وهم طلبة الشريعة - وحتى العام 1999م التي شهدت تمكن هذه الحركة من السيطرة على غالبية التراب الأفغاني، كان (تنظيم القاعدة) في طور التشكل الفكري السياسي، توجه بإعلان (الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين) عام 1998م، وهو العام الذي شهد أول عمليات القاعدة ضد المصالح الأمريكية في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين بنيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا)، فكانت شرارة الحرب المفتوحة والمعلنة بين تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن الملاحظ هنا وجود (حلقة مفقودة) في طبيعة العلاقة بين هذا التنظيم والإدارة الأمريكية في ظل تضارب الآراء حول هذه العلاقة، فقائل يرى أن تنظيم القاعدة ولد ونشأ تحت سمع وبصر الاستخبارات الأمريكية، في مقابل من يرى أنه لم يكن تحت الوصاية الأمريكية، بل وجد ضالته في محاربة الأمريكيين عقب انتشارهم العسكري في الخليج وتحديداً في (جزيرة العرب) حسب أدبيات التنظيم، رغم أن هذا الشعار الحجة قد سقط عندما تحول رصاص القاعدة إلى صدور المواطنين السعوديين من مدنيين وعسكريين كما حدث في تفجير مبنى قوى الأمن. هذه الحرب المدمرة بلغت ذروتها في تفجيرات نيويورك وواشنطن (الحادي عشر من سبتمبر 2001م)، وما جرت بعدها من ويلات على العالم الإسلامي، بداية من أفغانستان ونهاية بالعراق، مروراً بفلسطين التي تحولت قضيتها المركزية إلى المرتبة الثانية بعد أن صارت قضية الحرب على (الإرهاب العالمي) هي القضية الأولى والشغل الشاغل للعالم، خصوصاً أن الدول العربية تحديداً انشغلت في مكافحة هذا الشر الجديد الذي يلبس رداء الدين. البعد العقدي.. منهج التكفير عند القاعدة: ما سبق يؤكد أن هذا التنظيم الدموي ولد وترعرع في أجواء عنف ومشاهد دماء وضمن فكر متطرف هو نتاج تلاقي جماعات تكفيرية (المنهج) وخارجية (الفعل)، فبدأ التنظيم جهادياً وانتهى إرهابياً.. بدأ مساهماً في دفع الشر عن الإنسان المسلم في أفغانستان.. وانتهى يدفع المسلم إلى أتون الشر في كل العالم الإسلامي، فما الذي حدث؟ هل الخلل في منهج التنظيم العقدي؟ أم في فكر قيادته؟ أم في الظروف المحيطة به؟ وهل ما يقوم به هذا التنظيم يخدم الإسلام وينفع المسلمين؟ أم أنه تحول إلى مشرط راح يشوه العمل الإسلامي وعامل هدم في كيان الأمة؟ المتعمق في مسيرة الأمة التاريخية يلحظ أن استباحة الدم تبدأ من تأويل النص الديني من خلال منهجية التكفير التي جعلت الخوارج (كلاب النار) يكفرون الصحابة الكرام ويبررون قتلهم، كما فتحت المجال العقدي على مصراعيه لظهور فرق متطرفة وحركات باطنية كان لها الدور الأكبر في تلطيخ وجه التاريخ بدماء أبرياء المسلمين وغيرهم. تنظيم القاعدة لم يسلم من منهجية (التكفير) حين عمد إلى (تكفير الحكومات) تحت حجج واهية، وهذا بالتالي سوغ المبرر الديني لسقوط الأبرياء في أفعال التنظيم، بحجة أن ذنبهم تتحمله تلك الحكومات التي يصفونها بـ (الكافرة)، وهو نفس منطق الخوارج الذين برروا سقوط الأبرياء في حروبهم بأنهم ضمن قوات السلطان، لذا فأية جماعة إسلامية مسلحة أو تنظيم عسكري يزعم أنه جهادي.. (يستبيح) الدماء المعصومة (مؤمنة كانت أو مستأمنة أو معاهدة) من خلال فتاوى التكفير أو فقه التترس، أو يبرر أفعال القتل والتدمير التي تطال الأبرياء والممتلكات وتعطل تنمية الأمة وتشغلها عن رسالتها العالمية، بحجة الدفاع عن الإسلام وتحرير أرضه، إنما هو تنظيم (مفلس دينياً ومختل سياسياً)، كونه أحال الإسلام إلى دين (مكيافيلي) الغاية فيه تبرر الوسيلة، والإسلام لم يكن كذلك خلال تاريخه العطر الذي مثله الصحابة الكرام وجسده من جاء بعدهم من قادة الأمة المخلصين وجنود دينها الحقيقيين. قد يقول قائل: إن الإسلام لا يقبل الذل ولا يسكت على ضيم، لذا هو يدعو أتباعه إلى النفير، نقول هذا تقرير صحيح، ولكن لا يدعوهم إلى تدمير النفس أو الوقوع في محرقة العدو، فالإسلام يوازن بين شرف الوسيلة وسمو الغاية وبينهما تحقق القدرة وفق معطيات الواقع، حتى لا يكون حطباً أو وقوداً لحرب يديرها غيره، كما أن الإسلام يشدد على (اتفاق) الأمة، فليس لطرفٍ ما أن يستأثر بالقرار أو يختطف الإسلام بزعم حماية الأمة والدفاع عن ديارها. البعد الفكري.. موازنة العلاقة مع الغرب: لأن هناك خللاً واضحاً في فكر (تنظيم القاعدة)، فقد انعكس على استراتيجيته التي جعلته يدفع بالأمة إلى مواجهة (غير متكافئة) مع الغرب المتفوق حضارياً في كل الميادين العلمية والعملية، كما أن الغرب يمسك بتلابيب العالم من خلال المنظمات والهيئات الدولية وعلى رأسها (مجلس الأمن)، فضلاً عن التباين العسكري الهائل بين العالمين الإسلامي والغربي، وهو ما يعني أن المسلمين بحاجة أولى إلى مراجعة واقعهم المتردي، من خلال الحقيقة الكونية أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، التي تبدأ بمحاور حضارية رئيسة هي ميادين (الجهاد الحقيقي) والعمل المقرون بالعبادة، وهي (التجديد الديني) و(الإصلاح السياسي) و(الإبداع العلمي) و(العطاء الإنساني). ذلك الخلل يفسر حالة التخبط التي يشهدها التنظيم وسقوط شعاراته الواحد تلو الآخر، التي لم تقف على أرض ثابتة من المنطق الواقعي، أو تحقق قبولاً في الوجدان الإسلامي مقارنة بحركات جهادية أعلنت هدفها وحددت عدوها والتزمت أخلاق الحرب وجنبت المسلمين ويلات المغامرات والجنون الدموي، كما لا يمكن اعتبار (الغرب) كلاً واحداً، فهناك دوماً واقع فاصل بين سياسات الحكومات، وعلاقات الشعوب سواء غربية أو غيرها، فهل من العقل أن يحاسب الإنسان الغربي العادي بجريرة أو مواقف حكومته السلبية، خاصة أن هناك جمعيات ومنظمات ومفكرين غربيين يتبنون القضايا الإسلامية، وأن قصور بعضهم أو عدم تفاعل غيرهم إنما يعود إلى عجزنا عن اختراق المجتمع الغربي اختراقاً إيجابياً بوسائل عصرية ومنطق عقلاني. من ناحية أخرى.. فإن سلوك القاعدة يتعارض مع الأهداف الخيرة التي تنضوي تحت رسالة الإسلام الخالدة، التي تتميز بعالميتها، وسمو قيمها، التي تدعو للانفتاح مع الآخر والأخذ من حضارته ومد كل جسور العلاقات الإنسانية معه، كي يمكن لهذا الدين العظيم أن يدخل البيوت بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة. [c1]* عن/ صحيفة "الجزيرة" السعودية[/c]
ماذا خسر المسلمون من إرهاب القاعدة؟
أخبار متعلقة