أضواء
«تاريخ العلم هو العلم نفسه”. هذه العبارة التي قالها الأديب والفيلسوف الألماني “غوته” توضح رسالة “المؤتمر الدولي الأول لتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين”. عقدت المؤتمر “جامعة الشارقة” بالإمارات العربية المتحدة في الأسبوع الماضي، وشارك فيه أكثر من 300 عالم وباحث من 35 بلداً.وما أجمل أن تستهل المؤتمر “ورشة عمل مخصصة لتدريس فيزياء البصريات في المرحلة الثانوية باستخدام أساسيات ابن الهيثم”! أشرف على الورشة البروفيسور “تشارل فالكو”، أستاذ فيزياء البصريات، وعميد “قسم فيزياء الحالة الصلبة” في “جامعة أريزونا” بالولايات المتحدة الأميركية. وهكذا هو ابن الهيثم، يستبشر به العلماء، ليس لأنه أول عالم فيزياء في التاريخ فحسب، بل لأنه أيضاً أظرف من احتال على الدنيا لأجل العلم. يختصر اسمه ولقبه قصة حياته: “الحسن بن الهيثم المهندس البصري نزيل مصر”. وُلد في البصرة وفي مصر ادّعى الجنون لينجو بنفسه من حاكمها الذي استدعاه ليعمل “في النيل عملاً يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان”. ولم يزل على جنونه “إلى أن تحقق من وفاة الحاكم... وبعد ذلك أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وخرج من داره واستوطن قبة على باب الجامع الأزهر”. ذكر ذلك معاصره ابن القفطي الذي يخبرنا أن ابن الهيثم عاش من نسخ كتب إقليدس وبطليموس وأرسطو وجالينوس. و”إذا كان ذلك كذلك” حسب تعبير ابن الهيثم، فليستثمر كالشاعر العراقي المتنبي تعاسة وضعه بشكل عبقري. كان يدبر رزقه باستنساخ ثلاثة كتب في العام، مقابل 150 ديناراً مصرياً عن كل كتاب، وينقد علوم من يستنسخ كتبهم، فيؤسس المنهج العلمي الحديث قبل علماء عصر النهضة الأوروبية بأربعة قرون. وأصبحت المراجعة النقدية، والتجارب العملية، أو ما أسماه “الاعتبار”، ركنين أساسيين في تأليف “كتاب المناظر”. يذكر ذلك العالم المصري عبدالحميد صبره، أستاذ تاريخ العلم في “جامعة هارفارد” الذي يقول عن “كتاب المناظر”؛ إنه “أنفس ما أنتج العلماء العرب في مجال الفيزياء”. والله يعلم كيف استثمر ابن الهيثم تجربته في ادّعاء الجنون فوضع “أشمل وأنضج نظرية في سيكولوجية الإدراك الحسي وصلتنا من العصر القديم والوسيط” في تقدير عبدالحميد صبره. وبفضل بصيرة ابن الهيثم، نصل “بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي يقع عندها اليقين”، فندرك تعقيدات تشغل بالنا اليوم من خلال شرحه التالي لاختلاف النظريات بصدد البصر: “كل مذهبين مختلفين إمّا أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وإما أن يكونا جميعاً كاذبين والحق غيرهما جميعاً، وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحدٍ هو الحقيقة، ويكون كل واحد من الفريقين القائلين بذينك المذهبين قد قصّر في البحث فلم يقدر على الوصول إلى الغاية فوقف دون الغاية، ووصل أحدهما إلى الغاية وقصّر الآخر عنها، فعرض الخلاف في ظاهر المذهبين، وتكون غايتهما عند استقصاء البحث واحدة». وبعد سبعة قرون على رحيل ابن الهيثم، سيقول عنه مؤرخ العلوم “جورج سارتون”: “إنه المنبع الذي نهل منه الجميع، سواء كانوا في إنجلترا أو بعيداً في فارس.. لقد ترك أثراً عظيماً في الفكر الأوروبي من بيكون وحتى كبلر”. وامتد تأثير ابن الهيثم إلى أحدث التطورات التكنولوجية في صناعة البصريات. عرضت ذلك ورقة تطوير “المجهر البؤري” التي قدمتها في “مؤتمر الشارقة” العالمة العراقية كريمة الصالحي، من جامعة SLU في السويد. وفي معرض “ألف اختراع واختراع” المرافق للمؤتمر، صورة متخيلة لابن الهيثم، وهو يجري تجاربه البصرية في حجرة مظلمة تسمح بدخول الضوء من ثقب ضيق يعكس المرئيات على جدار مقابل. كان ابن الهيثم يسمي هذه الحجرة “البيت المظلم”، واشتهرت تاريخياً من بعده باسم “الكاميرا المظلمة» camera obscura. وكلمة “كاميرا” مأخوذة من كلمة “قمرة” العربية، حسب كتاب “ألف اختراع واختراع». وتمنيتُ لو أن “جامعة الشارقة” جعلت من المؤتمر والمعرض مهرجاناً شعبياً على غرار “معرض أبوظبي الدولي للكتاب”، الذي عقد في الشهر الماضي. إذْ لم يحدث أن تناول مؤتمر واحد مواضيع تراوحت ما بين “إسهام نساء الأندلس في العلوم” و”إبداع الأطباء العرب في جراحة الفم والوجه والفكين”، و”مذنبات وشهب ونيازك في التاريخ العربي الإسلامي”، و”سيكولوجية العلاقات الاجتماعية عند الفارابي”، و”مساهمة المسلمين في العمارة الأوروبية لعصر النهضة». ويفتح بعض البحوث آفاقاً جديدة في التفكير، كبحث أحمد جبار، أستاذ الرياضيات بجامعة “ليل” بفرنسا حول “علاقة اللغة العربية بنماذج علوم الرياضيات الجديدة”، وبحث المفكر الباكستاني الأميركي “منوّر أنيس” عن “العلاقة المتعضية بين الوحي والعقل في الإسلام”، وبحث عالم الجيولوجيا العراقي “منعم الراوي” حول “اكتشاف المسلمين للوقت السحيق وأثره على تطوير علوم الأرض”، وبحث “محمد الياس”، أستاذ الفيزياء في جامعة العلوم الماليزية، وعنوانه “هل يعود العلم للإسلام؟». والعلم كما يقول جورج سارتون “ثوري وإبداعي دائماً، هذا هو جوهره نفسه، ولن يكف عن ذلك إلاّ عندما يكون غافياً”. و”جامعة الشارقة” مختبر فريد للتحقق من نظريات الثورة العلمية. فهذه الجامعة بدأت بخطوط على الرمل رسمها مؤسسها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الرئيس الأعلى لجامعة الشارقة. وقد حصل سموه على شهادة البكالوريوس في الهندسة الزراعية من جامعة القاهرة، وعلى شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة “أكسِتَر” ببريطانيا. وتحولت الخطوط التي رسمها على الرمل عام 1996 إلى “المدينة الجامعية” التي تضم الآن ثلاث جامعات، وأكاديمية للفنون الجميلة، وكليتين للتقنية العليا، وأكاديمية للشرطة، ومكتبة عامة، ومؤسسة قومية للعلوم والتكنولوجيا، والمركز القومي للوثائق. عدد طلاب “جامعة الشارقة” وحدها قفز من 250 عام 1997 إلى 8 آلاف طالب حالياً. كيف نبتت “المدينة الجامعية” على كثبان رملية قرب “الربع الخالي” لم تشهد في تاريخها مدرسة أو معهداً؟ قد يدُلنا الجواب عن هذا السؤال على الفائدة العظمى لتاريخ العلوم والتكنولوجيا العربيين. فالحضارة، حسب المفكر العلمي الأميركي “ستيوارت برند”، كالشجرة التي تقف على ماضيها. خمسة في المائة فقط من كتلة الشجرة حي: الأوراق والنسيج الخلوي وخشب النسغ وأطراف الجذور. الباقي كله ميت. مع هذا فإن الهيكل الذي قام تدريجياً من خشب كان حياً ذات يومٍ وهذا ما يُتيح للأوراق أن ترتفع عالياً وللجذور أن تمتد عميقاً. وما أكثر مهابة من هيكل شجرة مسربل بالدم من أعلاه حتى قاعدته! هذا حال العراق اليوم، وقد بدت كتحية إجلال لعلمائه تسمية جلسات “مؤتمر الشارقة” بأسماء أسلافهم الذين أشادوا العصور الذهبية لعلوم العرب والمسلمين: الكِندي، وجابر بن حيان، وابن سينا، والرازي، وثابت بن قرة، وابن سنان، وابن الهيثم، والجاحظ، والفراهيدي، وبنو شاكر، وابن ماسويه، وألبتاني، والمسعودي، والتوحيدي، والماوردي. وعُهد بالإشراف على تنظيم المؤتمر إلى حميد مجول النعيمي، أستاذ فيزياء الفلك، وعميد كلية العلوم والآداب في “جامعة الشارقة”. اشتهر النعيمي ببناء وتشغيل مرصدين فلكيين في العراق، هما “البتاني” و”الكِندي”، وقد تعرض الأخير للدمار جراء القصف الجوي خلال حرب عام 1990! عن «الاتحاد» الإماراتية