الأبجدية تتعرى.. قصائد للإيطالي سباستيانو غراسو:
الشاعر الإيطالي سباستيانو غراسو يختار لكتابه الشعري عنوانا ذا دلالة، فالأبجدية التي تتعرى هنا، هي كل الأبجديات وليست أبجدية اللُغة وحسب. هو شاعر تأتينا قصيدته من تخوم الحياة القريبة والنائية معا، لأنه يتجوّل بحدقتين مفتوحتين بانتباهات تتهجى المشاعر والأحاسيس الإنسانية في جزئياتها..وصورها..وإيقاعها في روحه، وتؤسس منها بالذات قراءاته الشعرية للحب بوصفه مرآة العالم.«أبجدية تتعرى» قصائد ترجمتها للعربية المغربية حذام الودغيري، وقدم لها الشاعر أدونيس الذي كتب تعريفا بسباستيانو غراسو لقراء العربية حمل عنوانا لافتا «الحياة اليومية بوصفها امرأة عاشقة»، وحملت بعضا من ملامح نظرة هذا الشاعر الإيطالي للحياة والعالم، ولموضوع الحب بدرجة أساس.هو كتاب شعري يمنحنا كقراء عرب فرصة أخرى، لرؤية الشعر الإيطالي الحديث، خصوصا في سياق الحياة الجديدة في تلك البلاد المتوسطية التي لا نعرف من أدبها سوى القليل، بسبب «مركزية» الترجمات العربية في اللغتين الإنجليزية والفرنسية.«أبجدية تتعرى» ( منشورات دار التكوين - دمشق - 2.1. )، كتاب اللّوعة، في إصغائها لروح الشاعر في زحام الحياة اليومية، والمشاهدات الكثيرة . التفاصيل هنا تأخذ مكانا بارزاً، بل مفصليا نراه مفتوحا على شكل القصيدة ومحتواها معاً. ننتبه مع قراءة قصائد غراسو أننا نلامس المتخيل بأيدينا، ونتحسسه بأصابعنا، فيما تنشغل مخيلتنا بلعبة جميلة، هي كيفية استرجاع صور قصائد الشاعر، ورسمها مرّة أخرى في أذهاننا نحن قراء الشعر، الذين نظن أحيانا أن الحب قد تنحى جانبا عن الشعر، حتى تأتينا تجربة شعرية كهذه كي نرتطم بالحب ويرتطم بنا في لعبة مرايا متبادلة، تشعُ من أعماقها صور تولّد صورا في امتداد لا متناه، يلامس غراسّو بعضها، ولكنه - وهذا هو الأهم - يزجّنا في متاهاته الجميلة، كي نتحسّس بالوعي والمخيلة مواقع أقدامنا في عالم ينأى يوما بعد يوم عن صورته القديمة :[c1]«تقف الظنون بالمرصاد، كمثل بروقالزوابع ورجفات البردفي آخر يوم من العناد.بعد عامين أرجع وأبحث عنكلمات واستعارات وأقمار وحميّا مرهقة».[/c]القصيدة عند سباستيانو غراسو، أقرب إلى «يوميات روحية»، تكتبها اللوعة الكبرى، ونراها فسيفساء تكوينات لا تنتهي من العلاقات بأشياء ومفاهيم وصور وأفكار، تتزاحم كلُها كي تطأ أرض الشغف بحياة راهنة يراها الشاعر مسكونة بالحب بوصفه بؤرة الضوء، ومفتتح العيش ومنتهاه معا :[c1]« أطر هي نوافذ القطاربلوحات طبيعية متغيرةأشكال متحوّلة تذكرني كيف بدأتقصتنا التي بعد لم تنته»[/c]غراسُو يستعير المشهد في حالاته الواقعية، لكنه يأخذه إلى صوره الأخرى التي تبدو من حدقة المخيلة أكثر حقيقية، وأشد «واقعية»، إذ يستبدل عدسة الفوتوغرافيا، بعدسة القلب، لتأتي القصيدة عالما مختلفا، لعلّه يشبه العالم الواقعي ويحاكيه، ولكنه بالتأكيد شبه يستدرج الاختلاف ويحرّض عليه. هنا بالذات نذهب مع الشاعر نحو تلاله العالية، حيث من عليائها بالذات نرى الزمن، والتحوُلات، ونراهن مع الشاعر أن الحياة أقوى، وأكثر بلاغة.مهم في قراءة تجربة هذا الشاعر العاشق، رؤية الحب إذ يعيد صياغة البسيط وشبه البديهي، فسباستيانو غراسُو يمنحنا فنيات تتكئ على شغف بمعاينة وقع العالم الخارجي على الروح الداخلية، وهو يفعل ذلك بحرص واضح على تنمية حالة شعرية خاصة وذات ملامح شخصية، بل هي بالغة الالتصاق بصاحبها.قصيدة سباستيانو غراسّو لوحة تشكيلية تعيش مفرداتها حالة صراع دائم. إنها تطلق لتلك المفردات حرية رؤية صورها خارج سكونية الألوان والخطوط، بل في حميّا الإنشغالات الكبرى، وجحيم العيش الطافح بتكوينات إنسانية حادّة وجارحة نراها تتأمّل صورها في أرواحنا مثلما نتأمّل صورها الكثيرة في القصائد.في «أبجدية تتعرّى» شغف الغياب، فالقصيدة إذ تناوش الأبجدية في عريها، إنما تناوش عري العالم، المشاعر الكبرى والبسيطة، مثل الألم. في تجربة سباستيانو غراسُو الشعرية جموح نحو القصي من المشاعر الفردية، ولكن باعتبارها حالات للروح في العصر الراهن بالذات. التنقل بين قصائده هو تنقل في ضياع الألفة، وغياب الثبات، فسباستيانو ينغمس بكلّيته في ألم يتحرّر تماما من ذاكرة تقليدية، ليؤسس ذاكرة من لون آخر، وهو يفعل ذلك باتكائه على منمنمات تنسجها رؤاه، وأحلامه، وانتباهاته الصغيرة، ولكن أيضا موهبته الأدبية الطافحة برغبة لا تحدُ في توليد حالة شعرية مغايرة، تلمع ببريق الجديد . هو بهذا المعنى يصل تخوم الحداثة من حدقته الخاصة، الشخصية الفردية بالطبع، ولكن أيضا شديدة الصلة بوعيه الثقافي.ذلك ما يجعل قصائده اقترابا حميما من «فقه» ملامسة الشعرية لروح الحياة الأوروبية المعاصرة، في زمنها الأكثر احتداما ونهشا للقيم الإنسانية الكبرى.قصائد سباستيانو غراسُو جاءتنا للعربية بحذاقة مترجمة تعالت على المعنى والشكل المألوفين للترجمة، فحذام الودغيري قدمت قصائد المجموعة بحب طافح، نلحظه في بهاء اللُغة، كما في ابتعادها عن لعبة التكوينات الزخرفية، و«تفخيم» الجملة، فهذه الأديبة العربية التي أتقنت لغة دانتي، هي أستاذة في واحدة من أهم الجامعات الإيطالية، وهي أنجزت ترجمتها في الوقت ذاته الذي حققت فيه ترجمة بالإيطالية لمجموعتين شعريتين للشاعر أدونيس.ترجمة الأديبة ودغيري تتمتع بحذاقة المزج السلس بين مناخي القصائد واللُغة، ونحن نلامس ذلك في تمكُنها من زجّنا برفق وحميمية في عالم سباستيانو غراسُو الشعري.تجربة شعرية تعيدنا إلى شعر العالم من نافذة مفتوحة على الجمال، نتأمّل قصائدها ويملؤنا الشغف ويحدونا باتصال مع الآخر عبر الشعر وموسيقى الروح، ولغتها الأجمل.