لم أكن من قبل قرأت أو سمعت عن الكاتبة اليمنية زهرة رحمة الله، وحين سمعت اسمها من صديقتي الصحفية نادرة عبد القدوس سارعت للبحث عنها على الانترنت لأجد لها أربع قصص هي : الحب في حصار، الرجل الظل ، موت مواطنة، لاعناوين عادية بمضامين عادية بلغة وأسلوب ليسا عاديين.وبداية قبل أن أدخل في صلب الكتابة أود أن أقول أنني قارئة وكاتبة لكني لست ناقدة، وأترك النقد لذوي الشأن أي كما يقول المثل الفلسطيني " أعط خبزك للخباز" وها أنا أترك النقد للنقاد لأرى الأمور بعين القاريء وأكتبها بقلم الكاتب.فإذا نظرنا بالمجمل إلى القصص الأربع وهي كل ما أتيح لي قراءته لوجدنا أن الكاتبة تمسك بيد قارئها فينقاد وراءها منجذبا ومندهشا لأسلوب فيه من السلاسة والبساطة وفي نفس الوقت التكثيف الذي يجعل القاريء لا يعيش مع القصة الواحدة لحظات أو دقائق فقط بل تجعله مشدودا وكأنه مربوط بخيط من خيوط النسيج القصصي. وأي ابتعاد عن عالم القصة وجوها يجعل القاريء يخشى على هذا الخيط من القطع الذي قد يجرحه أو يفسد النسيج. هذا على الأقل ما أحسسته منذ بدأت أقرأ قصة الحب في حصار. وتداعيات كلمة حصار في ذهن الفلسطيني أكبر بكثير من تداعياتها في ذهن أي عربي آخر. من الحصار العسكري إلى الحصار السياسي ، إلى الجغرافي إلى الاقتصادي إلى الثقافي. عشرات بل مئات الحواجز العسكرية الإسرائيلية تنتصب أمام عينيه تمنعه من مواصلة طريقه، وربما ينتصب جدار الفصل العنصري الذي تفتقت عنه " عبقرية" شارون الفذة. هذا ناهيكم عن الحواجز الاجتماعية الكثيرة المتشابهة في عالمنا العربي من محيطه الثائر إلى خليجه الهادر .هذا التكثيف الكبير لمجموعة من الحالات التي تواجهها بطلة القصة " الطبيبة النفسانية" تستشف أن الحصار الاجتماعي بكل أشكاله ومفاهيمه هو السبب وراء كل الأمراض (النفسية)الاجتماعية، الاكتئاب، الانتحار ، الطلاق، الانفصال، الخداع والانخداع . وبالتالي علاجها واحد هو التحلص من الحصار الاجتماعي. حتى الطبيبة التي يأتي إليها المرضى رجالا ونساء لمعالجتهم من آثار الحصار هي أيضا محاصرة. حاصرتهم التقاليد مرة واحدة فأصيبوا بالاكتئاب أو القلق أو الانسحاق....إلخ أما هي فقد حاصرها مرات عديدة.من عناوين القصص يهيأ للقاريء أن الكاتبة كاتبة نسوية من الطراز المتعصب الأول، بمعنى أنها تتعصب لقضايا المرأة، من عنوان :الحب في حصار على فرض أن المرأة هي المحاصرة الأولى . وقصة: الرجل الظل يوحي عنوانها أن هناك رجلا مهزوزا ضعيفا إلى قصة " موت مواطنة" والتي تظهر في العنوان أن هناك حالة ما، ضحية ما ، هي امرأة كما عودتنا كثير من الكتابات النسائية التي تبرز المرأة الضحية ، ولست بأي حال انتقد الكتابات النسوية في هذا الشأن. وأخيرا قصة "لا" هذه الكلمة الصغيرة جدا لكنها تحوي في داخلها كل معاني الرفض والتمرد والقوة والمواجهة .لكن ما أن يبدأ القاريء بالتجديف في مياه هذه القصص ـ وهي مياه ليست راكدة على الإطلاق- حتى يكتشف أن الإنسان أولا وأخيرا هو هاجس الكاتبة . فتحمل قضيته على كتفيها وتدور بها باحثة عن حل لها. " لا ترتد إلى صدفتك المنسية .. لا تته في الغابة المجهولة.... " بهذه البداية دخلت الكاتبة إلى قصة الرجل الظل، لنقرأ من خلالها وضع الإنسان كيف ينطحن وينسحق في تجاوز سمة العصر" السرعة" لإنسانيته ، لرغبته وكيف يمكن أن تهدم استقراره وتمحو طفولته وماضيه وتاريخه. تطرح الكاتبة قضية جدلية في الصراع بين حضارات أو أجيال .بين القديم الذي يهدم بدون هوادة أو رحمة والجديد الذي يحل محله لكن ببشر آخرين ، وبين أسنان هاتين الطاحونتين يضيع الإنسان وإنسانيته.من تداعيات هذه القصة في ذهني بشكل شخصي، أنني ذرفت دموعا وأنا أرى بيت أبي وجدي والبيت الذي رعى طفولتي تهدمه الجرافات لتقيم مكانه بناء جديدا. كنت أشعر بالأسى والانسحاق ،رغم أنني لا أسكنه ولا يسكنه أحد. لكن الكاتبة تنهانا عن الارتداد الى الصدفة المنسية . فلا جدوى بعد أن فات ما فات.أشياء كثيرة أرادت الكاتبة قولها وأشياء أكثر لم تقلها وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه للتكهنات وللتداعيات الذهنية، وهذه أيضا تحتاج إلى مهارة لا يمتلكها أي كان.أما قصة " موت مواطنة" فإنها تحيلنا دائما إلى قضاء عاجز عن الوصول إلى الحقيقة. والوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى تضافر إرادات السلطات الثلاث المختلفة وربما دور السلطة الرابعة أيضا التي أصبح لها دور كبير جدا في العقد الأخيرخاصة . ومع ذلك تبقى الحقيقة نسيا منسيا، حتى تظهر جريمة أخرى وهكذا دواليك. موضوع كبير ومعقد تضعه الكاتبة امام السلطات الأربع وأمام المجتمع لتقول لنا إلى متى سنبق عاجزين عن الوصول إلى الحقيقة؟ الضحية الأولى امرأة الضحية التالية رجل. دلالات كثيرة وكبيرة.أما قصة "لا " فهي قصص الغالبية الساحقة من النساء،وهمومهن التي لا يعرفها أحد سواهن. رغم أن قلة منهن قلن لا.ما أريد أن أقوله في هذه العجالة أن الكاتبة بارعة في سبر أغوار أبطالها دون أن تسقط ذاتها عليهم. وهذه أيضا مهارة إضافية تسجل للكاتبة، فقد برعت الكاتبة في اختيار أبطالها، مرة بطلتها طبيبة ، ومرة بطلها رجل يتمسك بماضيه أو بتراث أبيه وثالثة بطلها محقق ورابعة بطلها امرأة مسحوقة تمردت على سحقها.الكاتبة لم تقم هي بأدوارهم بل جعلت من أبطالها الرئيسين والثانويين بشرا حقيقيين يتحركون في مساحات حقيقية، مرة تتحدث بضمير المخاطب ومرة بضمير الغائب، وتبقى هي الضمير الحي الذي لا يغيب و المراقب والشاهد لهذه التحركات تسجل بأمانة ، برقة وبدقة وبحس مرهف عبرت عنه في أكثر من موقع وأهلتها لغتها الثرية جدا لذلك.ـــــــــــ* وداد البرغوثي : اديبة وأكاديمية فلسطينية
|
ثقافة
الأديبة اليمنية زهرة رحمة الله هاجسها الإنسان ومنطقها يؤهل للدفاع عن كل قضاياه
أخبار متعلقة