منبر التراث
[c1]في السودان[/c]من فترة ليست قصيرة , سافرت إلى السودان الشقيق لدراسة الإعلام الصحفي في جامعة الخرطوم وذلك على حساب منظمة اليونسكو في باريس التابعة للأمم المتحدة . ومكثت في لمدة ستة شهور ، وفي خلال تلك الشهور تعرفت على الكثير من جوانب الحياة السودانية ومن بينها عشق السودانيين للغناء والموسيقى ، حقيقة أن السودانيين شعب يحب ويتذوق الأغاني العربية الأخرى ولكن الأغنية السودانية تأخذ مساحة كبيرة من عقله وقلبه , ويعتبرها من أجمل وأفضل الأغاني دون منازع لحناً وغناءاً . أو إن شئت فقل الأغنية السودانية فوق الجميع .[c1]ملامح الأغنية السودانية[/c]والحقيقة لقد دار نقاشاً بيني وبين الكثير من طلاب جامعة الخرطوم , وبعض الأستاذة في الجامعة حول ذلك التعصب الشديد للأغاني السودانية واعتبارها أفضل من الأغاني العربية الأخرى وإن لم يكن أفضلها على الإطلاق - على حسب رأي إخوانا السودانيين - . وعندما تترامى إلى مسامعنا أغنية سودانية نشعر أنه هناك خليط بين اللحن النابع من قلب القارة الأفريقية أو كأننا في أدغال أفريقيا وكلمات الأغنية النابعة من التراث السوداني فيصعب على الأذن غيرال سودانية فهمها بوضوح ، ولكن مع التعود يبدأ المرء على تذوق الأغنية السودانية ، فيحبها ويعشقها بكل معنى لهذه الكلمة . حقيقة أنني لست من فرسان النقاد الفنيين المختصين بشرح وتفسير وتحليل الأغنية السودانية ولكن عندما تسمع ألحانها فإنها تأخذك بعيدًا من الحياة المادية إلى حياة شفافة ونقية ، وحالمة ، وإذ تعمقت من كلماتها تحس أنها تخرج من القلب إلى القلب , وأتجرأ وأقول أن الكثير من الأغاني السودانية الحديثة نابعة من التراث السوداني الأصيل . فقد تمكن الفنان السوداني أن يمزج بين الحداثة والأصالة بصورة متوازية ولذلك السبب تظل الأغنية السودانية متألقة دائماً في عالم الغناء والموسيقى متدفقة بالحيوية ومليئة بروح الشباب .[c1]في عالم الجمال[/c]ولقد ذكرنا سابقاً ، أن لحن الأغنية السودانية الأعم الأغلب منها نابع من صميم قلب القارة الأفريقية ولكن مع الاحتفاظ بالهوية العربية الصميمة ، فتمتزج هوية التراث العربي الأصيل بالألحان النابعة من أفريقيا السمراء فينتج عن ذلك أغنية سودانية عذبة تداعب خوالج النفس , وتهز المشاعر وتجعلك تحلق في أجواء الجمال والرواء والخيال . والجدير بالإشارة أن كلمات الأغاني السودانية كلمات رقيقة رصينة بعيدة كل البعد عن الإبتزال والسطحية الذي يحدث في كثير من كلمات الأغاني العربية وعلى وجه التحديد الأغاني العصرية .[c1]التواشيح السودانية[/c]وفي فترة من الوقت سكنت في السوق العربي بالخرطوم وهو سوق شعبي مشهور بتجارة الحناء يصدرها إلى مختلف مناطق السودان. وعندما كان الليل يخيم على المدينة . كان الحمالون والعاملون في السوق يتحلقون حول نار فوقه براد شاي ضخم ، ويدخنون النارجيلة . وكان من بينهم من يحمل دفاً ضخماً يقرع عليه بأصابعه ويغني التواشيح والأناشيد الدينية , وكان الآخرون يرددون معه بسعادة بالغة وانسجام كبيرين . حقيقة لم أفهم الكثير من كلمات التواشيح والأناشيد الذي كان يغنيها المنشد السوداني ويرددها معه الآخرون من زملائه ولكن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه من سماعها بسبب نبرات الصوت القوي الحادة و المليئة بالعاطفة المخلصة والجياشة, والصدق في الأداء أو قل إن شئت التلقائية في أداء التواشيح والأناشيد الدينية كل تلك العوامل تجذب المرء إلى سماعها .[c1]الفنان محمد سعد عبد الله [/c]والخلاصة ، أستطيع أن أتجرأ ، وأقول أن الأغنية السودانية فريدة في بابها من حيث اللحن والكلمات عن باقي الأغاني العربية الأخرى والذي صار الغالبية منها دون عنوان لا هي شرقية ولا غربية ، فقد فقدت هوية تراثها العربي الأصيل , وصارت ممسوخة بكل معنى لهذه الكلمة ، وأما الأغنية السودانية مازالت محافظة على هويتها القومية لكونها نابعة من تراثها الأصيل ــ كما قلنا سابقاً - والجدير بالذكر أن الفنان الراحل محمد سعد عبد الله له شعبية كبيرة بين أوساط السودانيين ، وأشرطته تباع بشكل كبير , ولقد رأيت ذلك في نفسي في خرطوم بحري بعض السودانيين وهم يطلبون من صاحب الأشرطة عدداً من أغاني الفنان اليمني محمد سعد عبد الله . وعلى أية حال ، كلما ترامت إلى مسامعي أغنية سودانية ، أستحضر ذكرياتي الرائعة عندما كنت أتسمر في مكاني على ضفاف نهر النيل العملاق وهو يجري مزمجرًا يخترق قلب العاصمة السودانية الخرطوم , وعندما كنت في جامعتها العريقة التي كانت تسمى قديمًا ب- ( جامعة جوردن ) على اسم الحاكم الإنجليزي الذي قتل على يد أنصار الحركة المهدية تقريباً في سنة 1881م ولقد كانت تلك الجامعة تحفها الأشجار الضخمة الشامخة التي تكاد تعانق عنان السماء من فرط طولها ، وكل شيء فيها جميل ومرتب ومنسق . وأجمل ما في السودان والذي مازال منحوتاً في وجداني هو أناسها الطيبون جدًا والذين يحبون اليمن واليمنيين حبًا عميقاً نظرًا للعلاقة التاريخية الوثيقة التي تربط البلدين والشعبين .