إعداد/ ميسون عدنان الصادق:ولد نزار قباني في حي "الشاغور" بدمشق القديمة ثم عاد إلى مقابر الشاغور ليدفن بجوار اخته التي انتحرت حين كان صبياً. عاد إلى جوار أبيه وأمه وإلى جوار جده خليل القباني أحد مؤسسي المسرح العربي.ويبدو أن نزار كان يتعجل الرحيل ليقابل ابنه توفيق في العالم الآخر والذي سبقه منذ ربع قرن.نزار قباني شاعر تغنى بالمرأة والوطن وهو الشاعر الذي انفطر قلبه على ما سمي بالنكسة وقد مات ممدوداً ومحروقاً بطعم الهزائم التي عشقتها الأمة فتعجل الموت ليلحق بمعشوقته الجميلة وزوجته "بلقيس" التي قتلتها الأيادي النجسة في بيروت وهي تعمل بالسفارة العراقية وهو المشهد الذي يتكرر عشرات ومئات المرات يومياً في شوارع المدينة المشرقة "بيروت".لقد ثار نزار قباني على وضعية المرأة في الشرق وعلى كل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحرقه المحافظون بالنار لقد كان يكتب عن المرأة ليحررها وينقذها من أظفار رجال القبيلة ولعب على المكشوف ورفض ان يلعب خلف الكواليس وعلمنا كيف نحب حينما قال:(لن ندخل نادي المتحضرين مالم تتحول لدينا المرأة من شريحة لحم إلى معرض من الازهار).وعلمنا كيف نصرخ حين تكون مساحة الجرح أكبر من ان نتحملها حين قال:[c1]انعي لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمةومفردات العهد والهجاء والشتيمةانعي لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمةمالحة في فمنا القصائدمالحة ضفائر النساءوالليل والاشعار والمقاعدمالحة أمامنا الأشياء يا وطني الحزينحولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين والآف ما نحسه أكبر من أوراقنا لابد أن نخجل من اشعارنا إذا خسرنا الحرب، لاغرابة لأننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة بالعنتريات التي قتلت ذبابة لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والدبابة.[/c]وقد صودرت القصيدة ومنع نزار قباني من دخول مصر وحين ارسل إلى جمال عبدالناصر قصيدته أصدر جمال عبدالناصر تعليماته على الفور بإلغاء التدابير التي اتخذت ضده وضد قصيدته .. وقد طالب نزار بنفسه برلمان سوريا لمحاكمته بسبب قصيدة كتبها بعنوان " الخبر والحشيش والقمر).كان نزار يهاجم الذاكرة الميكانيكية التي هي عاهة الشعر العربي سواء كانت هذه الذاكرة قومية او تاريخية أو اكاديمية مدرسية لأن الذاكرة في نهاية الأمر هي تقليب الأشياء وهو يعترف بأننا أكلنا خلال خمسمائة عام من عصور الانحطاط سمكاً مجلداً حتى تسممنا بمادة الزئب. اصيبت بلاغتنا بفقر الدم .. ان أهم ما فعله الشعر العربي الحديث وعلى رأسه شعر نزار قباني أن انهى تجارة السمك المجلد واتجه إلى البحر فالبحر لدى نزار هو النموذج الانقلابي الأمثل حيث الماء يثور على وضعه كل لحظة ويناقض نفسه في كل لحظة.لقد كان نزار يرى ان الكاتب العربي في هذه المرحلة التاريخية عليه ان يؤمن بالشرط الانقلابي حتى يصبح متسولاً على أبواب المقاهي التي يقرأ فيه الراوي قصة عنترة وابي زيد الهلالي وحتى لايبقى حاجباً على باب السلطان عبدالحميد في الاستانة أو عضواً في حكومة الاقلية البيضاء في جنوب افريقيا أو وزيراً بلاحقيبة في حكومة المحافظين في انجلترا.فالمكان الطبيعي للكاتب العربي المعاصر هو في صفوف الانقلابيين والرغبة في تغيير جلد العالم العربي وتغيير دمه وهذا هو الهدف العام الذي تركض باتجاهه كل الخيول وان اختلطت طريقة الركض واسماء الجياد.لقد كان نزار يؤمن بأن الشعر يجب ان يبقى ماء جارياً لا ماء معبأ في زجاجات كان يؤمن بأن هذا العصر لايحتاج إلى شاعر يحرك فيه غريزة الطرب ولايهز له سريره حتى ينام ولكنه كان يبحث عن شاعر يؤرقه ويثير اعصابه ويغرز في جلده دبوساً من نار جهنم.كان يرى ان كثيراً من شعرائنا مثل الاتوبيسات تنحرف يميناً ويساراً على عواصم الوطن العربي حاملة في صناديقها الخلفية ملابس التمثيل عناوينها حسب مقتضى الحال.ان شاعرنا في رأيه لايمكن ان يختار النار والثلج معاً ولايمكنه ان يكون في الغابة والمدينة معاً ولايمكنه أن يكون من النجاة وفي الموت في الوقت نفسه .. فالكتابة هي لعبة يومية مع الموت مثلما فهمها كل من (هيمنجواي ـ كافكا ـ لوركا ـ كامي وغيرهم). ممن عاشوا حياتهم في البرزخ الفاصل بين الحياة والموت.لقد كان نزار يعيش في البرزخ الفاصل بين الحياة والموت ولكن هل مات حين كانت عيناه ترى الحوائط البيضاء واللون الأبيض الذي كانت ترتديه اللون الذي لايصرخ ولايفرح ولايغضب ولايرى ولايسمع اللون "السيبيري" الذي كان يزيد من شعوره بالنفي والغربة والموت .. هل مات نزار قباني؟ أم سيظل عطره في اعماقنا يذكرنا دائماً برائحة البارود الذي يخترق أجسادنا وأطفالنا في فلسطين ولبنان والعراق وبقايا الوطن.
|
ثقافة
قيثارة العشق وشاعر المرأة
أخبار متعلقة