منذ أن تحوّلت الدولة الإسلامية إلى مُلك سُلطاني عضوض ، تعرّض مشروع الإسلام التغييري الثوري للتشويش والتلبيس والتعطيل ، إذْ أصبح الأمن الداخلي المطلق هاجساً رئيسياً للنخب الحاكمة التي لجأت إلى السيف والذهب – الترهيب والترغيب – لشراء السلام الداخلي وانتزاع الشرعية .. فكانت النتيجة نكوص وتراجع عملية التغيير لصالح التعايش مع مصالح واحتياجات البنى التقليدية السائدة في المجتمع وإعادة إنتاج ثقافتها وقيمها الجاهلية التي جاء الاسلام لتغييرها .من المفارقات الخطيرة أن الفقهاء تحوّلوا إلى رجال دين ونهضوا بدور هام في تأطير ذلك التعايش لصالح الطرفين (السلطة والبنى التقليدية في المجتمع) بعد دخولهم كشريك وسيط ضمن مفاعيل هذه العلاقة .كان النشاط العقلي يعد مظهراً للمعارضة ، إذْ يؤدي التفكير العقلي في نهاية المطاف إلى نقد البنى الداخلية للأفكار والظواهر, واقتراح وإبداع حلول جديدة لمشاكل المجتمع الإسلامي . ولذلك تعرّض العقل للعدوان عليه ، وقام فقه التشدّد وفقهاء السلاطين بدور وظيفي خطير في العدوان على العقل . وبالنظر إلى الدور البارز الذي لعبه الفقه المتشدد ورموزه الفكرية في مواجهة النشاط العقلي وتكفير الفلاسفة والمشتغلين بالعلوم الطبيعية ، يتوجب التوقف عند أفكار " الإمام المجدّد حجة الإسلام أبي حامد الغزالي " المتشددة والمعادية للعقل ، وهي الأفكار التي احتلت مكاناً محورياً في الفقه السلفي المتشدد ، ولعبت دوراً مؤثراً في تشكيل ثقافتنا لقرون طويلة ، فيما أدّى توقيرها والتمسك بها ، وإضفاء القداسة عليها والإصرار على إعادة إنتاجها , إلى دخول ثقافتنا العربية والإسلامية نفقاً مظلماً أسفر عن مأزقها الراهن في هذه الحقبة من تطور عصرنا وحضارته الحديثة. تعود صفات القداسة التي أضفيت على أفكار الغزالي إلى الاعتقاد الديني بالحديث الذي يُنسب إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها " .وكان لهذا الإعتقاد أثر كبير في أن يتحوّل الإمام أبو حامد الغزالي من العزلة إلى معترك الدعوة والعمل في بداية المائة الخامسة الهجرية ، حيث تملّـك الغزالي شعورٌ بأنه الإمام المجدد في مائته وعصره على نحو ما جاء في كتابه «المنقذ من الظلال » حيث قال : " فشاورت في ذلك جماعةً من أرباب القلوب والمشاهدات فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية ، وانضاف إلى ذلك مناماتُ الصالحين كثيرةً متواترةً تشهد بأن هذه الحركة مبدأ ُخيرٍ ورشدٍ قدرها الله سبحانه على رأس هذه المائة . فاستحكم الرجـــاء ، وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات . وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مائة ، ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهـم " . يبدأ الغزالي دوره الملتبس في " احياء الدين وتجديده " في المئة الخامسة الهجرية بهجوم على العلوم الطبيعية التي شهدت إنتشاراً واسعاً في العصر العباســي الذهبــي الأول ، وأسهمت بقسط كبير في إزدهار الحضارة العربية إلى جانب المناشط الواسعة للحركة العقلية التي تميز بها ذلك العصر .ينفي الغزالي أهمية العلوم الطبيعة ، ويبالغ في التقليل من قيمتها ، ويتشدّد في تحقيرها وتكفير المشتغلين بها قياساً إلى موقفه الداعم لعلم الفقه . ويصل عداء الغزالي للعلوم الطبيعية إلى حد أنه نفى أي فائدة منها لحياة الانسان ومعيشته وتطوره الحـضـــاري ، حيث يقول في كتابه الشهير " جواهر القرآن " بعد أن استغرق وأطال في شرح أهمية علم الفقه ومكانة أهل العلم في هذا المجال : " إنما أشرنا إلى العلوم الدينية – يقصد الفقه – التي لا بد من وجودها ، ولا يكون العالِم إلا بها ، حتى يتيسّر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه . أما هذه العلوم الدنيوية ( يقصد الطبيعة) فلا يتوقف على معرفتها صــــــلاح المعــاش والمــعـاد ، فلذلك لم نذكــــــــرها .وكما هو الحال في هذ الكتاب ، فقد هاجم أبو حامد الغزالي ــ في بقية كتبه ــ الفلاسفة والعلماء الذين اشتغلوا بالبحوث العلمية ، وألفّوا وترجموا فيها ، ورفض الإعتراف بالمنهج العلمي الذي يقرر أن الفلسفة تبحث عن الحقيقة وتقدمها إلى العلم فيما بعد ، وهو ما أكده مسار تطور العلوم المعاصرة قبل وبعد الثورة الصناعية الكبرى في العصر الحديث .. وتمادى الغزالي في تحقير الفلسفة ووصفها بـ " البهتان " فيما وصف عمل ونشاط العلماء في مجال الفلسفة بـ " التهافت " على البهتان بحسب ما جاء في كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة " الذي رد عليه ابن رشد بكتابه الشهــــير أيضاً " تهافت التهافت ". أما أخطر الأفكار التجديدية التي يزعم الغزالي وأضرابه أنه جدد بها الدين , فهي تلك التي عارض فيها بقوة , أن يكون المشتغلون والباحثون في علوم الطب والفلك والتشريح والكيمياء والرياضيات في عداد العلماء !! . على درب الغزالي سارت ثقافتنا وأصبح الفقهاء والمتكلمون في مجال النقل عن النصوص الفقهية القديمة هم العلماء ، فيما أصبح تعريف العلم مقصوراً على الفقه . وبعد كتابه "جواهر القرآن " جاء كتــــــــاب " إحياء علوم الدين" الذي اشتهر به الغزالي ليحوي مجموعة من الأفكار التي يستطيع الباحث فيها تفسير أسباب تراجع الحضارة العربية الإسلامية ، ودخولها منذ المائة الخامسة الهجرية ، مرحلة جديدة اتسمت بأفول ذلك الوهج والبريق اللذين تميزت بهما فترة صعود هذه الحضارة في العصر العباسي الأول .في كتاب ( أزمة التطور الحضاري ) الصادر عن جامعة الكويت عام 1970انتقد المفكر الاسلامي المعروف د. حسين مؤنس كتاب "احياء علوم الدين للغزالــي " ، وتساءل قائلاً : " إلى أين تؤدي بالانسان قراءة هذا الكتاب ؟ الجواب بدون تردد إلى الموت .. فهل الموت هو مطلب عصرنا ، مع أن الغزالي واضرابه واتباعه يعرفون أن أجيالاً أخرى من المسلمين سبقتهم ، وعرفت كيف تقيم على عُمُد الاسلام عالماً متفائلاً على أيدي الرسول وصحابته " . أما الشيخ طنطاوي جوهري فقد رأى في كتابه ( الجواهر في تفسير القرآن ) أن القرآن اشتمل على مائة وخمسين آية فقط تحث على الفقه الديني ، بينما شمل أكثر من سبعمائة وخمسين آية صريحة بالحث على التبصـُّر في الكون والكائنات ، وإدراك علومها " ثم يتساءل قائلاً : " هل يجوز في عقلٍ او شرعٍ أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ، ويجهلون علوماً آياتها كثيرة جداً " . ثم يضيف بعد ذلك قائلاً : " ومن العجب الاّ تكون العناية موجهة بهمة أشد إلاّ إلى علم الفقه ، وهذا هو الخطأ العظيم والداهية القاصمة التي حلت بالأمة الإسلامية .. اللهم أن كل العلوم مطلوبة فهي جميعاً فرض كفاية. صحيح أن أفكار الغزالي المتشددة ضد الفلسفة والعلوم الطبيعية حاولت التماهي مع العقيدة الدينية ، إلا أنها لم تتمكن من إحتكار تمثيلها قطعاً وحصراً ، ولم تنجح أيضاً في قطع الطريق أمام محاولات أخرى للإحياء الإسلامي الصحيح لهذه العقيدة في أوقات متفرقة . أما قدرة أفكار الغزالي على البقاء لفترة طويلة ، فلا يعود سببها إلى قوتها أو إلى أنها تمثل تجديداً للدين والعياذ بالله ، بحسب ما يزعم به غلاة المتشددين و المتطرفين الأصوليين . إن انتعاش الاتجاهات المحافظة والمتشددة في التاريخ الإسلامي يعود في تقديرنا إلى الظروف التي مر بها المسلمون في حقبة الغزو الصليبي وحقبة الغزو المغولي ، وصولاً إلى السيطرة العثمانية التي سبقتها سيطرة السلاجقة المرابطين في نيسابور التي اعترف الغزالي بأنه ذهب إليها وعاد منها برسالة " تجديد واحياء الدين " في المائة الخامسة من عصره ، وما رافق ذلك " التجديد والإحياء " من هدم للبنى الثقافية الحضريـة ، وتصفية لكنوز المعرفة العلمية ، وتراجُع مكانة المدن والبيئات الحضرية ، مقابل هيمنة ونفوذ البيئات البدوية والثقافة القبلية ، وصولاً إلى الإنقطاع التام عن إبداع الحضارة والسقوط المريع في هاوية التخلف !!. الثابت أن الفكر الاسلامي بوصفه نتاجاً موضوعياً للتفكير بواسطة العقل ، يعد المكوّن الرئيسي لثقافتنا العربية والإسلامية ، بسبب الدور الذي يضطلع به هذا الفكر في انتاج المعرفة بالدين على مستوى الوعي الاجتماعي ، وصياغة المفاهيم التي يتم من خلالها تجسيد السلوك الإجتماعي الذي يعكس مستوى فهم الناس في المجتمع لمحتوى العقيدة الإسلامية ورسالتها ومقاصدها . لعل تنوّع تيارات الفكر الإسلامي يفسر بالضرورة ذلك التنوع الواضح في طرق فهم المجتمع لهذه العقيدة ، وغلبة طريقة محددة في التفكير قد تكون معتدلة أو متشددة أو وسطية أو منفتحة في فهم الإسلام على غيرها من الأفهام , وما يترتب على ذلك من إنعكاسات ايجابية أو سلبية على البعد الثقافي كفاعل حضاري . إن صعود وهــبوط الحضارة الإسلاميـة في أزمنة مختلفة ، لا يعكسان ـــ بالضرورة ـــ ديناميكية العقيدة الإسلامية في مرحلة تاريحية معينة وجمودها في مراحل أخرى ، بحسب زعم بعض المستشرقين في عصر ظهور الاستعمار ، بيد أنهما يعكسان المتغيرات التي تحدث في البيئة التاريخية المحيطة بالعقيــدة ، ومستوى قدرة مفاعيل المجتمع المختلفة – وفي مقدمتها الفكرية والثقافية – على التعامل مع التحديات التي تنشأ على خلفية تلك المتغيرات .بتأثير ذلك تصادمت النزعة النقلية مع الوظيفة النقدية للعقل والطابع الجدلي للتفكير، وتعارضت بشكل حاد مع دور الأفراد ومبادراتهم العقلية ومناشطهم العلمية في مجرى إبداع و إنتاج الحضارة ، ذلك الدور الذي كان ملمحاً رئيسياً للحضارات المزدهرة قبل الثورة الصناعية ، حيث كانت التجارة حافزاً رئيسياً للإنتاج الزراعي والحرفي, و أحد مصادر نظامها القيمي المرتكز على فكرة الحرية .بعد الثورة الصناعية زادت أهمية المبادرات الفردية والحريات الفكرية كشرط لتنشيط البحوث والمكتشفات العلمية ، وتطوير تقنيات الإنتاج والتسويق والإستهلاك ، وأضحت تلك المبادرات والحريات بمثابة العمود الفقري للحضارة الإنسانية ، فيما أصبحت التجارة محدداً رئيسياً لفواعل حضارية جديدة هي تكنولوجيا الإنتاج والتسويق والإتصال والمعلومات.يقول الدكتور محمد جابر الانصاري استاذ الدراسات الإسلامية وعميد الدراسات العليا في جامعة الخليج بالبحرين في كتابه القيم " تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها " الصادر عام 1998 : " التجارة هي أكثر النظم الاقتصادية تشجيعاً للنشاط العقلي . ذلك أن التجارة إرتياد للمجاهل وكشف للاسواق وللطرق المؤدية إليها ، وتفتيق للذهن عن منتوجات جديدة واساليب عرض جديدة واحتكاك متواصل بالحضارات الأخرى ، وحركة مستمرة لمتابعة التطور ومواجهة التنافس . والعقل هو أيضاً ارتياد وكشف واحتكاك ، وهو ينمو مع نمو التجارة أكثر مما هو مع نظام رعوي في البوادي والصحاري ، أو نظام زراعي سكوني خاضع لدورات الطبيعة وقدرها الصارم في الأرياف . ثم يضيف قائلاً : " ولكن بتحوّل طرق التجارة إلى أماكن أخرى ، وتمزق وحدة السلم العام بالفتن الداخلية والهجمات الخارجية ، وسيادة العناصر الآسيوية الرعوية المحاربة ، وحلولها في مركز السيطرة محل العرب والفرس ، أخذ النظام التجاري الموحد المتماسك في الإنحلال مع تجزئة الدولة ، وتجرؤ العناصر البدوية على التقدم إلى طرق التجارة ومراكزها ، وسيطرة السلاجقة ، ثم المماليك على الأرض الزراعية وتحويلها إلى شبه اقطاعيات عسكرية منفصلة ومنغلقة . هكذا يمكن أن نفهم حركة الردة التي ظهرت مع انتشار أفكار الإمام الغزالي في فترة صعود السلاجقة أواخر العصر العباسي , وقيامهم بتبني تلك الأفكار المعادية للحركة العقلية واتخاذهم الحركة النقلية المعادية للعقل مذهباً سياسياً رسمياً لهم في وقت لاحق ، بالتزامن مع الظروف التي قام فيها السلاجقة بإقصاء العناصر العربية والفارسية عن السلطة ، وإحياء السلفية السنية المتشددة وإقامة مدارس جديدة لنشرها . وتجدر الإشارة إلى أن الغزالي قال في كتابه " المنقذ من الضلال " إنه تولى التدريس في واحدة من تلك المدارس في نيسابور بعد أن ألـّح عليه السلاجقة !!. وبهذا الصدد وصف البروفسور برنارد لويس في كتابه الشهير " تاريخ العرب " القوى الداخلية والخارجية التي هجمت على الدولة الإسلامية وحضارتها الذهبية في القرن الحادي عشر الميلادي – الخامس الهجري – بأنها قوى من "البرابرة" ، الأمر الذي فتح الباب لبدء العد التنازلي للحضارة العربية الإسلامية وتسارع وتائر التدهور الحضاري ، وتراجع النشاط العقلي في العالم الاسلامي منذ ذلك الوقت ، وصولاً إلى ظهور سلفيات متشددة ومتطرفة يلتبس خطابها الفكري والثقافي بالدين ، وينطوي على مفاهيم معادية للعقل والحداثة والقيم الإنسانية المشتركة , وبضمنها تلك التي تتعلق بأفكار الحرية والمساواة وحقوق الانسان وحقوق المرأة , على نحو ما يحدث حالياً في العالم الإسلامي الذي وجد نفسه امام تحديات العولمة. . وهي تحديات جديدة وإضافية ، قبل أن يحسم معركته الدائرة منذ أكثر من مئة سنة مع تلك الأفكار التي سبقت العولمـــــــة بقرن كامل !! .[c1]- عن / صحيفة ( 26 سبتمبر)[/c]
|
فكر
هل تصلح الإقامة الدائمة في الماضي لمواجهة تحديات عصرنا ؟
أخبار متعلقة