قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريافي سنة ( 894 هـ / 1489م ) جلس على كرسي السلطنة الطاهرية شاب يافع لم يتجاوز التاسعة والعشرين من العمر . كُتب له أنّ يؤدي دورًا هامًا وخطيرًا على مسرح اليمن السياسي في أوضاع وظروف غاية في التعقيد . ولقد أمتد حكمه 29سنة والذي اتسم بالأحداث الجسام والأمور العظام وهو السلطان عامر بن عبد الوهاب . وصفته كثير من المصادر التاريخية بأنه شاب طموح شجاع جريء يمتلئ حيوية ، ونشاطًا وعندما توفي والده الملك المنصور عبد الوهاب كانت ممتلكات السلطنة الطاهرية تمور بالاضطراب ، والفتن ، والقلاقل ، وكان عليه أنّ يطفئ نارها قبل أنّ يجلس على كرسي السلطنة ، وينظر في أمورها ، واستطاع بالفعل السلطان عامر أنّ يعيد هيبة السلطنة التي كادت تضيع وتذوب في وسط تلك الفوضى والاضطراب التي حدثت بعيد وفاة والده . ويذكر ابن الديبع المتوفى (944هـ / 1537م ) بأنّ الأمة اتفقت جميعها على أنّ يتولى (عامر) مقاليد الحكم وذلك لمّا أظهره من شجاعة نادرة في القضاء على تلك الاضطرابات التي سادت السلطنة بُعيد وفاة والده عبد الوهاب مباشرة ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . ومن المحتمل أنّ أخواله ـــ والذين كانوا عصبة قوية يحسب لها ألف حساب في داخل البيت الطاهري لكون والدهم هو مؤسس الدولة أو السلطنة الطاهرية ـــ رأوا أنّ السلطان عامر ، في الإمكان التحكم به والسيطرة عليه نظرًا لحداثة سنه ولذلك السبب وافق الجميع على أنّ يتولى شؤون السلطنة ولكنه خيب ظنهم فيه . وعندما حاول أخواله أنّ يلتهموا بعض مناطق من ممتلكات السلطنة الطاهرية ، تصدى لهم السلطان عامر بكل حزم ، وقوة . [c1]خريطة اليمن السياسية[/c]كان ( عامر ) يختلف تمامًا عن والده عبد الوهاب الذي كان مسالمًا مع القوى السياسية المختلفة التي كانت تزاحمه على ممتلكاته وتهددها . ومن المحتمل أنّ إمكانياته العسكرية كانت ضعيفة ، ولذلك حاول قدر الإمكان عدم استفزاهم . فكان حريصًا على عدم الدخول معهم في حروب حتى لا يعطيهم مبرر الاستيلاء على مناطق من سلطنته . وتذكر المصادر بأنّ السلطان الشاب ( عامر ) عندما ورث مقاليد حكم السلطنة الطاهرية بعد وفاة والده . كانت السلطنة تسيطر على ثلثي اليمن أمّا الثلث الباقي ، فقد كان موزعا بين عدد من القوى السياسية وأهمها الأئمة الزيديون والذين شكلوا أقوى خصم للسلطنة الطاهرية ودارت معارك حامية الوطيس بينه وبينهم وكانت المعارك بينهما سجالاً ، وسنتناول بعد قليل هذا الموضوع بالتفصيل . وهكذا كانت خريطة اليمن السياسية عندما تولى السلطان عامر بن عبد الوهاب السلطنة.[c1]عدن والسلطان عامر[/c]وتذكر الروايات التاريخية أنه بمجرد أنّ تولى السلطان عامر مقاليد الحكم اندلعت التمردات ، والقلاقل ، والاضطرابات في عدد من المدن في وجهه ، كتعز ، و عدن ، وكانت الأخيرة من أقوى وأخطر الثورات التي مثلت تحديًا صريحًا وخطيرًا وكادت تزلزل أركان سلطانه ونفوذه في بداية عهد حكمه . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم: « وتعرض حكم السلطان عامر في الجنوب لاضطرابات أشد ضراوة وأكثر خطورة ، فقد تمكن بعض أقاربه ( أخوال السلطان ) من إثارة قبائل (( يافع )) ضده ، وهي قبائل معروفة بقوتها وميلها إلى الحرب ... وذلك نظرًا لوعورة منطقتها الجبلية . وقد توجه أحد القادة الثائرين على رأس قوة من رجال (( يافع )) إلى عدن ، فهاجم والي السلطان هناك واستولى على ما لديه من أموال ، فتوجه السلطان عامر بنفسه على رأس جيش كبير إلى منطقة (( يافع )) وتمكن من إخضاع قبائلها لنفوذه » . وما يسترعي النظر ، أنّ من الأسباب الرئيسة في إحراز القوات الطاهرية الانتصارات المتتالية على خصومهم هو أنّ السلطان عامر، كان في مقدمة صفوف جنوده يقودهم إلى ساحة المعركة مما أثار حماسهم ، ورفع معنوياتهم في أثناء القتال . [c1] ثقوب في البيت الطاهري[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تعرض السلطان عامر إلى محاولة انقلاب ( داخلي ) من أقرب الناس إليه وهم أخواله ، وكاد ينجح هذا الانقلاب ولكن رباطة جأش ( عامر ) أفشلت هذا الانقلاب . « فقد ثار عليه أخواله أبناء عامر بن طاهر مؤسس هذه الدولة ( الطاهرية ) ، واستقلوا (( بجبن )) في المنطقة الشرقية من بلاده . وعندئذ دارت الحرب بين الطرفين ثم تم الصلح بعد أنّ أقطعهم بعض أراضي الجهات الشرقية ، وبعد أنّ اقتسموا معه إيرادات عدن « . ولم تنطفئ جذوة هذه الحروب الأسرية الضارية إلاّ بعد ثلاث سنوات من حكم السلطان (( عامر)). وكان من نتائج تلك الاضطرابات التي استعرت في داخل البيت الداخلي ، أنّ تجرأ بعض الزعماء الطموحين في تهامة ، وتعز بشق عصا الطاعة في وجه السلطان (( عامر )) ، وأنّ يشعلوا المنطقة نارا . ويصف سيد مصطفى سالم مدى قوة وعنف التمرد ، والثورة اللذين انفجرتا في منطقة تهامة ، فيقول : «وقد أدت هذه الحروب إلى زعزعة العديد من مناطق سلطة الدولة ، فثارت بعض قبائل (( تهامة )) وقطعوا الطرق ونهبوا القرى , وثارت قبائل أخرى بين (( زبيد )) و ((تعز )) ، فكان السلطان عامر يضطر إلى إرسال الجيوش إلى هنا وهناك لإخماد هذه الاضطرابات والثورات « . والحقيقة أظهرت تلك الثورات والاضطرابات التي أطلت برأسها في بداية تسلمه قيادة دفة السلطنة الطاهرية على مدى شجاعة، ورباطة جأش السلطان ( عامر ) الذي لم يهتز قيد أنملة وعمل على تأديب الخارجين الذين يعيثون في أرض الدولة الفساد. وعلى أي حال، أستطاع بحكمته، وحنكته في الحروب أنّ يخمد أنفاسها التي أوقدها أخواله ـــ كما قلنا سابقاً ــ ، وأنّ يعيد الأمور إلى نصابها ، ويمخر بسفينة دولته أو سلطنته عباب أمواج السياسة المتلاطمة إلى شاطئ الأمان ، والسلام ، والقوة , والازدهار . ولذلك السبب ذكرته المصادر بأنه كان أعظم ملوك وسلاطين الدولة الطاهرية وإنّ لم يكن أعظمهم جميعًا .[c1]طموحاته السياسية[/c]ويعلل الدكتور سيد مصطفى سالم أسباب التمرد ، والاضطرابات التي وقعت في بداية حكم السلطان عامر ، قائلاً : « وتعتبر الصعوبات التي واجهت السلطان عامر في المنطقة الخاصة بالطاهريين ، صعوبات تقليدية كالتي تحدث في اليمن عادة عند انتقال الحكم من سلطان إلى آخر أو عندما تضعف سيطرة الحكومة القائمة أو يفسد جهازها الإداري « . ومن جراء ذلك استغل الطامحون إلى السلطة ذلك الفراغ السياسي ، فأحدثوا تلك الاضطرابات ، والثورات ، والقلاقل . وقلنا : سابقاً بأنّ السلطان عامر كان سلطاناً قويًا طموحًا جريئاً بخلاف والده الذي كان قانعًا ّأنّ يعيش مع القوى المحلية المختلفة بسلام ، راضيا بما تحت يده من ممتلكات . والحقيقة أنّ السلطان الشاب عامر ، كان ينتظر الأوضاع والظروف السياسية والعسكرية الملائمة التي تساعده في تحقيق مشروع حلمه الكبير وهو بسط نفوذه سلطنته على غالبية مناطق اليمن وإنّ لم يكن جميعها أو بمعنى آخر توحيد اليمن تحت ظل السلطنة الطاهرية . ومن الأسباب الأخرى الذي دفعته إلى جانب توسيع رقعة حدود أرض سلطنته هو أنّ الأئمة الزيدية في المناطق الجبلية الشمالية لم يعترفوا بنفوذه عليهم وعلى مناطقهم . وكان هؤلاء الأئمة الزيدية يتمتعون باستقلال كامل في مناطقهم تمامًا . وكان من البديهي أنّ يحدث الصدام العسكري لا محالة بين السلطان الشاب ( عامر ) والأئمة الزيدية ولكنها كانت مسألة وقت أو بمعنى آخر ، كان (عامر ) يرتب البيت الطاهري من الداخل لكي يتفرغ بعدها إلى القوى السياسية المناوئة له وهي الأئمة الزيدية , والذين كانوا يدركون تمام الإدراك بأنّ سيطرة الأول عليهم معناه فقدان نفوذهم وسلطانهم في المناطق الجبلية الشمالية بل وهيبتهم في كثير من مناطق اليمن . [c1]القوى المعارضة[/c]ومما يسترعي الانتباه بأنّ الأئمة الزيدية ، كانت الكثير من الحروب تنشب فيما بينهم من أجل الصراع على المصالح المادية ، والسلطان ، والجاه ، والنفوذ رغم أنهم على مذهب واحد ، ولكن عندما تتعرض أحدى القبائل الزيدية لخطر خارجي حتى ولو كانت تلك القبيلة في حالة عداء معهم ، فإن القبائل الموالية للأئمة الزيدية سرعان ما يهبون إلى إنقاذها و يلتفون حولها ، ويقفون إلى جانبها فيمدونها بالرجال ، والسلاح ، والمال . وهذا ما حدث عندما حاول السلطان عامر الاستيلاء على صنعاء التي كانت تمثل موقعاً استراتيجياً هاماً كقاعدة انطلاق إلى المناطق الجبلية الشمالية موئل القوى الزيدية من ناحية وأهميتها التاريخية من ناحية أخرى . وعلى أية حال ، عندما اقتربت قوات السلطان عامر من صنعاء ، وباتت المدينة قاب قوسين أوأدنى من السقوط في قبضة السلطان ، فقد تشكلت جبهة عسكرية زيدية لمنع السلطان من الاستيلاء على صنعاء . وهذا ما أكده سيد مصطفى سالم ، بقوله : « وفي شعبان سنة 907هـ ( فبراير / مارس 1501م) بدأ السلطان في حصار صنعاء لأول مرة ، وأستمر الحصار حوالي خمسة أشهر ، حتى تقدمت قوات زيدية أخرى من باقي جهات المنطقة الشمالية لفك الحصار ، فاضطر السلطان إلى الانسحاب » . ويمضي في حديثه : « ومما يثير الانتباه هنا هو قيام جبهة زيدية عريضة أجبرت السلطان عامر على الانسحاب ... فرغم اختلاف الزيديين فيما بينهم ، فقد كانوا يتكاتفون دائمًا للدفاع عن ((صنعاء )) لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للمنطقة الشمالية فضلاً عن أهميتها التاريخية» . والحقيقة أنه لم يقف الأمر عند القوى الزيدية بل أنّ الأشراف ، كانت يمثلون قوى سياسية أخرى مناهضة للسلطان عامر ، ولقد لعبت دورًا هامًا في الإجهاز على السلطنة عندما تحالفت مع المماليك ضد السلطان ، عندما نزول الأولون إلى سواحل اليمن. [c1]سقوط صنعاء[/c]وبعد أنّ تفرغ السلطان عامر من القضاء على الاضطراب والقلاقل التي انفجرت في مناطق سلطنته عقب توليه الحكم ، وثبت أركان سلطنته وجد أنّ الأوضاع السياسية والعسكرية ملائمة لمواجهة القوى السياسية المحلية وعلى رأسها القوى الزيدية والتي كانت شوكة قوية في خصر سلطنته . وعلى أية حال، كان السلطان يتحرق شوقاً لمحاربتها ليزيد من رقعة سلطنته الطاهرية من ناحية بأنّ يكون له موطئ قدم في المناطق الجبلية الشمالية الواقعة تحت نفوذ الأئمة الزيدية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ومن ناحية أخرى تحقيق مشروعه الكبير وهو أنّ يكون ظل سلطانه على غالبية مناطق اليمن وإن لم يكن جميعها من ناحية ثالثة وأخيرة . والحقيقة أنّ الإمام محمد الوشلي ( الزيدي ) ، قدم للسلطان عامر فرصة ثمينة ، كان ينتظرها بفارغ الصبر وهي مهاجمة المناطق الواقعة تحت نفوذ الأئمة الزيدية ، عندما أعلن الإمام الوشلي إمامته في ذمار، وكانت ذمار تتاخم حدود السلطنة الطاهرية الشمالية ، فخشى السلطان أنّ يمتد نفوذ الزيدية على مناطق سلطنته الشمالية ولذلك سارع بشن هجوم مباشر على المناطق الزيدية . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : « وقد بدأ صدام السلطان عامر بن عبد الوهاب مع هذه السيادات المستقلة المتناثرة في المنطقة الشمالية في سنة 902 ( 6 / 1497م) عندما أعلن الإمام الوشلي إمامته في (( ذمار )) فهدد بذلك حدود مملكة السلطان عامر الشمالية . وهنا ثارت الحرب بين السلطان عامر وبين الإمام الوشلي ، وتمكنت قوات السلطان من أنّ تحرز الانتصارات المتتالية التي أدت إلى تدعيم سلطة الطاهريين في جميع الجهات والحصون المشرفة على ( صنعاء ) . وبعد عامين من محاولة السلطان عامر من الاستيلاء على صنعاء أعاد الكرة مرة أخرى في سنة ( 910هـ / 1504م ) بعد أنّ جهز جيشاً ضخمًا « زحف به إلى صنعاء لمحاصرتها . وقد استمر الحصار حوالي ستة أشهر ولكن سقطت المدينة أخيرًا في يد السلطان عامر الذي قبض على الإمام ( الوشلي ) وأرسله إلى تعز للإقامة بها ، دون أنّ يتعرض له بسوء حتى لا يثير عليه ثائرة العناصر الزيدية في الشمال « . ويذكر ابن الديبع بأنّ السلطان عامر اتبع سياسة الترغيب مع أهالي صنعاء بعد سقوطها بيده ، فقد عفا وأكرم الكثير من فقهائها ، وعلمائها ، ومشابخها ، وأعيانها الكبار . وكان من نتائج سقوط صنعاء بيد السلطان هو أنه تسلم « الخيل ، والسلاح ، والأموال ، والأمتعة « . ويذكر ابن الديبع كذلك بأنّ السلطان أيضًا تسلم الحصون التي حول صنعاء « . وكان لسقوط صنعاء بيد السلطان عامر انتصار مدويًا في اليمن ، وارتفع نجم السلطان عامر في سماء السياسة . وفي نفس الوقت ، كانت ضربة قوية للأئمة الزيدية .[c1]التوغل إلى الداخل[/c]ورغم أنّ السلطان عامر حقق انتصارات باهرة على القوات الزيدية المرابطة في المناطق الجبلية الشمالية وبسط نفوذه في بعض مناطقها ، ولكنها كانت من الأخطاء العسكرية الفادحة التي ارتكبها السلطان عامر والتي كانت لها عواقب وخيمة في المستقبل المنظور على قوة سلطانه و سلطنته بسبب توغله في المناطق الجبلية الشمالية وهي مناطق ذات تضاريس جبلية صعبة الارتقاء ، ومسالك وعرة استنزفت الكثير والكثير جدًا من مجهود ووقت السلطنة الطاهرية من جهة واستنزفت أيضًا الموارد المالية الضخمة من خزانة السلطنة من جهة أخرى. وفي هذا السياق يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « وكان استيلاء السلطان عامر على (( صنعاء )) فاتحة لامتداد نفوذه في المنطقة الشمالية ، فقد أخذت قواته تستولي على المناطق والحصون الواحد تلو الآخر ، غير أنّ توسع السلطان في هذه المنطقة لم يكن بالأمر السهل ، أو أنه كان رد فعل طبيعياً لسقوط (( صنعاء )) ، فقد ظل واليه في صنعاء يشن الحرب على المدن الزيدية الشمالية سنوات طوالاً ، فلم يتمكن من الاستيلاء على مدن (( ثلاء )) و (( حضور الشيخ )) ، و (( كوكبان )) القريبة من صنعاء إلاّ بعد فتح صنعاء بحوالي سبع سنوات» . وكان جديراً بالسلطان أنّ يقف عند مدينة صنعاء وألاّ يتوغل في مناطق الزيدية الجبلية الشمالية الصعبة التضاريس بسبب الجبال الشاهقة الارتفاع التي تكاد هامتها تلامس السحب. ولكن يبدو أنّ الانتصارات الرائعة والسريعة التي حققها في ذمار على الإمام الوشلي ، وسقوط صنعاء والاستيلاء على حصونها ، وأموالها ، أفقدته توازنه أو بمعنى آخر الرؤية المتأنية ، والتقويم السليم للأمور فأغرته على التوغل والزحف نحو معاقل الزيدية القوية والصلبة والصعبة فأدت إلى تشكيل جبهة زيدية موحدة في مواجهته ومن ناحية أخرى استنزفت موارد السلطنة ومن ثم فقد قوتها السياسية والعسكرية ، وكانت تلك أحد الأسباب الرئيسة التي عجلت بسقوطها .[c1]محطات حكمه[/c]السلطان عامر مر بعدة محطات في حكمه . فالمحطة الأولى هي القضاء على الاضطرابات ، والثورات ، والقلاقل التي اشتعلت في كثير من مناطق السلطنة الطاهرية بُعيد توليه شئون السلطنة ، وتمكن من تثبيت أقدامه في الحكم وخاصة بعد أنّ صالح أخواله ، وأمن جانبهم . وأمّا المحطة الثانية ، تتمثل في حروبه مع الأئمة الزيدية ، وانتصاراته الباهرة عليهم ، وسقوط صنعاء في قبضته ، وتوغله في المناطق الجبلية الشمالية معقل الأئمة الزيدية. وبالنسبة للمحطة الأخيرة ، وكانت أخطر المحطات في حياة حكم السلطان ، فقد فيها السلطان حياته ، فقد وقع السلطان عامر فريسة الأوضاع الدولية المتمثلة بحصار البرتغاليين للسواحل اليمنية المطلة على البحر الأحمر بهدف إغلاق منافذها لمنع السفن المحملة بالتوابل من الوصول إلى الموانئ المصرية ، مما كان له آثاره الكارثية على اقتصاد الدولة الطاهرية ، وكذلك على دولة المماليك مما دفع بالأخيرة إلى التفكير العملي والجاد في مواجهة البرتغاليين في المحيط الهندي والقيام بطردهم من تلك المنطقة وإعادة السيطرة مرة أخرى على تجارة التوابل والتي كانت مزدهرة في ميناء الإسكندرية وتدر أرباحًا خيالية . وكانت سفن البندقية التجارية تحمل على متنها تلك البضائع الغالية الثمن إلى أوربا . [c1]المماليك المصريون[/c]وتذكر الروايات أن المماليك المصريين فشلوا في طرد البرتغاليين بعد هزيمة أسطولهم من الأخيرين في المحيط الهندي وعلى أية حالقبل أنّ يتوجه أسطول المماليك إلى الهند ، طلب قائد الحملة المملوكية ( حسين الكردي ) من السلطان عامر التعاون معهم بمدهم بالمؤن والأموال ، وذلك حسب الاتفاق المبرم مع سلطانهم قنصوه الغوري , ولكن تأخير الأول في مساعدة السلطان جعله يعيد النظر في تلك الاتفاقية أو التعاون معهم . والحقيقة أنّ السلطان عامر كاد أنّ يوافق على مساعدة المماليك ولكن أحد قادته ارتأى أنّ مساعدته لهم سيجعل السلطنة تحت رحمة السيادة والنفوذ المملوكي المصري دائمًا ، فأعرض السلطان عن مساعدتهم . وفي هذا الشأن ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « وقد مال السلطان في بادئ الأمر إلى إجابة طلب حسين الكردي والوفاء بوعوده السابقة للسلطان ( الغوري ) ، ولكن أشار عليه أحد قادته بعدم استجابة مطالب المماليك وطرد رسولهم . وكانت حجة هذا القائد هي الخوف من أنّ تكون مطالب المماليك نوعًا من فرض السيادة السياسية أو السيطرة العسكرية على اليمن أو أنّ يتحول طلب المماليك إلى جزية سنوية يطالب بها اليمن باسم محاربة البرتغاليين « . وعلى أية حال ، فقد استغل الإمام شرف الدين الذي أعلن إمامته في حجة سنة ( 912هـ / 1506م ) العدو اللدود للسلطان ( عامر) فرصة الخصومة والوحشة اللتين وقعتا بين السلطان عامر من جهة ، وقائد الحملة المملوكية ( حسين الكردي ) من جهة أخرى فزين له النزول إلى السواحل اليمنية ، وأغراهم بأنه سوف يمد له يد العون والمساعدة بل أنه عرض عليهم مبلغاً من المال مقابل التصدي للسلطان عامر. وأشاع بين المماليك بأنّ السلطان عامر يتعاون سرًا مع البرتغاليين . وقد ترسخت تلك الإشاعة في نفوس المماليك عندما رفض السلطان التعاون معهم ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . [c1]وغربت شمسها[/c]والحقيقة أنّ الحصار البحري البرتغالي على السواحل اليمنية أحدث كارثة اقتصادية لقوة وهيبة السلطنة الطاهرية السياسية أو بعبارة أخرى زلزل دعائم قوتها السياسية ، وكان ذلك يعني أنّ السلطنة في طريقها إلى الاحتضار وإنّ لم يكن إلى الموت المؤكد . وهذا ما حدث بالفعل . فقد ضربها بمقتل ، ومن تلك الموانئ الهامة التي كانت تدر أرباحا خيالية وتصب في خزانة السلطنة هي ميناء عدن ، ولكنها فقدت نشاطها التجاري من جراء هذا الحصار البرتغالي فخسرت خزانة السلطنة موردا هاما من الموارد المالية التي كانت ترفد خزانتها بالأحمر ، والأبيض ( الذهب ، والفضة ) . والحقيقة لقد كان نضوب الموارد المالية عن السلطنة الطاهرية بمثابة إرهاص لغروب شمسها عن سماء السياسة اليمنية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « ... لقد حرم الحصار البحري السلطان عامر من (( الخزانة العظيمة من المال ومن الذهب والفضة )) التي كانت تحمل إلى خزانة السلطان من (( عدن )) حتى قبيل مجيء البرتغاليين إلى الهند » . وبذلك فقد السلطان عامر أهم أركان ومقومات بقاء السلطنة على سطح اليمن السياسي . وهذا ما دفع السلطان أنّ يستولي على أموال الأوقاف بالرغم من معارضة الفقهاء لذلك ، وقد أعتبر ابن الديبع ـــ مؤرخ سيرة السلطان ــــ بأنّ السلطان عامر أرتكب عملا غير صالح . ، فيقول : « ولم يكن للملك الظافر ، رحمه الله تعالى ، خصلة تذم سوى تعرضه للوقف ، ومعارضة الفقهاء فيه» . ويضيف ، قائلاً : « وأظن ذلك هو الذي كان سببًا لزوال دولته » . وإذا أردنا أنّ نحلل العبارة الأخيرة لأبن الديبع ، فإنه يوضح بأنّ السلطنة الطاهرية ، كانت سفينتها تغوص في أعماق قيعان البحر رويدًا ، رويدًا ، بسبب الحصار البرتغالي المضروب على الموانئ اليمنية من ناحية والاضطرابات التي انفجرت في وجهها من قِبل المعارضة السياسية لها من ناحية ثانية ونزول المماليك المصريين إلى السواحل اليمنية والتوغل في ممتلكاتها من ناحية أخرى .[c1]الرؤية الضبابية[/c]ويصف الدكتور سيد مصطفى سالم بأنّ السلطان عامر لم يكن لديه رؤية واضحة أو بالأحرى نظرة ثاقبة تجاه أبعاد تواجد البرتغاليين في البحر الأحمر ، كمحاولتهم الاستيلاء على عدن ، واستيلائهم على جزيرة سقطرى . ، كما أنه لم يدرك حقيقة قوة البرتغاليين ولذلك رفض التعاون مع الحملة المملوكية المتجهة صوب الهند لمحاولة طرد البرتغاليين من مياه المحيط الهندي ، وكان في إمكانه أنّ يشكل جبهة موحدة بينه وبين السلطان الغوري للوقوف ضد البرتغاليين وبذلك التحالف اليمني المصري ، كان في إمكان السلطان عامر تحقيق مسألتين مهمتين هما : الأولى حماية شواطئه من البرتغاليين من خلال دعم المماليك له نظرًا لكونهم لديهم أسطول قوي مزود بالأسلحة الفتاكة وهي المدافع الثقيلة ، والبنادق التي كان اليمنيون يجهلونها ، والثانية كسب ود وصداقة السلطان الغوري وبذلك يجنب سلطنته الدخول في حروب مع المماليك وبذلك يقطع الطريق على المنافس الخطير له وهو الإمام شرف الدين المتوفى ( 965هـ / 1558م ) . ومن المحتمل أنّ الاضطرابات العنيفة الداخلية والخارجية المعقدة التي شهدتها اليمن ، قد حجبت عن السلطان عامر الرؤية الواضحة في تقويم الأمور السياسية بشكلها الصحيح . و كانت من الأسباب الرئيسة في جنوح شمس السلطنة الطاهرية إلى المغيب .[c1]إنجازاته العمرانية[/c]ويشيد الدكتور سيد مصطفى سالم بأعمال السلطان عامر العمرانية التي قام بها ، فيقول : « تميز عهده بالقيام ببعض الأعمال العمرانية والإصلاحية التي أصبحت موضع تقدير معاصريه إلى ما بعد وفاته بسنوات طويلة . فقد وجه اهتمامه إلى بناء المدارس والمساجد ووقف الأراضي عليها ، كما أهتم بحفر الآبار وشق القنوات وتمهيد طرق القوافل وتأمينها ». ويضيف ، قائلاً : « وهناك عاملان هامان يدلان على اهتمام السلطان عامر بالنواحي التجارية والزراعية , فقد مد السلطان القنوات إلى داخل (( عدن )) ، حيث أقام هناك صهريجًا ضخمًا لتخزين المياه ، وذلك لتوفير مياه الشرب بالمدينة ، ومن ناحية أخرى أقام السلطان سدًا ترابيًا ضخمًا عند وادي (( زبيد )) لحماية الأراضي المحيطة بهذا الوادي من غائلة مياه الفيضان «. والحقيقة أنّ السلطان الشاب عامر ، تربى تربية ثقافية دينية ـــ على حد قول مؤرخ سيرته أبن الديبع ـــ والتي كانت سائدة في تلك الفترة مما كان لها أثرها الواضح على تكوّينه الثقافي ، ويبدو أنّ السلطان ، كانت له ميول علمية وثقافية . وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم ً : « وعمل السلطان عامر كذلك على تنشيط الحياة الثقافية فبالإضافة إلى اهتمامه ببناء المدارس وتقريب العلماء إليه ، كان يهتم باقتناء الكتب العلمية والنفيسة ، فيرسل مندوبيه إلى العواصم الإسلامية لشراء الجديد أو الثمين من هذه الكتب ، كما كان يأمر بكتابة نسخ منها لوضعها في جامع زبيد حتى تكون تحت تصرف العلماء والفقهاء «. [c1] السلطان عامر والسلطنة [/c]وبعد 29 عامًا من حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب الذي بسط نفوذه على الكثير من مناطق اليمن والتي شهدت في عهده الكثير من الأعمال العمرانية ـــ كما بينا قبل ــ وفي عهده رفرف الأمن والأمان على الناس بعد أنّ شن حملة قوية على قطاع الطرق الذي كانوا يعيثون في البلاد الفساد . ولكن كانت عواصف الأوضاع الدولية الشديدة المتمثلة بالغزو البرتغالي ـــ كما قلنا سابقاً ـــ كانت أقوى منه في مواجهتها . وكيفما كان الأمر ، فقد خر السلطان عامر صريعًا في سنة ( 923هـ / 1517م ) بسيوف , وبنادق المماليك المصرية تحت أسوار صنعاء عن عمر ناهز57عامًا وذلك بالتآمر مع الإمام شرف الدين المتوفى ( 965هـ / 1558م ) والذي كان من أشد خصومه السياسيين فضلا عن القوى المحلية المعارضة التي كانت تسعى سعيًا حثيثاً إلى إزالته عن الحكم للانقضاض على ممتلكات السلطنة الطاهرية . وكيفما كان الأمر ، فقد ترتب على رحيل السلطان ( عامر ) عن مسرح اليمن السياسي ظهور الإمام شرف الدين الذي سيلعب دوراً غاية في الأهمية والخطورة والحقيقة على مسرح تاريخ اليمن الحديث . والملفت للنظر أنّ كثرة من المصادر تدوّن نهاية السلطنة الطاهرية بمقتل السلطان عامر . وهذا إنّ دل على شيء ، فإنما يدل على مدى الارتباط الوثيق و القوي بينه وبين بقاء السلطنة وباختفائه اختفت السلطنة الطاهرية من خريطة اليمن السياسي .[c1]الهوامش :[/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1635، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع ـــ القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية.ابن الديبع ، تحقيق : الدكتور يوسف شلحد ؛ الفضل المزيد في بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد ، تحقيق ، مركز الدراسات والبحُوث اليَمني ـــ صَنعاءـــ.عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، سنة الطبعة 1425هـ / 2004م، وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ــــ .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ؛ الطبعة الثانية 1406هـ / 1986م ، مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء ـــ ، مؤسسة الرسالة ــــ بيروت ـــ شارع سوريا ـــ.