أضواء
يطلّ شهر رمضان هذا العام وقد سبقه كالعادة جدل واسع حول الطريقة الأفضل لتحديد دخول الشهر الكريم؛ فمن قائلٍ إنّنا يجب أن نتبع المراصد الفلكيّة والحساب الفلكي في دخول الشهر وخروجه بدلاً عن الرؤية البصرية المجردة تحرّياً للدقّة وطلباً للضبط والتحقق، خاصةً وأنّ علم الفلك قد تطوّر تطوّراً باهراً في القرن الأخير من عمر البشرية.ويعارض هذا القول قول المتشبثين بالرؤية المجرّدة لأغراض مختلفة فمنهم من غلب عليه الحسّ النقلي وأوغل في إتباع ظاهر النصوص وجزئيتها تاركاً المقاصد والكليّات وراءه ظهرياً ومنهم من يعتبر مثل هذه الرؤية نفوذاً له لا يطيق أن يتنازل عنه لأنه يقلّل من سلطته ويحدّ من نفوذه خاصة في مثل هذا الأمر الذي يتشوف له المسلمون بترقبِ وإخبات وخشوع ومنهم عدا ذلك مشارب شتى ليس هنا مجال إحصائها وصدق الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حين قال: «هناك علماء يعيشون في أبراجِ عاجيةِ نظرتهم لعلم الفلك تنتمي إلى 700 عامِ مضت».في استقبال الشهر الكريم تعوّد كثير من الناس أن يتجهّز بالمؤونة الغذائية الخاصة بهذا الشهر حسب عادة كل بلدِ مسلم والتقاليد المتبعة لدى مواطنيه، فرمضان منذ القدم كان يرتبط دائماً بطقوسِ خاصةِ في المأكل والمشرب والعادات الاجتماعية تختلف من مكانِ لآخر ومن قطرِ إلى قطر، فجدول الحياة اليومية للناس يتغيّر تغيراً شبه كامل في هذا الشهر الفضيل.مع انتشار الصحوة الإسلامية، بدأ هذا الشهر يأخذ طابعاً جديداً في مجالاتِ متعددةِ منها استقبال هذا الشهر بجداول توزّع ورقياً أو إلكترونياً توضح للراغبين المساجد المفضّلة لأداء صلاة التراويح والقيام وأسماء الأئمة في كلّ مسجدِ مع حواشِ صغيرة تبيّن فضل هذا الإمام عن ذاك وتمنح كلّ واحدِ منهم مزيّةً يتفرد بها عن غيره هذا فضلاً عن التداول الشفهي الذي يتم تناقله على نطاقِ واسعِ للتفضيل بين المساجد والأئمة، وقد علم كل أناسِ مشربهم.ما نتمنّى أن يتغيّر هذا العام هو أكثر ما في هذه العبادات الروحية والصلوات مساساً بواقع الناس ومعيشتهم والعلاقات بينهم والذي كثيراً ما جعله البعض مدخلاً سياسياً غريباً للتعبير عن توجه هذا الإمام ورؤيته الخاصة للواقع المحلّي والإقليمي والدوليّ، ألا وهو «القنوت»، وكما نعلم جميعاً هو مجموع الأدعية التي يختارها الإمام ليدعو بها بعد قيامه من الركوع الأخير في التراويح أو القيام أي في الوتر.تعوّدنا منذ سنواتِ غير قصيرةِ أن يُتّخذ هذا القنوت وسيلة للتعبير عن مواقف سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها مما يشغل الرأي العام، وانتشر في هذا القنوت نوع من الأدعية يثير الكراهية وينشر البغضاء ويحرّك حفيظة مستمعيه والمؤمّنين عليه وأكثر ما يسوء في مثل هذه الأدعية هو الأدعية التي فيها عدوان على الناس وتعدِ في الدعاء، وذلك من خلال صبّ اللعنات على غير المسلمين، والدعاء بالمصائب على المسلمين المخالفين، وسؤال الله أن يعاقب النساء والأطفال وأمثالهما من الذين ليس لهم حول ولا قوة، ويتفنّن الأئمة المتبعون لهذا النهج في تنويع الأدعية وملئها بالسجع المتكلّف، ويحسب بعضهم أنّه كلّما اشتدّ في أدعية الكراهية هذه كان ذلك أدعى لاستجلاب المأمومين الحانقين وشحن المأمومين المحايدين، وربما رأى بعضهم أنّ هذا النوع من الأدعية هو مما يقربه إلى الله زلفى وتلك والله الرزيّة!ليت هؤلاء الأئمة يتذكّرون أنّ رسالة الإسلام كما عبّر عنها القرآن الكريم تتمثّل في قوله تعالى:(وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين) وقوله تعالى:(لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى:(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقوله تعالى:(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةِ أنا ومن اتبعني)، وقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي لرحمته والكثير الكثير مما يشابه هذه الآيات الكريمات في معناها ويقف معها -كذلك- تأييداً وتأكيداً الكثير من الأحاديث النبوية والآثار التراثية التي تصبّ في نفس التوجّه فليت أئمتنا الكرام يملأون قنوتهم بدعوات التراحم والمغفرة والإحسان والتواصل في شهر هو شهر الرحمة والمغفرة والإحسان.أمرٌ آخر هو أنّ كثيراً من المسلمين وبدافعِ تقويِ محضِ يوقّتون صدقاتهم وزكواتهم حتى توافق هذا الشهر الكريم، ففي هذا الشهر تصرف مبالغ تقدّر بالمليارات على سبل الخير ومسالك النفع العام، وهذا خير وتكافل اجتماعي جميل، غير أنّ ثمة نقطتين جديرتين بالملاحظة على مثل هذا السلوك: أولاهما: أنّ كثيراً من المتبرّعين لا يتوثّق من مآل أمواله التي ينفقها ابتغاء رضا الله، وهذا تهاون لا يجوز بحالِ من الأحوال وبخاصةِ ونحن نعلم انتشار النصّابين الذين يترصّدون لهذه الأموال فيأخذونها ويصرفونها في غير ما يرضي الله وأشدّ هؤلاء خطراً وأكثرهم ضرراً جماعة تأخذ هذه الأموال لتموّل بها جماعات الإرهاب وعصابات العنف الديني في شرق هذا العالم وغربه والسوابق على هذا النموذج كثيرة في أكثر من بلدِ مسلم فعلى المنفقين أن يأخذوا حذرهم ويتأكدوا أنّ أموالهم تنفق في وجوه الخير والتراحم، لا في وجوه الشر والإرهاب والتباغض.ثاني هذه الملاحظات: هو أنّ كثيراً من المتبرّعين تصبّ تبرّعاتهم في مسارب تقليديةِ -فيها خير دون شكِ- ولكنّهم يغفلون عن سبلِ للخير هي أكثر نفعاً وأعظم أجراًٌ فيركّزون على بناء المساجد أو طبع المصاحف أو إطعام الفقراء أو نحوها من المسارب المعتادة ويتناسون أنّ ثمة مسارب لا تقلّ عن هذه المسارب بحالِ بل ربما زادت عليها في النفع والأجر من مثل بناء المدارس وتشييد المستشفيات، ودعم مراكز البحوث، وتبنّي مشاريع تساعد الفقراء على كسب الرزق بأيديهم، بدلاً من أن تعوّدهم على المسألة أعطاهم الناس أم منعوهم وغيرها كثير من سبل الإحسان الجديدة التي تواكب العصر وتنفع الناس وتمكث في الأرض وينبغي على المنفقين الالتفات لها والتركيز عليها.ثمة أمر أخير جدير بعناية الفقهاء والعلماء، وهو أنّ المسلمين منتشرون في شتى أصقاع الأرض، وهناك مناطق في هذا العالم يطول فيها النهار حتى يتجاوز العشرين ساعةً، وأهل هذه البلدان يعانون عنتاً شديداً من الصيام، ويُضطر بعضهم لأخذ إجازةِ حتى يستطيع إكمال صيامه كلّ يوم لما يجده من مشقّةِ وتعبِ وإرهاقِ وهو ما قد يؤدّي إلى أمراضِ جسديةِ مضنيةِ، فليت أنّ أهل الفقه يراعون مثل هؤلاء الناس في فتاواهم، ويجدون لهم مخرجاً شرعياً يهون عليهم أعباء الصيام ويبدلهم بدل المشقّة يسراً وبدل الضيق سعة. وكل عامِ وأنتم بخير.[c1]* صحيفة «الاتحاد» الإماراتية[/c]