أحمد الحبيشي منذ فوزها في الانتخابات التشريعية في اراضي السلطة الوطنية الفلسطينية تتعرض حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لمطالب سياسية واسعة من محيطها الفلسطيني والإقليمي والدولي لا تخلو من الضغوط أو الابتزاز بحسب وصف قادة " حماس " لهذه المطالب التي تشدد على ضرورة التزام التسوية السلمية من خلال المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وحكومة السلطة الوطنية الفلسطينية المنتخبة ، واحترام الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها حكومة السلطة السابقة قبل فوز حركة " حماس " ، وإلغاء الدعوة إلى تدمير دولة إسرائيل التي يتضمنها " الميثاق المقدس" لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" . و مما له دلالة عميقة أن يصدر بعض هذه المطالب من مجلس الأمن الدولي الذي طالب " حماس " بالتزام الاتفاقات والقرارات الدولية ، بالإضافة إلى الجامعة العربية التي أكدت على ضرورة التزام "حماس" بالمبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2003 م . الثابت أنّ قيادة حركة "حماس" أبدت مرونةً كبيرةً في التعامل مع هذه المطالب أو " الضغوط " حيث تضمن الخطاب السياسي والإعلامي لقيادة "حماس" بعد فوزها في الانتخابات قدرا كبيرا من المرونة والاعتدال ، لجهة التأكيد على التزام الواقعية السياسية لمصلحة الشعب الفلسطيني ، ناهيك عن ان الرسائل السياسية التي وجهتها "حماس" في اتصالاتها مع أطراف عربية ودولية أبدت استعدادًا للتعاطي بواقعية سياسية مع الالتزامات والاتفاقيات الدولية فور تسلم قيادة الحكومة الفلسطينية ، بخلاف الرسائل الثورية التي وجهتها "حماس" لناخبيها أثناء الانتخابات ، وعلى النقيض من البرنامج الانتخابي لحركة " فتح " ، حيث تضمن برنامج " حماس " الانتخابي مواقف واضحة ومحددة تؤكد تمسكها بمواصلة السير على نهج المقاومة المسلحة ، وإسقاط اتفاق (أوسلو) والتعهد بعدم إجراء أية مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، إلى درجة أنّ الناطق الرسمي باسم "حماس" أعلن بوضوح عبر القنوات الفضائية اثناء الحملة الانتخابية ، أنّ " حماس" لن تجري أي مفاوضات مباشرة مع إسرائيل حتى وإن كان الأمر يتعلق بالحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين، مثل إغلاق المعابر على وجه التحديد، مشيرًا إلى أنّ حركة "حماس" ستدرس في مثل هذه الحالات الاستثنائية عددا من البدائل التي قد تنطوي ــ بشكل إضطراري ــ على إجراء اتصالات أو مفاوضات غير مباشرة مع الدولة العبرية بواسطة طرف ثالث ، وهو ما سخر منه ، حينها ، صائب عريقات وزير شؤون المفاوضات عبر حملته الانتخابية ايضا ، مؤكدا ان " حماس " لو نجحت في الانتخابات ستفعل ما فعلته " فتح " ان لم يكن أكثر !!! والحال أنّ المبادرة العربية بشأن السلام في الشرق الأوسط التي أقرها الرؤساء والملوك والقادة العرب في قمة بيروت عام 2003م ، بناءً على مبادرة تقدم بها آنذاك الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما كان وليًا للعهد ، لقيت تأييدًا عربيا ًوعالميا ًكاسحا ً، مقابل أصوات قليلة معارضة للمبادرة ، بعضها جاء من ( حماس) والحركات القومية الإسلامية التقليدية، والبعض الآخر جاء من صقور حرب الإبادة التي شنها أرييل شارون على الشعب الفلسطيني. ثمة أصوات عربية ايضًا لم تقابل تلك المبادرة بالترحيب ، ومن بينها حركة "حماس" التي عارضت المبادرة بأسلوب حذر ومهذب على لسان الشيخ أحمد ياسين رحمه الله والذي اكتفى بالقول آنذاك : " نحن ضد هذه المبادرة إلا إذا كانت تكتيكية مرحلية تمهد الطريق لتحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر" بحسب تصريح متلفز بثته قناة " الجزيرة في ذلك الوقت ، بيد أنّ بعض المعارضين للمبادرة عبروا عن رأيهم فيها ومواقفهم الرافضة لها بطريقة غاضبة وعنترية تدل على أنّهم عاجزون عن الانعتاق من رواسب الثقافة السياسية الشمولية وطرائق التفكير والعمل الطوباوية ، إذ سارعوا إلى التشكيك والتخوين والتجريح، ومارسوا وصاية غير مفهومة على الحقيقة والقضايا الوطنية والقومية.. وهي ثقافة سياسية دوغمائية لا مستقبل لها في عالم متغير تسوده رياح التحولات الديمقراطية ، وتتعزز فيه قيم متحضرة لإدارة الاختلاف والتباين والتعدد في الآراء والأفكار والتصورات والمواقف ، من خلال الحوار والنقاش والنقد الموضوعي والتفكير الواقعي وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة . نسي أولئك الغاضبون والرافضون لمبادرة السلام العربية أنّ الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر تعرض لشتائم جارحة واتهامات مماثلة ، وصلت ذروتها بخروج مسيرات حزبية في بغداد ودمشق وعمّان نظمتها الأحزاب القومية واليسارية وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية ، بالإضافة إلى حملاتٍ إعلامية وكتابات صحفية ، احتجاجًا على قبول الرئيس جمال عبد الناصر مبادرة (روجرز) وزير الخارجية الأميركي الأسبق أواخر عام 1969م الذي عرض حينها استعداد الولايات المتحدة للقيام بدور الوسيط في مفاوضات غير مباشرة بين الدول العربية وإسرائيل بشرط أن تعلن الدول العربية قبولها قرار مجلس الأمن الدولي رقم (242) الذي رفضته قمة الخرطوم بواسطة لاءاتها الثلاث الشهيرة ( لا صلح - لا تفاوض - لا اعتراف) بعد حرب يونيو 1967م!! وكما هو معروف فقد ظلت الدول العربية لا تعترف ــ من الناحية الرسمية ــ بالقرار الدولي رقم (242) على الرغم من انها كانت تطالب ــ رسميا ً ــ بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بشأن الصراع العربي الإسرائيلي ، واستمر الموقف العربي الرسمي يرفض القرار الدولي رقم (242) منذ قمة الخرطوم الشهيرة بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967 م ، الى ان تراجعت عنه الدول العربية رسميا في قمة بيروت عام 2003 م ، حين أقر الرؤساء والملوك العرب مبادرة السلام العربية؟ القرار الدولي الذي رفضته القمة العربية في الخرطوم أواخر عام 1967م ، ولم تتراجع عنه إلا في قمة بيروت عام 2003م ، حين أقرالرؤساء والملوك العرب مبادرة السلام العربية التي اقترحها الملك عبدالله بن عبد العزيز. والثابت ان أبرز ما يميز المبادرة العربية للسلام هو انها تتطابق مع مضمون القرار الدولي رقم (242) الذي ينص على ضرورة انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي العربية التي احتلتها بعد يوم الرابع من يونيو 1967م، ويشدد على إقامة سلام دائم وشامل في منطقة الشرق الأوسط ، ويؤكد على ضمان حق جميع دول المنطقة في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها.. وقد ألزم ذلك القرار كافة الأطراف المعنية بالشروع في إجراء مفاوضات مباشرة لتحقيق السلام برعاية الأمم المتحدة. بوسع أي محلل منصف وهو يتابع سيل المسيرات والمقالات والخطب والأحاديث التي تطالب العالم بالضغط على إسرائيل لتطبيق قرارات الشرعية الدولية وفي أساسها قرار مجلس الأمن الدولي رقم (242 )، أن يسجل لجمال عبد الناصر أنّه كان صاحب السبق الأول في مراجعة ونقد النص القديم للخطاب السياسي العربي الذي كنّا نخاطب به أنفسنا فقط ، بعد أن عجزنا عن إقناع العالم به!!مالا زلت أتذكر ان إحدى الصحف الحزبية المعارضة التي تصدر في صنعاء نشرت آنذاك مقالات وبيانات غاضبة على المبادرة السعودية والتي تحولت الى مبادرة عربية في قمة بيروت عام 2003 م وقد استرعى انتباهي الاتفاق التام بين تلك المقالات وبين موقف شارون حول عدم الاعتراف بشرعية الرئيس الراحل ياسر عرفات وبالسلطة الوطنية المنتخبة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة والتي تمثلها اليوم " حماس " بذات الشرعية الانتخابية التي كانت تمثلها " فتح " آنذاك ، إلى درجة ان تلك الصحيفة الحزبية المعارضة رددت بالحرف الواحد ما قاله شارون في احد مؤتمراته الصحفية التي عقدها في واشنطن عشية قمة بيروت العربية عام 2003 حين وصف السلطة الوطنية الفلسطينية بأنّها " سلطة ياسر عرفات " وليست سلطة الشعب الفلسطيني؟!! الأهم من كل ذلك أنّ أحد الكُتاب العرب الناصريين كتب في مقال أعادت تلك الصحيفة الحزبية المعارضة نشره عن صحيفة " القدس العربي" التي تصدر في لندن قوله بالحرف الواحد : " أنّه في الوقت الذي كان الرئيس جمال عبد الناصر يدعو إلى تدمير إسرائيل وإلقاء اليهود في البحر، كان أقصى مطمح لإسرائيل هو الجلوس مع دولة عربية على مائدة المفاوضات"!! لا نبالغ حين نقول أنّ المذيع أحمد سعيد وليس الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي كان يخاطب العالم بهذه اللغة الإقصائية التهريجية قبل هزيمة 5 يونيو 1967م.. وكان أحمد سعيد واحدا ً من أبرز القيادات السياسية والعسكرية والإعلامية التي عزلها جمال عبدالناصر بسبب مسؤوليتها عن تلك الهزيمة. من نافل القول إنّ ذلك الخطاب الإعلامي التهريجي خدم إسرائيل كثيرًأ ولم يخدمنا في صراعنا العادل معها ، حيث عجزنا عن إقناع أقرب حلفائنا وأصدقائنا في الدول التي تعاطفت مع قضايانا العادلة وساندتنا في صراعنا مع إسرائيل ، مثل الاتحاد السوفيتي والصين واليابان ويوغسلافيا ودول عدم الانحياز التي تضم عددًا كبيرًا من الدول الأفريقية التي ناضلت وتحررت من الاستعمار.. وقد اختلفت تلك الدول الصديقة معنا في شعار تدمير إسرائيل ، رغم أنّها قطعت عَلاقاتها الدبلوماسية معها تضامنا ً مع القضية الفلسطينية والحقوق العربية العادلة.. ناهيك عن عجزنا في إقناع المجتمع الدولي بصواب رؤيتنا لمستقبل الصراع العربي الاسرائيلي بناء على خطاب ندعو فيه إلى تدمير إسرائيل وإلقاء اليهود في البحر. يقينا ً أنّ المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2003م، والمطلوب من "حماس" بعد فوزها تجديد التزام حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية بها، هي عمل سياسي مقاوم بامتياز.. وبهذا المعنى يقع على حركة " حماس " واجب الاستفادة من دروس الماضي والابتعاد عن التفكير الايديولوجي الدوغمائي ، والاحتكام الى التعامل مع الواقع ومشكلاته المعقدة من خلال النقاش الرصين والتحليل الموضوعي . صحيح ان قلة من النخب السياسية الدوغمائية عارضت المبادرة العربية للسلام ــ و التي لا شك في ان " حماس" ستلتزم بها بعد تشكيل حكومتها المرتقبة ، بصرف النظر عن برنامجها الانتخابي الذي فاز في الانتخابات الأخيرة ــ بيد ان تلك النخب عارضت مبادرة السلام العربية بالردح والقدح والخطابات الانشائية والشعارات العنترية التي تنطوي على هروب مموه من مواجهة الواقع، تمامًا مثلما حدث للرئيس جمال عبد الناصر في اواخر 1969م ، حين تجاوز نصوص خطاب قمة الخرطوم التي رفضت قرار مجلس الأمن الدولي رقم (242). في عام 1947م رفضت الدول العربية قرار الأمم المتحدة الخاص بالتقسيم وإنشاء دولة إسرائيل ودولة فلسطين.. وبعد أكثر من نصف قرن تطالب هذه الدول بحقوق الشعب الفلسطيني المحددة في ذلك القرار، وبالقدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967م كعاصمة لهذه الدولة، بينما كان قرار التقسيم الصادر عام 1947م يضع القدس كلها ضمن المساحة المخصصة لدولة فلسطين قبل أن يخسر العرب جزءها الغربي في حرب 1948م بعد رفضهم قرار التقسيم !!. لقد خسرنا مشروع تدمير إسرائيل.. وخسرنا معارك التنمية والتقدم العلمي والديمقراطية وحقوق الإنسان ، واصبحنا نسمع من يشدد على ضرورة العودة الى نمط حياة الأسلاف و(( الإكتفاء بنخيلنا وتمرنا ولبننا )) بحسب فتوى أطلقها الشيخ القرضاوي قبل اسبوعين عبر قناة ((الجزيرة )) القطرية .. فيما أصبحت إسرائيل دولة صناعية ونووية تغزو أسواقنا بمنتجاتها الكهربائية والإليكترونية المهربة ، وتهدد أمننا القومي بأسلحة الدمار الشامل.. فهل تغامر حركة (( حماس )) مرة أخرى بمعارضة مبادرة قمة بيروت العربية للسلام ، والتضحية بالمكاسب التي حققتها الثورة الفلسطينية بالوسائل العسكرية والسياسية منذ اربعين عاما ونيف قبل ان تولد (( حماس )) ، وما يترتب على ذلك من مواصلة السير على نهج الخسائر والضياع ، ثمّ نعود لنستنجد بهذه المبادرة والمكاسب مرةً أخرى بعد وقوع كوارث جديدة لا سمح الله.؟ .. وهو ما سأتناوله في الجزء الثاني من هذا المقال في الاسبوع القادم بإذن الله .نقلا عن / (( 26 سبتمبر ))
الثورة الفلسطينية يفي ثرحاب الدمقراطية ؟ [1-2]
أخبار متعلقة