أضواء
مرام عبد الرحمن مكاويالمكان: الصحن الشريف في المسجد الحرام..الزمان : حتى النصف الثاني من القرن الهجري الماضي.. كنت ترى شيوخ وطلاب ومريدي أربعة مذاهب إسلامية يتقاسمون المكان والزمان بكل تسامح وأريحية. وحين يصلي الشافعي مسدلاً يديه لم يكن يخاف من أن ينهره شاب قائلاً: «بدعة يا شيخ!» أو يتهمه بأنه على غير مذهب أهل السنة والجماعة.في رسالة ماجستير بعنوان (الدور التربوي لحلقات العلم بالمسجد الحرام في عهد الملك عبد العزيز) استخلص الباحث حسن محمد حسن شعيب من كلية التربية في جامعة أم القرى، ما يلي: « التنوّع الفقهي لدى مدرسي المسجد الحرام الكائن في تمثيلهم للمذاهب الفقهية الأربعة، وأن النساء شاركن في حضور بعض حلقات الدروس بالمسجد الحرام ؛ وانعكس ذلك في تشجيع بعض علماء المسجد الحرام، تعليم البنات وإنشاء المدارس الخاصة لهنّ في تلك الفترة، كما ظهر دور طلاب حلقات الحرم المقيمين - الإندونيسيين خاصة - في ازدهار حلقات الدروس بالمسجد الحرام ؛ نتيجةً للتنوّع العِرقي في أصول مدرسي المسجد الحرام الذي كان له دور في التواصل مع طلاب العلم من كافة أنحاء العالم الإسلامي، كما شارك علماء ودعاة من كافة أنحاء العالم الإسلامي في عقد حلقات ودروس عامة وخاصة للناس بالحرم فترة المواسم، وتميزت هذه الفترة بازدهار الدراسات الفقهية لعلماء المسجد الحرام من خلال مشاركاتهم في التأليف والبحث في مختلف القضايا الفقهية المعاصرة، وكان نتيجة ذلك وفرة الإنتاج العلمي لمدرسي المسجد الحرام من تأليف ومشاركات إعلامية في الصحافة والإذاعة، وإلقاء للمحاضرات والدروس العامة، وعلى المستوى الوظيفي ساهم مدرسو المسجد الحرام في سدّ احتياجات الدولة من الوظائف الإدارية والتعليمية، وساهموا كذلك في الحراك العلمي والثقافي بالمجتمع المكي، وقاموا بأدوار اجتماعية وثقافية داخلياً وخارجياً».وما استخلصه الباحث يوضح لنا لماذا لم لمن يكن هناك يومها « تعصب» أو « تنطع» أو « غلو» في منطقتنا، ناهيك عن أن يكون هناك إرهاب. ثم شيئاً فشيئاً بدأ التحول، وبدأت الوسطية والتعددية تختفيان ليحل محلهما المذهب الواحد والرأي الواحد، حتى كان مطلع العام الهجري 1400 حين استولى جهيمان العتيبي على المسجد الحرام قبل أن تقضي عليه وعلى حركته الحكومة السعودية في أواخر الشهر ذاته.المشكلة أن جيهمان أُعدم لكن فكره الذي يمثل غاية التشدد والغلو الديني قد بقي، بل يبدو أنه ازدهر بعد ذلك. فلا أعرف كيف اعتقد البعض بأن محاربة الفكر المتطرف تكون بتبنيه! وفشلت تلك الخطة وما زلنا نجني ثمارها حتى اليوم، ليس فقط من خلال الإرهاب المسلح، وإنما الإرهاب الفكري والتشدد والغلو والتعصب. فنحن قدمنا نسخة واحدة من مدرسة واحدة من الإسلام، وألغينا (أو كدنا) كل ما سواها لدرجة أن من يطرح رأياً إسلامياً مخالفاً وإن كان معتبراً وقد أخذ به كبار الصحابة والتابعين في زمانهم فإن مقدم هذا الرأي يمكن أن يتهم بالكفر أو التبديع.ولنأخذ قضية جدلية مثل الغناء. وأنا هنا لا أفتي ولا أتبنى هذا الرأي أو ذاك وإنما أنقل عن الشيخ الجليل محمد الغزالي إذ يقول عن الغناء في كتابة (السنة النبوية..بين أهل الفقه وأهل الحديث): «إنه ليس لدينا نص يحظره». ويورد رحمه الله قول ابن حزم: « وبيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله ومن كسر شيئاً من ذلك ضمنه». أما الآية الكريمة «ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله « فقد نفى ابن حزم أن تكون في الغناء تحديداً وقال: «إن نصها يشرح المراد منها، فإن من يريد الإضلال عن سبيل الله»واتخاذها هزواً كافر بإجماع المسلمين (...) ولو أن امرءاً اشترى مصحفاً ليضل عن سبيل الله لكان كافراً». ويقرر الشيخ الغزالي بعد ذلك قائلاً: « والحق أن الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح!».وما ذكرته عن الغناء يصلح بالفعل مثالاً يوضح كيف تم تغييب رأي طائفة معتبرة من العلماء والفقهاء المتقدمين والمتأخرين بشأنه، وهناك حالات تفككت فيها أسر ووقعت قطيعة أو طلاق بسببه.واليوم جئنا نطلب حلولاً لهذه المشكلات بعد أن اكتوينا بنارها، ويا لها من حلول عجيبة تلك التي تطرح غالباً! إن هناك قضية مهمة يجب أن يدركها الجميع وخاصة أولئك المعنيين بقضية الإرهاب والتشديد وسأقولها بكل صراحة: الإرهاب الديني بكل أنواعه والغلو الاعتقادي بكافة أشكاله لا تحلهما الليبرالية ولا التطرف نحو الضفة الأخرى. وسياسة تجفيف المنابع ومحاولة فرض نمط الحياة الغربي قد أثبتت فشلها في العديد من المجتمعات الإسلامية، بل إنها في الغالب تؤدي إلى ردة فعل عكسية وإلى تقوية موقف المرجفين والخوارج.فالمشكلات الناتجة عما يسمى بالتطرف الإسلامي لن يحلها سوى فكر إسلامي معتدل مستند إلى صحيح الشريعة مدعوم بأدلة من الكتاب والسنة ومن القرون المفضلة. لن يحلها سوى إحياء مبدأ التعددية الفكرية الإسلامية وفتح باب الاجتهاد ومحاربة العنصرية المتسترة بالدين سواء كانت وطنية أو مناطقية أو مذهبية، ومن ذلك قول أحد المشايخ في إحدى جلسات الحوار الوطني أنه لا ينبغي الأخذ بآراء علماء من خارج القطر (السعودي)! وهو أمر يتناقض مع عالمية الإسلام ومع معياره للأفضلية وهي التقوى والعلم بالشريعة.ولأن مكة هي القبلة والمحور والأنموذج للعالم الإسلام، فقد آن الأوان أن نعيد إليها وإلى مدينة رسول الله أيضاً..شكلهما الأول..أن نعيد لهما التعددية والوسطية، وبغير ذلك سنظل في المعركة ذاتها منذ ثلاثين سنة بين كر وفكر مع الغلو وأهله في أبسط الأمور كما أعقدها. [c1] «الوطن» السعودية [/c]