قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن :
محمد زكريافي الحادي والثلاثين من أكتوبر سنة 1914م ، أعلن الباب العالي العثماني الحرب على إنجلترا ، فرنسا ، إيطاليا ، وروسيا القيصرية . ويقول وزير السلطنة العثمانية طلعت باشا ( وهو من قادة جمعية الإتحاد والترقي الذين أطاحوا بالسلطان عبد الحميد الثاني ) السبب الرئيس في دخول السلطنة الحرب بجانب ألمانيا القيصرية ، بما معناه : “ أن ألمانيا القيصرية وقعت مع السلطنة العثمانية معاهدة سرية عسكرية وهى في حالة دخول الأولى الحرب أو تعرضت لعدوان مسلح من دولة أخرى ، فإن على الأخيرة أنّ تخوض معها غمار الحرب “ . ويضيف طلعت باشا ، قائلاُ : “ بأنه لم يكن يدور بخلدنا أنّ ألمانيا كانت تعد العدة لحرب حقيقية شاملة على إنجلترا لتزاحمها على ممتلكاتها وبذلك وقعت السلطنة في فخ الحرب وأهوالها “ . ونستخلص من ذلك أنه من الأسباب الرئيسة في دخول السلطنة العثمانية الحرب هى الاتفاقية السرية العسكرية التي وقعتها مع ألمانيا القيصرية . ولكن كان هناك سبب آخر ومهم في دخول السلطنة الحرب لم يعلنه الوزير العثماني وهى أنّ السلطنة ، كانت تشعر إزاء إنجلترا بالمرارة الشديدة ، والعداوة والكراهية العميقين نحوها ، فقد أذلتها الأخيرة إذلال كبيرًا , حيث أخذت تسحب الكثير والكثير جدًا من ممتلكاتها من تحت قديمها بل أنها غطت الطرف عن إحتلال بعض الدول الأوربية لممتلكاتها كإيطاليا التي احتلت طرابلس الغرب سنة 1911م. وأخذت إنجلترا تعقد معاهدات الحماية والولاء والسلام مع إمارات ، وحكام بلاد جزيرة العرب وتثيرهم ضدها ومنها الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف بن حسين ، وعندما اندلع بركان الحرب العالمية الأولى ، كانت أرض اليمن بصورة عامة ولحج وعدن بصورة خاصة إحدى الجبهات التي دارت رحاها بين السلطنة العثمانية التي جنحت شمسها إلى المغيب وإنجلترا العظمى سيدة البحار بلا منازع والتي كانت فوق الجميع حينذاك .[c1]أهداف الحملة العثمانية[/c] مازالت الأسباب الحقيقية وراء الحملة العثمانية بقيادة القائد العثماني علي سعيد باشا ، القائد العام للقوات العثمانية في اليمن على لحج وعدن مثار نقاش حاد و طويل بين المؤرخين المحدثين الأتراك ، والغرب والعرب ، فالبعض يعزو بأنّ الحملة العثمانية ، كانت من أهدافها الرئيسة هو طرد الإنجليز من عدن من ناحية وقطع شريان مواصلاتها البحرية بين لندن والهند من ناحية أخرى والاستيلاء على السويس في مصر من ناحية ثالثة وأخيرة . و هناك من يرى من المؤرخين والكتاب العرب أنّ الحملة على لحج ، كانت بمثابة مناوشات وإشغال الإنجليز في عدن فحسب . وهذا ما أكده أمين الريحاني في كتابه ( ملوك العرب) ، فقد ذكر أنّ الغاية من حملة علي سعيد باشا على عدن هو إشغال الإنجليز هناك “ . وفي هذا السياق يقول سلطان لحج علي بن أحمد المتوفى ( 1915م ) الذي تولى عرش السلطنة اللحجية مدة عام وثلاثة شهور : “ أنّ الدولة العثمانية خاطرت بكيانها بسبب دخولها هذه الحرب “ . والحقيقة أنّ تلك العبارة تدل دلالة واضحة بأنّ العثمانيين بصورة عامة وفي اليمن بصورة خاصة ، كانوا في حالة ضعف شديد ، وأنّ طردهم للإنجليز من عدن يعد ضربًا من ضروب العبثو المستحيلات . وهذا ما أوردته بعض الوثائق التركية بما معناه : “ أنّ نزع الإنجليز من عدن يعد من المستحيلات لكونها كانت قلعة عسكرية حصينة يصعب اختراقها أو حتى المساس بها ونظرًا لأنّ عدن كانت بالنسبة للحكومة في عدن حياة أو موتاً أو مركزاً عسكرياً خطيراً ومهم لكونها مفتاح جنوب البحر الأحمر أو المدخل الحقيقي لجنوب البحر ، فقد ركزت على الدفاع عنها بشتى الوسائل العسكرية الممكنة والمتاحة لها “ وهذا ما حدث بالفعل عندما عصفت رياح قوات علي سعيد باشا المحميات ولحج ، فقد نزعت إنجلترا يدها عنها لتواجه مصيرها المحتوم والحزين حيث وجهت كل قدراتها وإمكانياتها العسكرية لحماية مستوطنة عدن .[c1]أوهام القيادة العثمانية[/c]والحقيقة أنّ القيادة العثمانية في الآستانة والذين كان يديرها ( قادة جمعية الإتحاد والترقي ) يبدو أنها كانت تسبح في عالم الأحلام والأوهام وهو تحقيق النصر الأكيد على الإنجليز في جبهة عدن دون أنّ تدرك الحقائق القائمة على أرض اليمن أو بمعنى الأوضاع العسكرية لقواتها والتي كانت في حالة هزال كبير ، فقد كانت ترسم خططها العسكرية البراقة على الخرائط وهى طرد الإنجليز من عدن ومن ثم قطع شريان مواصلاتها في البحر الأحمر والمحيط الهندي بين لندن الهند والاستيلاء على مصر ـــ كما قلنا سابقاً ــــ دون أنّ تدري قوتها وقوة عدوتها إنجلترا . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ( نقلا ) عن المؤرخ Lenczowski في كتابه (The Middles East in the World Affairs ) من أهداف حملة علي سعيد باشا على لحج وعدن كان التي وضعتها القيادة العثمانية في الآستانة ، كانت : “ ... عسكري محض بناء على خطة الدولة العثمانية عامة ومن ورائها ألمانيا ، وهي طرد الإنجليز من عدن واحتلالها ، واحتلال جزيرة بريم ( ميون ) وهما مفتاح البحر الأحمر الجنوبي ، وبذلك يعطلون مواصلات بريطانيا ، وكانت مهاجمة عدن جزءًا من خطة مهاجمة الإنجليز في مصر والاستيلاء على قناة السويس حتى يحرموا بريطانيا من أهم طريق حيوي في مواصلاتها الإمبراطورية “ .[c1]لحج الميدان الثاني[/c] ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم أنّ السبب الرئيس في اختيار القائد التركي علي سعيد باشا جبهة لحج وعدن بدلا من عسير هو مهاجمة الإنجليز مباشرة . فيقول : “ وعلى كل حال ، أكان غرض سعيد باشا ـــ من تحركه ومهاجمته لحج ـــ الوصول إلى عدن نفسها وطرد الإنجليز منها ، أو (( مشاغلتهم )) فقط هناك , فقد كان هذا الغرض العسكري ، هو الذي حدد الجهة التي يزحف إليها . لذلك اتجه سعيد باشا إلى لحج دون عسير مثلاً ، وإنّ كانت تعتبر كل منهما تعتبر أرض حرب ، وكان من الممكن أنّ يهاجم عسير ، ليحرم الإنجليز من التحالف مع الإدريسي أولاً ــــ أمير عسير والذي يعد العدو اللدود والخصم القوي للسلطنة العثمانية ــــ ، وليمنعهم من استعمالهم لموانيه في محاصرتهم ثانيًا ، ولكنه فضل الميدان الثاني في الجنوب حتى يهاجم عدوته ( أي إنجلترا ) هجومًا مباشرًا “. [c1]الأزمة الاقتصادية [/c]ومن العوامل الأخرى التي فرضت على العثمانيين في اليمن الزحف صوب لحج إلى جانب العامل العسكري الذي ذكرناه قبل قليل هو العامل الاقتصادي ، فقد ضربت إنجلترا حصارًا قويًا على السواحل اليمنية وخاصة المتواجدة فيها القوات العثمانية كجزيرة ( شيخ سعيد ) المطلة على باب المندب، والحديدة ، والمخا المطلان على البحر الأحمر ، مما أدى إلى قطع إمدادات مواد التموين عن العثمانيين في اليمن من ناحية وغلق الطريق البري المؤدي إلى عسير في وجه القوات العثمانية بسبب سيطرة الإدريسي حليف إنجلترا على تلك المنطقة من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ وهكذا وجدت نفسها ( أي القوات العثمانية ) نفسها محاصرة في نطاق ضيق لا يحتملهم كثيرًا ، فموارد اليمن محدودة أنهكتها الثورات والحروب الطويلة ، كما أنّ إقامتهم طويلاً في اليمن ، واعتمادهم ، كليًا على موارده ، يثير بالضرورة الأهالي الذين لم ينسوا منازعاتهم السابقة مع الأتراك . فالعثمانيون إذن من الناحية النفسية والاقتصادية ، لابد لهم أنّ يبحثوا عن مخرج وعن متسع يتنفسون فيه الصعداء ، لأنهم توقعوا حدوث ضائقة تطيح بهم إذا استمرت الحرب طويلاً ، وخاصة أنّ أعداءهم يحيطون بهم من كل جانب “ . ويضيف : “ لذلك قرروا مهاجمة المحميات بل وعدن نفسها ، وكانوا يرمون به وراء ذلك حلا لضائقتهم الاقتصادية المتوقعة . ويؤكد هذا ما قاموا به من استيلاء على المحاصيل والأغنام ــــ كما عبر العبدلي ــــ عند دخولهم لحج “ . [c1]عدن والدرع الواقي[/c] والحقيقة أنّ إنجلترا منذ أنّ وطأت قدماها عدن سنة 1839م ، جعلتها قلعة عسكرية حصينة وأحاطتها بسياج من المناطق الداخلية والتي عرفت بالمحميات لتحميها من التمردات والقلاقل القبلية وذلك عبر معاهدات ( الحماية أو الولاء ، الصداقة ) أو بشراء الأراضي المتاخمة لمستوطنة عدن ، كما فعلت مع شيخ قبيلة العقارب وبذلك تكون تلك المحميات أشبه ما تكون بالدرع الواقي . وهذا ما أكدته الباحثة شفيقة عبد الله العراسي في كتابها (( السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها )) ، حيث كتبت تقول : “ وكان على بريطانيا تأمين عدن باقتطاع الأراضي المتاخمة لها ، وأخذها سياجًا وحزامًا أمنيًا لها . ولما كانت هذه الأراضي خاضعة للعقربي المتاخمة لعدن . فقد فرضت عليه عقد اتفاقية في أبريل عام 1869 ، ألتزم بها بيع (( شبه جزيرة جبل إحسان )) وتشمل جبل حسان ، وخوربير أحمد ، والغدير وبندر فقم “. ولكي تحكم إنجلترا قبضتها على منافذ عدن وأحاطتها بحائط قوي يحميها من تقلبات الأوضاع السياسية ، فقد عقدت حكومة عدن سياسة معاهدات الحماية ، والولاء ، والسلام مع الإمارات والمشايخ والسلطنات والتي عرفت بالمحميات بغرض حماية عدن من الاضطرابات العسكرية التي قد تقع بين الحين والآخر ــــ كما مر بنا ـــ . وفي هذا الصدد ، تقول الباحثة شفيقة العراسي : “ وفرضت السلطات البريطانية ــــ لمواجهة تلك المخاطر ـــ (( معاهدات الحماية)) في تسعينات القرن التاسع عشر ، ألزمت بها سلاطين وأمراء ومشايخ جنوب اليمن التي تجاوز عددها ـــ عشية الحرب العالمية الأولى ـــ ثماني عشرة معاهدة ، عقدت أول معاهدة حماية مع (( سلطان المهرة وقشن )) عام 1886 . وتميّزت تلك المعاهدات بوحدة المضمون ، ونصت على أنّ تتعهد الحكومة البريطانية ببسط حمايتها على أراضي هؤلاء الحكام وتوابعها ، مقابل تعهدهم لبريطانيا عن أنفسهم وورثتهم وخلفائهم أنّ يمتنعوا عن الدخول في أية اتصالات أو معاهدات مع أية دولة أجنبية دون موافقة الحكومة البريطانية “ . والحقيقة أنّ تلك المعاهدات التي أبرمتها بريطانيا مع شيوخ وأمراء وحكام ، وسلاطين المحميات لم تكن لحمايتهم في الأساس ، وإنما كان الغرض منها هو حماية عدن سندريلة الإمبراطورية البريطانية أو مستوطنة عدن الجميلة ــــ على حد قول بعض الساسة الإنجليز ــــ . وقد أظهرت حملة علي سعيد باشا سواء على المحميات أو لحج أنّ إنجلترا قد ضربت عرض الحائط نصوص معاهدات الحماية مع المحميات بعد أنّ وجدت أنّ الخطر يحدق بعدن . وهذا ما أكدته الأستاذة شفيقة العراسي ، قائلة : “ وإنما كانت ( معاهدات الحماية ) في الأساس للدفاع عن (( عدن )) ، وتحويل هؤلاء الحكام إلى قوة حراسة للسهر على أمنها وسلامتها من أية هجمات تأتيها عبر المنطقة الداخلية . وتجلى ذلك في تخلي بريطانيا عن المحميات أثناء الحرب العالمية الأولى ، إذ اكتفت بالدفاع عن عدن تاركة المحميات تواجه أعباء الحرب مع الأتراك وحدها “ . [c1]العثمانيون في الشيخ عثمان [/c]والحقيقة أنّ الحملة العثمانية على لحج والمحميات ـــ كما مر بنا ـــ لم تكن الموقعة العسكرية الحاسمة والفاصلة لإنجلترا ، وإنما كانت تلك الموقعة الفاصلة والخطيرة تدور في أحراش غابات فرنسا المتاخمة لألمانيا القيصرية ، وعندما استبد القلق والخوف الكبيران بحكام ، وأمراء ، ومشايخ المحميات وعبروا عن استيائهم الشديد إزاء بريطانيا لتخليها عنهم أثناء زحف قوات علي سعيد باشا . ما دفع بقائد الجيش البريطاني في عدن إصدار منشوره في مايو سنة 1916 لتهدئة وتسكين خواطر وغضب هؤلاء الحكام عن سبب تقاعدهم في الدفاع عنهم وخوض معارك ضخمة وفاصلة مع الأتراك ، فقال : “ ليس بضعفنا امتنعنا عن حرب الأتراك الذين في لحج ، ولكن مملكة الدولة الإنجليزية واسعة جدًا ، ويلزمنا معاملة الميادين التي فيها العدو واحدًا بعد آخر بالتعاقب بحسب الخطط التي وضعتها .. وعلى كل حال ، لن تكون الموقعة الفاصلة في أرض العرب بل هى في فرنسا “ . ولقد أثبتت الحوادث اللاحقة أهمية عدن لدى الإنجليز ، فعندما اخترقت قوات علي سعيد باشا لحج الخط الأول لعدن أو بوابة عدن ، وبعدها مباشرة استولت على مدينة الشيخ عثمان ، وصارت القوات العثمانية قاب قوسين أو أدنى من عدن ، سارعت حكومة عدن بطلب النجدة من حليفتها فرنسا التي أرسلت 800 جندي من قواتها المرابطة في جيبوتي ، وطلبت كذلك تعزيزات من مصر . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ ... كان الإنجليز تحت ضغط القوات العثمانية الزاحفة أو بمعنى آخر كانت القوات الإنجليزية في حالة اضطراب شديد ما دفعها إلى إخلاء (( الشيخ عثمان )) وهى تعتبر ضاحية لعدن نفسها ـــ فأحتلها الترك والعرب ( يقصد القبائل اليمنية صاحبت حملة علي سعيد باشا ) في الحال ، ولكن الإنجليز تمكنوا ثانية من احتلالها في 21 يوليو سنة 1915 ، بعد أنّ وصلت إليهم نجدات عسكرية من مصر لإنقاذ عدن ، كما أرسلت ــــ في هذا الوقت الحرج ــــ تستنجد بفرنسا في جيبوتي ، فأمدتها بحوالي 800 من مدغشقر . وبناء على ما تقدم ، فإن إنجلترا كانت ترى أنّ عدن الحصن الحصين العسكري الذي يجب أنّ تتشبث به لكونه يطل على البحر العربي والذي هو امتدادًا للمحيط الهندي ، والمدخل الحقيقي للبحر الأحمر ، والشريان الحيوي المهم والخطير الذي يربطها بمستعمراتها في الهند دُرة التاج البريطاني ــــ كما قلنا سابقاً ــــ . [c1]سلطان لحج والعثمانيون[/c] وقبل أنّ تزحف القوات العثمانية بقيادة القائد العام الجركسي التركي علي سعيد باشا على لحج بعدة شهور ، وتستولي عليها في السادس من يوليو 1915م ، فقد جرت مفاوضات مكثفة وتبادل رسائل عديدة بين محمود نديم باشا الحاكم العام العثماني في اليمن وعلي أحمد بن علي محسن سلطان لحج ، وكان الأول يأمل أنّ يستميل السلطان إلى صف العثمانيين ضد الإنجليز ، ولكن كان السلطان ( علي ) ليس بمقدوره الانضمام إلى العثمانيين لكونه كان مرتبطًا بمعاهدة ( حماية ) هو وأسلافه من سلاطين لحج فضلاً عن دعم إنجلترا المالي لهم ، وإصباغ الشرعية على حكمهم ووقوفهم ضد خصومهم من شيوخ القبائل الأخرى . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلا : “ وكان موقف سلطان لحج معروفاً كذلك ، فهو حليف بريطانيا منذ أمد بعيد ، وهى تمنحه مشاهرة كبيرة وتعترف به سلطانًا في لحج ، كذلك كان أجداده من قبله ، ولهذا كان انحيازه إلى صف إنجلترا أمرًا متوقعًا بديهيًا “ . وكان من البديهي أنّ يقف سلطان لحج مع إنجلترا نظرًا للأسباب التي ذكرناها قبل قليل ، ولكن لم يدر بخلده أنّ حكومة عدن ستتخلى عنه بتلك الصورة المخزية والحزينة والتي دفع فيها حياته ثمن لها . [c1]الطريق إلى لحج[/c] وعلى أية حال ، فقد باءت محاولات محمود نديم باشا الحاكم العام التركي في اليمن في استمالة السلطان علي بن أحمد إلى جانبهم بالفشل الذريع ونتيجة ذلك فقد تحركت القوات العثمانية بقيادة علي سعيد باشا صوب المحميات و لحج . ويذكر الأمير أحمد القومندان صاحب (( هدية الزمن )) بما معناه : “ أنّ علي سعيد باشا ، قد طلب من السلطان ( علي ) أنّ يسمح له بالمرور ، ويعده بالمحافظة عليه وعلى ملكه ، ولكن السلطان أبى لأنه كان حليفًا لبريطانيا وخاضعًا لحمايتها “ . والحقيقة لا نستطيع أنّ نتأكد من صحة ما أورده ( القومندان ) في كتابه. فقد كان من أهداف تلك الحملة العثمانية الرئيسة هو السيطرة على لحج من ناحية وعدن من ناحية أخرى . ويورد صاحب ( هدية الزمن ) وقائع وتفاصيل تحرك قوات علي سعيد باشا نحو الضالع والتي وصلت إليها في يونيو 1915م . وتذكر المراجع اليمنية أنّ القوات العثمانية كانت تصاحبها جيوش إمامية ، وعربية ( ويقصد بها عدد من القبائل اليمنية ) . ويعقب الدكتور سيد مصطفى سالم حول تلك القوات الإمامية التي صاحبت القوات العثمانية في الهجوم على لحج ، قائلاً : “ وإنّ كنا نرجح في نفس الوقت أنّ بعض أتباع الإمام أو بعض الذين حاربوا العثمانيين تحت لوائه اشتركوا في الهجوم على لحج ولكن بصفتهم الشخصية لا بصفتهم ممثلين للإمام حيث أنّ ذلك كان يخالف خطته المرسومة التي ترمي إلى الامتناع عن الاشتراك في الحرب “ . وكيفما كان الأمر ، فقد زحفت قوات علي سعيد باشا صوب سلطنة لحج ولم تجابه مقاومة تذكر . وهذا راجع إلى القوة الضاربة العسكرية للحملة العثمانية وإلى الحنكة العسكرية للقائد علي سعيد باشا الذي قاد جنوده بصورة غاية في التنظيم علاوة على ذلك أنّ قوات سلطان لحج ، كانت هزيلة مقابل القوات العثمانية التي امتلكت العتاد الضخم والقوي وأهمها المدافع الثقيلة والمتوسطة التي كانت تدك مدينة الحوطة دكًا عنيفاً ومزقت الكثير من جنود السلطنة اللحجية ومن الأسباب الرئيسة التي ساعدت القوات العثمانية الاستيلاء على لحج في خلال ساعات قليلة هو نقاعس القوات الإنجليزية في مساندتها بصورة فاعلة وانسحابها من لحج كل تلك العوامل أثرت في سقوط لحج بقبضة القائد التركي علي سعيد باشا والذي يعد من أعظم القادة العسكريين الأتراك الذين شاهدتهم ساحة الوغى في اليمن والذي كان معروفًا عنه بالشجاعة والإقدام ، والحكمة ، والنزاهة . سنتحدث عن تلك الشخصية القيادية الرائعة في حينه لكونها كانت جزءاً لا يتجزأ من نسيج أحداث تاريخ اليمن بصورة عامة ولحج بصورة خاصة . وعلى أية حال ، بعد أنّ استولى العثمانيون على ( الحوطة ) “ ... خرج السلطان (علي ) قبل الفجر من المدينة ، فمر بكمين من الجنود الإنجليز فظنوه من الأعداء وأطلقوا عليه وعلى من معه الرصاص ، فأصابوه بسبع رصاصات وقتل فرسه ، وأعيد مجروحًا إلى القصر ، محمولا على الأكتاف ... ووصل السلطان وهو على تلك الحال إلى قرب (( الرباط )) ، حيث حملته سيارة إلى عدن ، وهنا دخل الأتراك لحج ... وقد نودي بالسلطان عبد الكريم خلفاً للسلطان علي الذي توفى متأثرًا بجراحه بعد وصوله إلى عدن “ .[c1]تجميد العمليات الحربية[/c] قلنا : سابقاً أنّ القوات العثمانية بعد استيلائها على لحج ، زحفت مباشرة إلى مدينة الشيخ عثمان والتي تعد ضاحية من ضواحي مستوطنة عدن ولكن تلك القوات العثمانية لم تمكث أكثر من خمسة أيام هناك ، فقد ردت على أعقابها إلى داخل لحج بسبب التعزيزات العسكرية الضخمة السريعة التي وصلت للقوات الإنجليزية في عدن من مصر ، وجيبوتي ــــ كما مر بنا ــــ . وعلى أية حال ، فقد تجمدت المعارك الحربية بين الطرفين أمام عدن ولم يحدث سوى اشتباكات طفيفة ومتفرقة بين الحين والآخر “ ... ورغم قلة أهمية هذه العمليات في حد ذاتها إلاّ أنها اضطرت الجانبين أنّ يبقى كل منهما قوات لا بأس بها أمام القوة الأخرى ، مما عطل العثمانيين مثلا عن الاستفادة بهذه القوات في ميدان آخر كعسير . وقد استمرت هذه الحالة حتى إعلان الهدنة العامة سنة 1918 لا أمام الشيخ عثمان فحسب بل في كل الجنوب العربي “. [c1]نتائج الحملة[/c] والحقيقة أنّ حملة علي سعيد باشا على لحج فشلت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية العسكرية التي رسمتها القيادة العامة العثمانية في الآستانة وهى نزع الإنجليز من عدن من ناحية وقطع مواصلاتها البحرية إلى مستعمراتها في الهند من ناحية ثانية ، و فشلت في تحقيق الاستيلاء على قناة السويس في مصر من ناحية ثالثة وأخيرة . وكشفت الحملة بأنّ السلطنة العثمانية بقيادة ( جمعية الإتحاد والترقي ) ، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في اليمن بصورة خاصة والجزيرة العربية بصورة عامة . ومن الأسباب الرئيسة أيضًا التي أفشلت حملة علي سعيد باشا على عدن وهى أنه بالرغم أنّ الحملة العثمانية ، كانت لديها العدد والعدة التي تفوق القوات الإنجليزية المرابطة سواء في لحج أو عدن ، غير أنه كان هناك شعورًا سائدًا بين قادة وجنود الحملة وعلى رأسهم قائدها على سعيد باشا بأنهم دخلوا المعركة أو الحرب مع الإنجليز ولديهم أحساس داخلي مهبطً بأنهم مهزومون أو أنهم ولا يستطيعون زحزحة الأخيرين عن القلعة الحصينة عدن . ودليل هذا أنّ قائد الحملة بالرغم من القوة العسكرية التي لديه فإنه لم يتخط الخط الأحمر ويهاجم القوات الإنجليزية في عقر دارها عدن . ومن نتائج الحملة بأنّ حكومة عدن ضحت بالمحميات كسلطنة لحج ، وإمارة الضالع ، ومشيخة العقارب ، ومشيخة الحواشب ، وسلطنة الفضلي وغيرها من المحميات التي ارتبطت بمعاهدات ( حماية ) معها ، فقد كان الغرض الحقيقي من تلك المعاهدات ، لتكون الدرع الواقي لمدينة عدن فحسب . ومن نتائج الحملة العثمانية الأخرى بعد تجمد المعارك بين الجانبين هى أنّ الهدوء والأمن والاستقرار ساد لحج ، وازدهرت الحياة التجارية وخاصة الزراعة منها بعد أنّ سمح كل من الطرفين العثماني والإنجليزي بالتبادل التجاري فيما بينهما . ما دفع الكثير من الصومال إلى الهجرة إلى لحج والمكوث والاستقرار والالتحاق في خدمة الجيش التركي فيها . ويعقب أمين الريحاني ساخرًا على الهدنة التي حدثت بين العثمانيين في لحج والإنجليز في عدن ، قائلاً : “ تم الصلح بين الحلفاء ودول الوسط أو بالأحرى بين ممثليهم في عدن وفي لحج قبل أنّ تنتهي الحرب بسنتين “ .[c1]القائد علي سعيد باشا[/c]الحقيقة لقد أثبت علي سعيد باشا قائد الحملة التركية على لحج سنة 1915م الذي مكث قرابة أكثر من ثلاثة سنوات فيها ، بأنه قائد عسكري من الطراز الأول ، وإداري ممتاز ، وأنه ضابط نزيه ، حيث كف أيدي جنوده بصرامة من نهب وسلب الأهالي ، فقد وصلت سمعته الطيبة إلى مسامع أهل عدن الذين أحبوه بصورة عميقة . ويصف الدكتور سيد مصطفى سالم الاستقبال الكبير الذي استقبل به علي سعيد باشا من قبل أهالي عدن ، بأنه استقبال الأبطال المنصورين الظافرين ، بعد أنّ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها إلى حكومة عدن : “ فاستقبل فيها استقبالا طيبًا ، ودخل المدينة لا كالمهزوم بل كالفاتح المنصور “ . وينقل سيد مصطفى سالم عن المعاون السياسي الإنجليزي (Jacob ) في كتابه الممتع (Kings of Arabia ) ، قائلاً : “ وقد دخل علي سعيد باشا عدن دخول المنتصر ، فقد قابلته الجماهير هاتفة له ، وذلك لأنه حارب بيدين نظيفتين . وكان جنديًا ممتازًا ، وكذلك إداريًا من الدرجة الأولى ، وقد أكسبته شخصيته عند زحفه إلى الجنوب كثيرًا من الأصدقاء “ . وكيفما كان الأمر ، فقد “ ذهبت الجنود العثمانية في لحج إلى عدن ، وتجمعت الجنود العثمانية في اليمن ، والتي كانت على ساحل البحر الأحمر في (( اللحية )) ، و ((الحديدة )) . وهنا حملهم الإنجليز إلى عدن كأسرى فمكثوا بها أيامًا ثم نقلوا إلى جزيرة مالطة ثم إلى الأناضول ، وكان تسليم الأتراك هذا بناء على أوامر الآستانة “ . [c1]الهوامش : [/c]أحمد فضل العبدلي . تحقيق : أبوحسان خالد أبازيد الأذرعي ؛ هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن ، الطبعة الأولى 1425هـ ـــــ 2004م ، مكتبة الجيل الجديد . اليمن ــــــ صنعاء ــــ . حسن صالح شهاب ؛ العبادل ، مركز الشرعبي للطباعة والنشر والتوزيع ـــ صنعاء ــــ . د . سيد مصطفى سالم ؛ تكوين اليمن الحديث ، الطبعة الثالثة 1984م . مكتبة مدبولي ، 6 ميدان طلعت حرب القاهرة ــــ مصر ــــ .شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها ، الطبعة الأولى 2004م ، إصدارات جامعة عدن ، الجمهورية اليمنية ــــ عدن ــــ .