قصة قصيرة
عندما غطست الشمس في جوف البحر اللامتناهي وغابت .. وتأكدت حينها من بداية ليل أكيد سأعيشه وحيداً في هذه القرية الهادئة المجاورة للبحر.. وعند ذاك تأهبت للرحيل ومغادرة المكان.. الشاطئ كان خالٍ من الناس، كان مثلي يعيش وحدته وصمته.. نسمات باردة كانت تغطي الجو، فجمعت حاجياتي في كيس جلدي قديم أبتل من رذاذ الموج المتطاير الذي كان يضرب الصخرة حيث كنت أقف.أكتفيت ذلك المساء بالسمكتين اللتين أصطدتهما قبل الغروب، وقررت الرواح، ولما لم يكن من عادتي التأخر فقد كنت أتعجل الوصول إلى البيت مبكراً حتى أتمكن من إعداد طعام عشائي والنوم المبكر، حيث كنت أشعر خلال كل تلك الأيام القليلة الماضية بتوعك وألام في المفاصل، كنت أشعر بارهاق شديد لم أجد له سبباً غير اعتقادي بأن برودة الجو ربما تكون سبباً لذلك.. حتى أنني هذه الأيام لم أعد أستطيع السهر ومشاهدة التلفاز واحتساء قهوتي اللذيذة.. لذلك سأكتفي هذه الليلة بتناول واحدة من السمكتين طعام للعشاء وسأعطي الأخرى لجارتي الجديدة التي انتقلت مؤخراً، فهي تبدو لطيفة، ودائماً تسأل عني وعن صحتي ولم تتجاهل وجودي أو تتأفف من سني كسابقتها.. لكنني أنا ايضاً كنت شاباً في يوم من الأيام ومع ذلك فأنا اليوم مقتنع أن الشيخوخة ليست كريهة إلى الحد الذي يعتقده الشباب برغم من أنني فقدت قوتي ومرحي وحيويتي.. في ذلك الوقت كان الظلام قد غطى على كل شيء ولم استطع السير إلا وأنا أتحسس موضع قدمي.. كنت معتاداً السير على ذلك الطريق، لذلك لم أخذ عصاتي معي، كنت أستطيع تمييز طريقي بكل وضوح ولن انحرف عنه أبداً.. بيد ان برودة الجو في تلك الليلة التي نسيت أخذ معطفي فيها جعلتني أهرول مسرعاً دون توقف.. لكنني توقفت مرة واحدة وذلك كي أشعل سيجارة كنت أشتهيها، وتصاعد الدخان من أنفي، وتذوقت معه الملح في فمي الجاف، وشعرت بلذة خفية وأنا أتامل الدخان الحائر الهارب في فضاء واسع مظلم وبلا نهاية، وتذكرت حينها كلام الطبيب الذي كان يحذرني من التدخين حتى تتحسن صحتي حسب زعمه، ولا يدري أن امتناعي عنه ربما كان سيجعلني أشعر بالتدهور أكثر لحالتي وصحتي.والحقيقة في ذلك الوقت الذي توقف فيه لاشعل سيجارتي، سمعت أصواتاً تناهت إلى مسمعي .. كانت أصواتاً غريبة متقطعة.. ربما كانت أصواتاً تستغيث، وكانت تنبعث من مكان ما في الشاطئ، وكانت تقترب مني شيئاً فشيئاً أو ربما كنت أنا من يقترب من مصدرها ومع ذلك لم أستطع أن أتبين أو أعرف فحواها.. لكن فجأة .. فجأة تجمدت في مكاني حينما أدركت بانني قد وصلت إلى المكان الذي كانت تتواجد به تلك الأصوات المتشنجة والمتحشرجة.كانت هنالك أشباح تتحرك.. اجساداً تلتصق مع بعض وتتباعد كانت كأنها ترقص رقصة عنيفة ايمائية، رقصة تجريدية تختزل فيها معانٍ شتى لرغبات مبهمة.. كانت تبدو كأنها تتعارك وتقتتل فيما بينها.. ومن خلال صرخة ألم حادة دوت في المكان في تلك اللحظات المتسارعة بانت الحقيقة تجلت بوضوح.. كان هناك رجل ضخم يحاول تطويق امرأة بين ذراعيه القوية، وكانت هي تحاول التخلص منه، تقاومه، وتحاول الفكاك من حصاره.. كانت ملابسها ممزقة وجسدها شبه عاري، لكنها كانت تقاوم وتأبى بشدة اغتصابها واستباحة جسدها المتهالك الخائر.وحينما عجز ذلك الرجل من أن ينالها ووجد صعوبة في ذلك أخرج سكيناً حاداً وغرسه في صدرها العاري، فكانت صرخة الألم والموت.. في ذلك الوقت تجمدت انا في مكاني لم استطع الحركة او التدخل لمنع تلك المعركة والجريمة الدامية.. سقط جسد المرأة على الأرض ملطخاً بالدماء الحارة المتدفقة بغزارة.. تهاوى الجسد وتكوم جثة هامدة.. عند ذاك حاول الرجل الهروب والفرار، لكنه حينما رأني أقف في ذلك المكان، توقف.. كنت خائفاً، كنت مضطرباً، وهممت بالصراخ لكنني لم استطع اطلاق صوتي الذي احتبس في حنجرتي المتيبسة.. كنت مذعوراً من ذلك المشهد البشع، لم أر في حياتي جريمة ترتكب، ولم يكن خوفي ورعبي من وقوع تلك الجريمة فحسب ولكن أيضاً من استمرار اعتقادي من أن الإنسان مازال وربما سيبقى يحتفظ بنزعته العدوانية كأسلوب يائس في معالجته لكثير من مشاكله وقضاياه المعيشية، الأمر الذي يجعل السعي نحو عالم جديد للحوار والاقناع الواعي معدوم وغائب عن أهدافه في خلق الأمن والسلام والاستقرار على هذه الأرض.. بيد أنه في ذلك الوقت الذي رأني ذلك الرجل القاتل أمامه أشار لي بالتوقف والصمت.. أمرني أن اتجمد دونما حراك.كان يبدو الغضب بشكل واضح على ذلك الرجل، ولا شك انه كان مرتبكاً وحائراً ويبحث نجاته وهروبه اليائس.. أقترب مني، كان يتفحصني ويدقق النظر في وجهي المشقق وأدرك حينها كبر سني فأطمئن من عجزي وعدم مقدرتي مقاومته أو معرفتي صورته وملامحه المخيفة.. وحذرني بعنف ان أنا أخبرت أحداً أو اطلعته بما رأيت، وهددني أيضاً بذات المصير ان انا بحت عن أمر هذه الليلة.. كان العرق يتصبب من جبينه كان يرتجف ويبدو عليه العنف والغضب الشديدين وهو يتكلم معي كأنما يحمل الحقد والكراهية لكل العالم، وقبض على عنقي بيداً واحدة ولوح بالأخرى أمام وجهي وقال:ـ انك ايها الشيخ البائس لم ترى شيئاً حتى يمكنك الرحيل، ولا ينبغي ذلك ان تعود الى هذا الشاطئ المبؤ مرة أخرى. فهمت!! والأن أذهب من أمامي ولا تلتفت خلفك.. هيا هيا اسرع أيها المتهالك العجوز المقرف.في ذلك الوقت اسرعت الخطى بتعثر وأيقنت من أنني نجوت من بين أنياب الشر الكامن في نفس ذلك الرجل الضال الذي فقد الهدوء والسكينة وراحة البال الى الابد.. وحينها حمدت الله في قلبي الخافق باضطراب.. كانت خطواتي مترددة لكنها كانت تتسارع.. كنت اتجه نحو الأتي المبهم، وكنت أشعر كأنني عصفوراً مبللاً.. بذلت مجهوداً مضاعفاً حتى أبلغ الطرف الآمن من ذلك المكان وعندما شعرت بأنني قد ابتعدت عنه أستعدت وقع انفاسي الطبيعية وايماني بالعناية الإلهية في إنقاذي، في تلك الأثناء ألتفت إلى الخلف ودون أن أتوقف .. كانت كلمات ذلك الرجل ماتزال ترن في أذني كجرس ينذر بالكوارث الفاجعة والمفاجئة، وحينها أستعادت ذاكرتي المذبذبة صورة ممزقة لإمرأة كان جسدها الملطخ بالدماء يترنح فاقد لمعنى الحياة والحركة.. وأدركت في ذلك الوقت ماذا تعنيه الشيخوخة، شيخوختي التي لم تمكني من مقاومة ذلك الرجل العنيف او التصدي لفعلته، بل ورضيت بالاستسلام والاذلال الذي أحسسته في لهجته .. ومع ذلك فأنا لم ولن أرضخ لتهديده لن أهرب كجبان رعديد، وساحتمل أي مصير سينتظرني لذلك قررت أن اخبر قائد الشرطة الذي كان يسكن بالجوار.. وربما يكون في بلاغي عنه محاولتي الأكيدة في الانتصار على ضعفي وعجزي الذي يرافق كبر سني وها أنا سامتلك قوتي من جديد حينما أقوم بالإبلاغ عنه.في ذلك الوقت كان الضوء الخافت ينساب من الباب الموارب للدكانة الصغيرة في المنعطف الذي وصلت إليه وتأكدت حينها أنني في مأمن، وبعيداً عن أي أذى كنت أخشاه .. وتوقفت هناك برهة وشعرت بصاحب الدكانة يرمقني بنظراته الفضولية كانت نظرة استفسار وتعجب من وقوفي هنالك وعدم تحياتي له كعادتي حينما كنت أمر بجوار دكانته عند عودتي من الصيد، وحتى انه لم يسألني عن حظي من الصيد، بل تركني وعاد الى الداخل مستغرباً .. والحقيقة حينما وصلت أنا إلى البيت تركت السمكتين في المطبخ وبدلاً من الاتصال بقائد الشرطة استلقيت على كرسي مهتز كان قريباً مني كنت حينها أفكر في كل ما حدث هذه الليلة وحينها شعرت بالخوف كنت اخشى ان يتبعني ذلك الرجل إلى المنزل.. لم أدر ما حدث بعد ذلك لكنني على ما يبدو غفوت على ذلك الكرسي، نمت نوماً عميقاً .. والحقيقة فانني أندهشت عندما استيقظت، كان نور الصباح قد تسلل عبر النافذة المفتوحة ويبدو انني نمت لساعات طويلة على الكرسي ولم أتصل بقائد الشرطة، لم ابلغ عن الحادثة .. في ذلك الوقت كنت محتاج كوب من القهوة حتى أستطيع ان أفيق حينها لم أجد السمكتين كانتا قد أختفتا من المطبخ، لكنني لم اعر ذلك الأمر أي أهمية، لانني أعتقدت في ذلك الوقت ان القطط ربما تكون قد نطت من النافذة وأستولت على أسماكي.. بيد انني أدركت ان في الامر شيئاً غير اعتيادي وذلك حينما التقيت بقائد الشرطة في منزلي وحينما كنت اخبره وأروي له تلك القصة أو الحادثة التي وقعت على الشاطئ في الليلة الماضية، كان يخيل لي أن قائد الشرطة لم يكن يصدق شيئاً من ذلك، وكان ربما يتصنع الاهتمام وحتى الاستغراب كان يرتسم على وجهه وكان فقط يحاول تهدئتي وطمأنتي، ووعدني بانه سيتحرى عن تلك الحادثة، ورجاني في الوقت نفسه ان لا اخبر احداً عن ذلك وكذلك عدم مغادرتي للمنزل وبعد أن تركني قائد الشرطة، عدت ابحث عن وسيلة تنسيني أحداث تلك الليلة، لكن في مثل سني مؤكد انها لا توجد أية وسيلة عدى الذكريات الغائمة والتي بقت أجزاء منها مازالت عالقة في الذهن، كانت لا شك تعيدني إلى رغبة الحياة كلما أوغلت في احساس الاهمال، أو النسيان والتناسي المفروض علي من قبل الآخرين.. حتى الذكريات ربما كانت تتشابه أحداثها برتابة، وكانت تضيع في دوامات الوقت أو الزمن المتكرر في دورته المملة على عجل ودونما الحفاظ على إيقاعه المحدد.. والحقيقة في المساء التالي كرر قائد الشرطة زيارته لي في المنزل، كان متردداً، وقد أدركت في ذلك الوقت صدق احساسي وتأكد ارتيابي، ومن خلال الحيرة التي كانت ترتسم على ملامحه تأكد ظني .. وقد كنت محقاً في ذلك.والحقيقة وبشكل قاطع لا يقبل الشك أكد ذلك الشرطي عدم صحة قصتي وروايتي عن تلك الحادثة، وانه خلال الايام القليلة الماضية، لم يحدث شيئاً على الاطلاق كالذي أخبرته به.. ولما كنت أعرف قائد الشرطة، واعرف اهتمامه وصدقه في أداء واجبه وحرصه على الحفاظ للأمن والاستقرار في القرية وما حولها، لم أشك للحظة واحدة في اهماله أو تقصيره في تحريه حول تلك القضية.. وأكد لي أيضاً في ذلك المساء أن لا اغادر منزلي خلال تلك الأيام ولأكثر من أسبوع مضى.. وبالرغم من ثقتي بقائد الشرطة إلا أنني لم اقتنع من عدم صحة وقوع تلك الحادثة، لذلك ذهبت إلى الدكانة في طرف الشارع بعد ان غادرني ذلك الشرطي.. وهناك في الدكانة، كانت الدهشة التي أصابتني كبيرة، كنت أشعر بالحيرة، وربما الغرابة حينما أخبرني صاحب الدكانة انه لم يرني في تلك الليلة، وربما لأكثر من اسبوع على أقل تقدير.. في ذلك الوقت لا شك من انني كنت مذهولاً، ولم استطع معرفة الحقيقة من الوهم، أو حتى الفصل بينهما.. وعرفت حينها بل تأكدت من انني لم اصطاد السمكتين_ وعرفت لماذا لم أجدهما في المطبخ.. في ذلك الوقت فقط عرفت معنى الشيخوخة، وأدركت تأثير سنوات العمر الطويل الذي يصب الذهن بالعجز والتجرد.. وعرفت عند ذاك أيضاً لماذا يفزع الشباب من الشيخوخة، لماذا يكرهونها، ومع ذلك كنت في ذلك الوقت متمسك بالحياة وراغب أكثر في مزيد من العيش رغم كل شيء.* جمال الشريف