في روايتها «سلطانات الرمل»
شوقي بزيع ..منذ عملها الأول «معشوقة الشمس» وحتى عملها الأخير «سلطانات الرمل» تبدو الكتابة عند لينا هويان الحسن نوعاً من الاحتفاء التعبيري بعالم الصحراء الذي نادراً ما تم التطرق إليه من قبل الروائيين العرب باستثناء بعض كتابات عبد الرحمن منيف وابراهيم الكوني. وهو أمر ليس بمستغرب بأي حال لان أحداً لا يمكنه أن يسبر أغوار الصحراء ومجتمعاتها البدوية المغلقة على تقاليدها المزمنة وقوانينها الخاصة ما لم يكن قد تربى في كنف ذلك العالم بالولادة أو النشأة، أو اختبر الإقامة بين ظهرانيه واطلع على أسراره وخفاياه، في أسوأ الأحوال. واعتقد أن الكاتبة لم تكن لتنجح في تقصي أحوال الصحراء ومجتمع البداوة القبلي لو لم تترعرع هي نفسها في البادية السورية الواقعة بين حماة وتدمر وتتنسم الكثير من أطياف تلك الكثبان المغلقة على غموضها الملغز وقسوتها المقيمة. [c1]أنوثة الصحراء[/c]تمتلك لينا هويان الحسن كل ما يجب أن يمتلكه الروائي من ذاكرة غنية ومخيلة متوقدة وثروة لغوية غنية بالمرادفات والظلال الموحية وقدرة على رسم الشخصيات وتوظيفها بمهارة داخل فضاء السرد. لكن ما كان يثقل بعض أعمالها السابقة هو ذلك الحدب المفرط على الشعر والمبالغة في استخدامه إضافة إلى رفع الوتيرة العصبية للجمل إلى حدودها القصوى، بحيث لا تتمكن اللغة من الراحة أو التنفس إلا في أحيان قليلة.وإذا كان مصدر هذه الظاهرة هو امتلاك الكاتبة لموهبة الشعر في الأساس فإن هذه الموهبة تحتاج في الكتابة الروائية إلى من يروّضها ويكبح جماحها، بحيث لا تفيض عن الحاجة ولا تعوق تلقائية السرد ومواءمته لواقع حال الشخصيات. ومع ذلك فإن اشتغال الحسن في الأصل على عالم يختلط فيه الواقعي بالخرافي أو الأسطوري يتيح للغة قدراً لا بأس به من التحليق الشاعري والتوظيفات الوجدانية والرومانسية، بما يجعل من أعمال الكاتبة ترجيعاً غنائياً مشبعاً بالحنين إلى تلك الأزمنة التي كادت تضمحل وينفرط عقدها. في روايتها الأخيرة «سلطانات الرمل»،التي صدرت عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، تتخفف لينا هويان الحسن إلى حد بعيد من حمولة الشعر الزائدة والتدخل المباشر في السياق السردي، كما كان يحدث في السابق، ليعود العمل إلى نصابه الأساسي حيث الأبطال يولدون ويتجهون نحو مصائرهم المحتومة بلا تدخل متعسف من الراوي الذي يتوارى تماماً عن واجهة الأحداث. وكما يبدو من العنوان فإن الكاتبة تحتفي هذه المرة بالصحراء من جانبها الأنثوي عبر نماذج نسائية لعبت دوراً بارزاً على مسرح الأحداث في البادية السورية المترامية خلال ما يزيد على قرن كامل من الزمن، أي في الفترة الواقعة بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر وثمانينيات القرن العشرين. على أن ما يستوقف قارئ الرواية الجديدة هو اختلاط الواقعي مع المتخيل والتاريخي مع الروائي، بحيث يصعب على هذا القارئ أن يتبين خطوط تماس واضحة بين هذه العناصر المتغايرة، خاصة أن الكاتبة تنجح في إلغاء الحواجز بين ما هو من حصة التاريخ وما هو من حصة الرواية وتترك للأسلوب الواقعي والسلس أن يفرض منطقه المقنع على الأحداث كما على القراء. [c1]الرواية والتاريخ[/c]وإذا كان الالتباس القائم بين الرواية والتاريخ ليس أمراً جديداً على السرد العربي منذ جرجي زيدان ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني ووصولاً إلى أمين معلوف وربيع جابر وغيرهم، فإن قارئ «سلطانات الرمل» كان يمكن أن يعفي نفسه من مهمة التحقق من مساحة الاختلاط المتداخلة والاكتفاء بمتعة النص المكتوب لولا أن لينا الحسن تصدّر العديد من فصول عملها بنصوص منسوبة إلى بعض الرحالة الغربيين ليس حول الصحراء وعاداتها وحروبها وقوانينها، فحسب بل حول بعض الشخصيات الواردة في الرواية بما يحيلنا إلى الوجود الواقعي والتاريخي لهذه الشخصيات. فالكثير من فصول الرواية تتخذ من أقوال الرحالة والمستشرقين مفتاحاً للسرد أوطريقاً للولوج إليه وهو ما نتلمسه في الاستشهاد المأخوذة من كتاب «البدو» للرحالة أو بنهايم الذي زار المنطقة وأقام فيها أواخر القرن التاسع عشر، أو من كتاب «قبائل بدو الفرات» لليدي آن بلنت التي ترسم بورتريهات تفصيلية لبعض أبطال الرواية مثل احمد باشا الأبو ريشة زعيم دولة الموالي التي طاول نفوذها مناطق دير الرحبة وسلمية وعانة والحديثة في سوريا، وكذلك في وصف آن بلنت لطيور الصحراء الجارحة كالباز والصقر والنسر وغيرها. قد يكون عنوان «سلطانات الرمل» الذي اختارته لينا هويان الحسن لروايتها خير معبّر عن مكانة المرأة ودورها في المجتمع العربي البدوي الذي ينظر إلى المرأة منذ الجاهلية بوصفها ريحانة الصحراء وقطرة الماء اليتيمة وسط عالم الجفاف والقسوة والفراغ اللامتناهي. لكن اللافت في هذا السياق أن الكاتبة تخرج بالمرأة من صورتها النمطية المتصلة بالشهوة والحب أو بالطمأنينة والدفء لتضيف إليها صورة المرأة الشرسة المستعدة لإشعال الحروب وإراقة الدم من اجل الوصول إلى غايتها والظفر بالرجل الذي تحبه. صحيح أن مثل هذه الصورة لم تكن غائبة تماماً عن الكتابة العربية، وبخاصة في جانبها الشعري، حيث الحب عند العذريين هو الوجه الآخر للجنون والمرض والموت، ولكن الحسن تتم تظهيرها في الرواية بشكل جلي وتكرر تمثلاتها عبر أكثر من «سلطانة» ونموذج أنثوي. يكفي إن نعود في هذا الإطار إلى شخصية الفتاة الجميلة (حمرا) التي أطلق عليها الناس فيما بعد تسمية حمرا الموت لأنها استدرجت فارس تمر وزعيمها أحمد بيك الأبو ريشة لغزو قبيلتها طي وقتل الكثير من أبنائها لكي تحظى بالرجل الذي تحبه، ثم لم تتورع عن قتل الصبية الجميلة والمراهقة التي بدأت تنازعها على قلب زوجها. وكما تسببت حمرا الموت في إشعال الحرب بين تمر وطي فعلت الفتاة الأخرى قطنة الشيء ذاته حين أغار طراد، شيخ بني صخر الذي تحبه، على قبيلة عنزة التي ينتمي إليها الرجل الذي تزوجته بالإكراه. أما عنقا ابنة قطنة فقد أسالت بدورها الكثير من الدماء قبل أن تهرب إلى دمشق وبعدها إلى بيروت حيث يتم تهريبها عبر صياد لبناني عجوز اسمه جرجس، ثم تغير اسمها ليصبح ليز وتعود لتلتقي بالشاب دندل، حفيد حمرا الموت وتعود معه إلى البادية متخذة اسم شمس، ليصبح اسمها المركب عنقا ـ ليز ـ شمس. [c1]أدوار متفاوتة[/c]سيكون من الصعب على أي قارئ لرواية «سلطانات الرمل» أن يحيط بوقائعها وأحداثها من دون أن يستعيد الرواية كاملة، وهو أمر متعذر بالطبع كما أنه ليس من شأن القراءة النقدية بأي حال. لكن الشخصيات النسائية الأخرى مثل سكرى ومنوى ابنتي عنقا ـ ليز ـ شمس، أو مثل سكرى الثانية التي تزوجت من رجل مدمن على الخمرة. ثم هربت مع طراد، الشاعر والفنان والمثقف، متنكرة باسم آخر إلى البادية، تلعب أدواراً متفاوتة الأهمية على مسرح الأحداث وتغطي المساحات الشاغرة من تلك الجدارية الروائية المتشابكة الوجوه والظلال.لا يعني ذلك بأي حال طغيان صورة المرأة المتسلطة أو المتعطشة للدماء على ما عداها من الصور، لأن الكاتبة تلحّ على تقديم المرأة في تعددها وتبدّل ملامحها وتمزقها الداخلي بين الخيارات. فهناك المرأة الجلادة كما هناك المرأة الضحية، وهناك العاشقة بجنون والمعشوقة بجنون. وهناك الغيورة والشهوانية والمترفعة والمستخذية والخائنة والوفية. لكن قيمة الرواية لا تتمثل في تظهير الصور المتباينة لسلطانات الرمل فحسب بل في الولوج غير المسبوق تقريباً إلى عالم الصحراء المدهش، حيث تقوم بين الكائنات المختلفة ألفة ووشائج قربى يبدو معها البشر والحيوانات والطيور، وحتى الجمادات، شبه متساوين في سيمفونية الرمال التي لا نهاية لمفاجآتها. وحتى الأنوثة نفسها تبدو بحسب لينا هويان الحسن مزيجاً شديد الغرابة من الواقعي والسحري، من الجمال الفاتن والشبق الملغز المفتوح على الرعب والموت. وهو ما يتمثل في وصف الكاتبة لبطلتها حمرا الموت حيث تقول: «البعض قال إنها كانت ساحرة حرقت حافر حمار وحش وسحقته واكتحلت به.. بنات عمها قلن إنها صنعت خلطة من مخ أرنبة ومرارتها تحول دون إنبات الشعر المنتوف. وحمت بشرتها البيضاء القرنفلية من النمش الذي تسببه شمس الصحراء بمرهم، قيل إنها كانت تصنعه من مرارة ذئب مخلوطة بالورس، ومن دم أفعى وزيت نبتة صحراوية صنعت ما يجعل شعرها طويلاً كثيفاً لا يمكن لأنثى أخرى أن تنافسها». ثمة أوصاف أخرى بالغة الدقة والشاعرية للخيول العربية الأصيلة التي نافست بدورها النساء في أثارة الحروب والنزاعات، أو للقصور التي حملت الجيل الثالث من بدو الرواية، ممثلاً بطراد ولورنس وراكان، للذهاب إلى منغوليا من أجل اصطيادها. تبدو «سلطانات الرمل» من بعض وجوهها أشبه بقصيدة حب طويلة لعالم الصحراء الذي تكاد تطمسه تحولات العالم المتسارعة وتقنياته الحديثة بحيث تكاد الخيول التي تمتدحها الكاتبة تستبدل بكاملها بسيارات المرسيدس أو تتحول إلى حيوانات للزينة وتشجيع السياحة، كما في قصيدة أمل دنقل. ثمة نبرة مأساوية تشيع بين أرجاء العمل وتجعله اقرب إلى مرثاة طويلة للجمالات المخبوءة بين كثبان الرمال وللقيم الموازية الآيلة إلى انقراض. واعتقد إن لينا هويان الحسن القادمة بدورها من أحشاء الصحراء هي واحدة من الكتاب القلائل الذين جعلوا من لغة السرد محلاً لإحياء المكان المعرّض للتشظي والانهدام. وجعلوا من الرواية ترجيعاً لعوالم الطفولة الجمعية التي تشكل الصحراء مهدها وفضاءها وينبوعها الأولي. [c1]* شاعر عربي [/c]