مع الأحداث
يحكى أن طفلاً ولد ولادة طبيعية تماماً. كان بصحة جيدة ويتنفس بطريقة مرضية، إلا أن وزنه عند الميلاد كان أقل من الوزن المعتاد، الكل كان يعرف أنه يجب بالطبع تغذيته، وربما بأكثر مما يغذى به غيره. ولكن الكل كان يعرف أيضاً أن هذا يجب أن يتم بحذر ومن دون عجلة، إلا أبويه الأحمقين. فقد عرضاه على طبيب أكثر حماقة، أخذ يتحدث عن خطورة الحال، وأنه لابد من إتباع كافة السبل لكي يصل الطفل إلى الوزن “المألوف”.وهكذا صدقه الأبوان وراحا يشحنان جسم الطفل بعدد لا نهائي من الأدوية والحقن، ويخضعونه لصور لا نهاية لها من العلاج، بعضها يتعارض مع البعض الآخر. وانتهى الأمر إلى أن زاد وزن الطفل فعلاً مع مرور الأيام حتى كاد يصبح مساوياً للوزن المألوف في مثل سنه. ولكن اعتلت صحته وتشوه جسمه، ولم يعد على الإطلاق طفلاً طبيعياً. وحتى كتابة هذه السطور، لا زال الطفل، فيما أعلم، يزوره الطبيب بانتظام لتقديم علاج جديد يحاول به تصحيح أثر علاج قديم هذا الطفل هو ما يسمى بالبلاد المتخلفة.ففي يوم ما كانت بلادنا بخير. كانت مدننا صغيرة، ولكنها كانت أكثر نظافة وهدوءاً كما هي عليه اليوم. لم نكن نعرف الكهرباء، ولكن هذا لم يمنع متعلمينا من إنتاج ثقافة أفضل مما تنتجه اليوم، بل تميزت أيامهم بنهضة شاملة في حقول المعرفة كالفلسفة والآداب والفنون والعلوم والرياضيات. كما كانت لدينا وسائل أبسط من الثلاجة الكهربائية لتبريد الغذاء، ولم نكن قد اعتدنا - بعد - تخزين الغذاء أياماً. لم نكن نعرف السيارات، ولكن أعمالنا وأصدقاءنا ومعارفنا كانوا على مقربة منا، تكفي للوصول إليهم مسيرة بضع دقائق. لم تكن لدينا مصاعد كهربائية، ولكننا أيضاً لم نكن نتصورها، إلا أن مبانينا لم تكن تتكون من أكثر من طابقين أو ثلاثة. كان معدل الوفيات مرتفعاً حقاً، ولكن كان الموت في نظرنا أمراً طبيعياً.كنا فقراء حقاً، ولكننا كنا أقل جشعاً، وعلى كل حال فإن أحداً لم يقل قط إن الطفل الذي ولد قليل الوزن لا يجب تغذيته، لكن كان من الواجب أن يتم ذلك بحذر ودون عجلة. ولكن الذي حدث أننا باسم القضاء على الفقر شوهنا كل مظاهر حياتنا من دون أن نقضي عليه، وباسم الفقراء زدنا الأغنياء تخمة، وباسم ملء البطون الجياع، قمنا باستيراد السيارات الفارهة أشكالاً وألواناً من الخارج.لابد إذن أننا ارتكبنا خطأ جسيماً من البداية، والخطأ - في اعتقادي - كان في تشخيص العرض ووصف المشكلة، وتحديد حاجتنا واحتياجاتنا بالضبط لحل المشكلة التي تواجهنا. وما أريد تناوله في هذه العجالة هو أن تحديد مشكلة هذه البلاد أنها منخفضة الدخل من قبيل الخطأ في تشخيص المرض. وأنه طالما استمررنا في الاعتقاد أن مشكلتنا هي أن نقضي على التخلف وانخفاض متوسط دخل الفرد، أو أن نصبح دولة “عصرية” أو أن نلحق بعصر التكنولوجيا، فلا أمل في الشفاء، وإنها مشكلة هذه البلاد الحقيقية هي الازدواجية في الاقتصاد والثقافة، ولا أمل في أي تقدم حقيقي ما لم تشخص المشكلة على هذا النحو تشخيصاً تاماً.من المدهش أن نلاحظ أن الإحصائي الذي يشرع في حساب متوسط الدخل لدولة تعاني من درجة عالية من الازدواجية، كثيراً ما يعبر عن ضيقه من صعوبة تقدير عدد السكان وحجم الدخل في هذه البلاد. أما السكان والدخل في المدن وفي القطاع الصناعي الحديث فأمرهما هين. فالإحصاءات متوفرة نسبياً، والناس هناك يدركون أهمية الإحصاء، وقادرون على ملء الاستمارات. أما في القطاع الآخر، فليس من السهل إخضاع الناس للتعداد، وهم يأكلون “للأسف”، ما ينتجون ولا يبيعونه. وهم شديدو الشك في رجال التعداد، إذ إنهم لا يدركون - بسبب قلة المتعلمين فيهم - منافع الإحصاء الجمة وضرورته للتنمية.والذي لم يخطر ببال الإحصائي قط أن ما يعتبره مجرد صعوبات إحصائية ليس إلا انفصاماً تاماً بين مجتمعين ينتسبان إلى عالمين مختلفين. كما أنه لم يخطر بباله أن حل المشكلة لا يكمن في إجراء “تقدير تقريبي” لسكان القطاع المسمى بالتقليدي ودخله، بل هو في إعادة النظر في تشخيص المشكلة من أساسها.