منبر التراث
من على رفوف المكتبة التاريخية اليمنية تطل عدد من مؤلفات المؤرخ الجليل الأستاذ عبد الله أحمد محيرز الرائعة في تاريخ ثغر عدن المحروس وهى العقبة ، الصهاريج ، صيرة ، ورحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي . والحقيقة من يطلع ويقرأ صفحات تلك الكتب بتأمل وعمق يشعر مدى الحب الكبير الذي يكنه مؤرخنا محيرز لمدينة عدن عروس البحر العربي ، والمدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر ، والمشهورة في الأزمنة التاريخية القديمة بأسواقها الزاهرة التي كانت تأتيها القوافل التجارية من كل مكان من الجزيرة العربية و الخليج العربي و بلاد المغرب و والشام و مصر و الهند جزر الهند الشرقية وشرق أفريقيا ، وكان ميناؤها يمور بالحركة التجارية مورًا مما دفع بالإمبراطورية الرومانية إلى العمل على تحطيمه والقضاء عليه حتى لا ينافس موانئها في البحر الأحمر ، وتمكنت أخيرًا بعد غزوها لليمن في سنة 24 قبل الميلاد بسنوات عديدة من أنّ تدمره ، ولكنه عاد بعد سنوات قليلة لمزاولة نشاطه التجاري بصورة مكثفة وواسعة.وبلغت شهرة ميناء عدن بلاد الصين ، فأرسل إمبراطورها أسطولاً ، قيل أنه سد عين الشمس وأفزع أهل عدن من كثرته وضخامته وذلك في عصر الدولة الرسولية ( 626 ـــ 858 هـ / 1228 ـــ 1454م ) ليجلب البضائع النادرة والنفيسة , والعجيبة منها الذي سمع عنها في مملكته . [c1]بين محيرز وبامخرمة[/c]ومن المؤرخين اليمنيين القدامى الذين سخروا يرعهم في توثيق أحداث تاريخ عدن هو المؤرخ أبو الطيب عبد الله با مخرمة المتوفى ( 947هـ / 1540م) ، فقد ألف مؤلفه الشهير (( تاريخ ثغر عدن )) والذي أفرد فيه الكثير من تراجم الصوفية ، والعلماء ، والفقهاء ، والسلاطين والملوك الذين تعاقبوا على حكم عدن في القرنن التاسع والعاشر الهجريين ، القرنيين الـ ( 15م ) ، (16)م فضلاً عن بعض الأساطير التي رواها عن عدن . وكتب أيضًا مؤلفاً آخر بعنوان (( قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر )) وإنّ لم يأخذ شهرته مثل المؤلف السالف الذكر ، ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم أهمية هذا الكتاب ، قائلاً : “ إنه المرجع الوحيد لتاريخ السنوات القليلة التي تلت سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري على أيدي المماليك في 923هـ ( 1517م ) ، فقد تتبع فيه أخبار بقايا الأسرة الطاهرية ـــ آخر الأسر السُنية التي حكمت اليمن ـــ حتى انكمش نفوذها في عدن نفسها قبل مجيء العثمانيين إلى اليمن “ . فإذا كان بامخرمة قد سخر يرعه في كتابة تاريخ عدن ، فإنّ مؤرخنا وأستاذنا الكبير عبد الله محيرز وهب كل حياته للبحث ، والتنقيب والتمحيص عن آثار و تراث ، وتاريخ عدن بشكل علمي ، ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ مدينة عدن بسواحلها ، وسهولها ، وجبالها ، وهضابها ، وقلاعها ، وأحيائها قد أخذت لبه واستحوذت على كل جوارحه ، ومشاعره ، فدرس تاريخها دراسة علمية دقيقة تتكئ على منهج البحث التاريخي الذي يقوم على الاستقراء ، والاستقصاء ، والاستنباط ، والمقارنة ، والتحليل العميق ، والتفسير ، والشرح وقبل ذلك كله الاعتماد على المعطيات التاريخية الناطقة بالحقائق والوقائع وذلك بخلاف المؤرخ بامخرمة الذي كان ينقل الروايات عن الآخرين كما هى دون تمحيص أو تدقيق حتى ولو كانت تقفز على العقل والمنطق, ولكن هذا لا يقلل من قيمة مؤرخنا بامخرمة ومؤلفيه سابقي الذكر .[c1]محيرز والصرح الثقافي[/c]والحقيقة أنّ الأستاذ عبد الله محيرز له بصمات مضيئة ومشرقة في جبين آثار و تراث وتاريخ اليمن بوجه عام وثغرها عدن بوجه عام ، فقد أسس المركز اليمني للأبحاث الثقافية للآثار في الفترة الممتدة بين سنتي ( 1975 و 1989م ) لغرض الحفاظ على شخصيتنا التاريخية التليدة. ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ مؤرخنا الأستاذ محيرز غرس بذور العناية والاهتمام بالوثائق ، والمخطوطات اليمنية النادرة والقيمة . ففي عام 1975م ، قام محيرز بجولة في مكتبات أوربا ، وأمريكا لحصر ، وجمع المخطوطات والوثائق وعددها 800 مخطوط وما يربو على ألف مقال ، إضافة إلى أرشيف مكتبة الهند عن المراسلات الخاصة بعدن ، والمحميات منذ الاحتلال الإنجليزي لعدن حتى عام 1905م . ولقد بذل مؤرخنا وأستاذ محيرز صحته ، وعرقه ، وجهده ، ووقته للحفاظ على تاريخنا اليمني وثغرها الباسم عدن وعمل على غربلة الشوائب التي علقت في أهدابه عبر تاريخه الطويل . وكان له دور فعال في إطلاع وتعريف آثار ، وتراث ، وتاريخ اليمن بصورة مشرقة في المحافل الدولية كمنظمة اليونسكو المختصة في الحياة الثقافية المتنوعة , وقد لفت نظر اليونسكو إلى طرز عمائر المدن اليمنية الموغلة في القدم كمدينة شبام في وادي حضرموت والتي وضعتها هذه المنظمة العلمية في مربع الحفاظ على المدن الأثرية التاريخية . وبعد معاناة مع المرض رحل مؤرخنا وأستاذنا الكبير عبد الله أحمد محيرز في الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1991م عن مسرح حياتنا بعد أنّ أسهم أسهامًا هامًا في الحفاظ والعناية بآثارنا ، وتراثنا ، وتاريخنا من ناحية وتسليط الأضواء الكاشفة على عدن أهم مدن اليمن قاطبة من ناحية أخرى .[c1]جائزة محيرز العلمية[/c]ونقترح على المسؤولين في الجهات المعنية بالحياة العلمية كجامعة عدن تخصيص جائزة علمية باسم (( جائزة محيرز العلمية )) تمنح كل عام للباحثين الناشئين المتفوقين في ميدان التاريخ و التراث والآثار ، ونأمل أنّ تساهم أيضًا محافظة عدن مساهمة فعالة لإدراكها أهمية مؤرخنا الكبير الذي سخر قلمه في لكتابة تاريخ عدن ثغر اليمن ومن جهة إقامة ندوة عن حياة الأستاذ محيرز العملية والعلمية وإنني أكاد أجزم بأنّ المسؤولين في محافظة عدن وعلى رأسهم محافظها الدكتور الأستاذ عدنان الجفري ، وجامعة عدن وفي مقدمتهم رئيسها الدكتور الأستاذ عبد العزيز حبتور تحتل تلك الفكرة مساحة واسعة في تفكيرهما وأنهما ينتظران الوقت المناسب لإخراجها إلى حيز النور في المستقبل القريب .