أضواء
مسألة الوافدين في الخليج من العمالة الأجنبية (الآسيوية) تتخطى طابع المشكلة القابلة للمعالجة العلمية والعملية، إلى الحالة الإشكالية التي تعبر عن تشابك عدد من المشاكل الموزعة على حقول مختلفة والممسكة بمفاتيح بعضها البعض. استجمع وزير العمل البحريني قواه (الشرق الأوسط 2008/1/27م) وأطلق صرخة أراد بها استنهاض وعي الخليجيين وعزيمتهم لمواجهة خطر داهم، وظهر مصمماً على ارسال رجفة من الخوف في أوساط الناس العاديين ودوائر القرار وقيادات الاقتصاد حول ما أسماه بالعمالة الوافدة، تركز خصورهم وتبث في أجواء تكاياهم الكسولة قلقاً مصيرياً، قد يستفز عقولهم الخاملة وأبدانهم المترهلة، ولم يتردد في اللجوء إلى استعارات مفزعة لإثارة الخوف الملامس للذعر في قلوبهم، كجماعة تواجه خطر التذويب دون أن تماري في استسلامها وانسلابها لمظاهر الحياة الباذخة والبليدة التي تغرقها، وليس من المؤكد أن مثل هذه الصرخة ستخترق ضمائر الخليجيين الذين يغمرهم الكلأ النفطي حتى هاماتهم، بالرغم من استعارات الوزير واشاراته إلى ما أخذ يتجاوز التنبؤ إلى الواقع المتحقق. ولا بد أن يكون هذا التحذير المجلل بالخوف والقلق قد لقي اهتماماً عميقاً لدى وزير العمل في المملكة الذي يصارع في سبيل الحد من ميول مجتمعه إلى الارتكان على سواعد وجهود الوافدين. ولكن الوزير البحريني تجاوز سقف الهواجس التقليدية حول مستويات البطالة وتوليد الوظائف ومعادلات سوق العمل الوطنية والمؤثرات الاجتماعية والاقتصادية، إلى ما تختزنه مسألة التدفق المتصاعد للعمالة الأجنبية (الآسيوية) والدلالات الاجتماعية الكامنة خلفها وعلاقات ذلك بالتطورات الحثيثة على المفهوم الحقوقي للإنسان والصيغ القانونية الدولية المرتبطة به، التي ترعاها الأمم المتحدة عبر اتفاقيات ومعاهدات تشكل القاعدة المرجعية لما يسمى بالشرعية الدولية، بما يضع مسألة التهديد الذي ينطوي عليه التوسع في استقدام العمالة دون ضوابط على مستوى القضايا الجوهرية الكبرى المتعلقة بالمضامين التأسيسة للأمم والقوميات وحدود السيادة الوطنية والهوية، وهي تهديدات يزخر بها الخزين الثقافي والاجتماعي والإحصائي الذي تحمله أعداد الآسيويين المتكاثرة، التي باتت فعلياً قادرة على إحداث التغيير في المستوى الديموغرافي والثقافي، وهو ما منح الوزير البحريني تصميمه فيما يبدو على هز أكتاف الخليجيين لإرغامهم على التطلع إلى مستقبلهم المنفتح على احتمالات مثيرة للرعب، مع انجرافهم في أوهام رفاهية تماثل رفاهية الطور الجنيني حيث يتولى رحم الأم (النفطي في الحالة الخليجية) تقديم عناصر الحياة جاهزة للتمثل، إن ذلك جدير بأن يمثل خطراً أكثر هولاً من القنبلة الذرية أو هجوم إسرائيلي، كما أراد الوزير البحريني أن يصوره لأبناء جلدته. ولم يكن ذلك اجتهاداً يحاول سبر المستقبل، بقدر ما هو مقاربة لواقع مشهود تفيض به دنيا الخليجيين ويجسد أكثر جوانب التماثل في حياتهم الجديدة التي تخطو بزهو على بساط أحمر لم يفطنوا بعد بأنه قد يسحب من تحت أقدامهم، ليغرق حلمهم في المحيط الآسيوي البشري، الذي يكتسب بثبات صفة الضرورة في حياتهم، دون أن تكفي أشكال الحركة في الفضاء القانوني الدولي التي تنطلق على خلفية الإنسانوية المألوفة لدى قوى التمكن العالمي، والتلويحات المتواصلة من قبل هيئات دولية ومنظمات حقوق الإنسان المشحونة بالتأنيب والتأليب حول أوضاع العمالة الوافدة في الخليج، لم تكفِ لدفع الخليجيين للتطلع نحو الأفق العالمي المحجوب بكثافة الغيوم التي لن تمطر مهاجع الغفلة حيث يستكينون للبلادة والترهل عطراً، ولم تتوقف المجتمعات الخليجية لتنتزع العصابة من فوق بصرها وبصيرتها، حتى بعدما هب إعصار التغيير على القارة الآسيوية مزعزعاً الأسس الهيكلية لنظام العالم وعلاقات الدول المتشكلة في سياقات القوة والثروة، حيث تلوح سدة السيادة على العالم في غد بات وشيكاً، مزدحمة بالوجه الآسيوي الذي يتجه ثابتاً نحو تملك الوسائل لإنتاج المؤثرات الحاسمة في إدارة عالم المستقبل، فلم تعد الهند كما الصين جزءاً من عالم السكونية بعد أن نجحت في ترجمة نهضتها حضوراً متزايداً على المسرح العالمي وقوة منتمية إلى الجانب المتحرك من هذا العالم، وتعبر مظاهر النمو البشري والاقتصادي في ذلك البلد الآسيوي العملاق بوضوح تام عن تبلور الوقائع الحاسمة في مشهدية المستقبل الدولي، فالهند لا تتوانى منذ الآن في الإلحاح على مقعدها داخل مراكز القيادة السياسية للعالم أو الحصول على حصة مناسبة في توزيع النفوذ والقوة، بيد أن تحول التركيبة السكانية في بعض مناطق الخليج إلى أغلبية هندية لم يكفِ أيضاً وأيضاً لاستثارة الخليجيين أو هزهم بالعنف المناسب للنظر في ما حولهم، إن حقائق الواقع المشهود والتاريخ تتوالى أمامهم دون أن يبصروها لأن أفقهم أصبح محجوباً بناطحات السحاب الصاعدة على سواعد غيرهم، مما يجعل الحديث عن قراءة موضوعية لآثار الهجرة العمالية من الصين إلى أرخبيل جنوب شرق آسيا إبان العهد الاستعماري والمنتجات العميقة التي خلفتها على التركيبة السكانية في الأرخبيل، حديثاً اعتباطياً لا طائل تحته في منظور الخليجيين، أما الذين عاشوا ظروف الاستقلال الماليزي ويعرفون أبعاد السيطرة الاقتصادية التي تمارسها الجاليات الصينية في أندونيسيا وماليزيا والفلبين ومواقعها الاقتصادية في وقتنا الحاضر، التي تعكس فشل الحكومات الوطنية (الماليزية على وجه أخص) في إعادة التوازن الاجتماعي أو التخفيف من حدة الخطوط الاثنية والثقافية التي تتوزع داخلها التركيبة السكانية الحالية للمنطقة، فأنهم يجدون في المقاربة بين شروط المرحلتين التاريخيتين لمنطقة الخليج أو بعضها على الأقل والأرخبيل الآسيوي عناصر مشتركة، يعزز اعتبارها نهوض الهند التي تشكل أكبر مصادر العمالة الوافدة، وليس حتمياً بالتأكيد أن تستعيد الرواية التاريخية تفاصيلها، ولكن الملامح الهندية التي أصبحت تلون تفاصيل الخارطة السكانية للمنطقة ترغم الذاكرة على استحضار محطات نشوء الدولة السينغافورية وتشكلها في ظاهرة استثمرت ببراعة باهرة العوامل التاريخية والموضوعية لذلك الأرخبيل. مسألة الوافدين في الخليج تتخطى طابع المشكلة القابلة للمعالجة العلمية والعملية، إلى الحالة الإشكالية التي تعبر عن تشابك عدد من المشاكل الموزعة على حقول مختلفة والممسكة بمفاتيح بعضها البعض، وهي بذلك منتج شديد التعقيد قد يتمرد على الاستجابات المرحلية وبكل تأكيد على الاختزالية والتسطيح، اللتين تسودان خطابات للمولجين بشأنها، فليس من جدوى وراء إحالة هذه الكتلة الصلبة من القضايا الأساسية من عناصر التاريخ والبيئة الجغرافية ومكونات المجتمع وظروف المرحلة الموضوعية إلى كاهل (التجار) كما يحلو لأهل الخليج تسميتهم، أو للقطاع الخاص وفق التسمية السعودية، بديلاً عن فحص جذور هذه الإشكالية المنتشرة على كامل المساحة الشاسعة للواقع الخليجي، بكل أبعادها التاريخية والبيئية والثقافية والاقتصادية، حيث تجسد الواجهة الأكثر اتساعاً لازدحام متناقضات ومفرزات الصدمة النفطية التي اكتسحت مجتمعاً بالغ الركودية وقذفت به نحو ركودية أكثر هموداً واستسلاماً على وسائد حريرية متخيلة لا ينغّص صفوها هدير ُالتغيرات أو عصف الرياح. وعلى الرغم من ذلك فإن النظرة الاختزالية التي تطبع المعالجة الخليجية إزاء إشكالية التدفق البشري الآسيوي وإنفاقها على إيقاع القفزة النفطية التي تعيشها المنطقة وعبر صعود تيارات (انفتاحية) تتبنى تنموية (مبتكرة) تستند إلى استيراد السكان، لا تعبر عن رؤية موحدة أو تصدر عن تقييم مشترك لمضمون الإغراق البشري الآسيوي الذي يشهده الخليج، وحتى بعد أن جرف المد الطاغي للوافدين والسكان المستوردين الأسس المبدئية للهوية الوطنية وأزاح المواطنين إلى هوامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية، محولاً إياهم إلى أقلية إحصائية في بعض مناطق الخليج، فإننا لم نعدم من يزهو بذلك برهاناً على الحيوية والازدهار أو المعجزة أحياناً، ناسباً ذلك إلى عبقرية خارقة تقرأ المستقبل وتقفز أمامه قبل أن تفتح صفحته الأولى، وتبلغ ثقة دعاة هذا المنظور حداً متطرفاً باحالة (المعجزة) إلى الوافدين والمستوردين ولا شيء آخر، وتشي تناقضات الموقف الخليجي التي تطفو على السطح، عبر تصريحات المسئولين الخليجيين مضافة إلى الاختزال والتسطيح اللذين يسمان هذه المواقف، بأن هذه الإشكالية التي تحمل تهديداً مفزعاً لمجتمعاتنا ومستقبل بلداننا لا تواجه مقاومة جادة مستندة إلى موقف موحد أولاً، أو إستراتيجية شمولية تتناول المنظومات المتشعبة التي تتشابك لإنتاجها ثانياً، وهي منظومات تمثل واقعاً إشكالياً بالمعنى المعقد الذي يحتمل مجموعة من التفاسير والحلول.[c1] * صحيفة (الرياض) السعودية[/c]