مع الأحداث
لماذا يبدو الناس جميعاً مشغولين على الدوام، وكأنه لم يعد هناك شيء اسمه «وقت فراغ»؟ إني مازلت أذكر كيف كان الحال مختلفاً في صباي وشبابي، كان لدى الجميع «وقت فراغ» يعتد به: الغني والفقير، صغار السن وكبار السن، الموظف والعامل والفلاح، الرجال والنساء.. الخ، أما الآن فلا أكاد أرى أحداً من هؤلاء إلا وهو يلهث للقيام بعمل أوشك موعده أن يحل، أو بواجب لا يجوز الإخلال به. هناك طائرة أو قطار عليه أن يلحق به، اشتراك في نادٍ أوشك أن ينتهي موعد دفعه، فاتورة تليفون أو كهرباء مستحقه الدفع وإلا انقطعت الحرارة أو النور، رسالة عاجلة وصلت بالبريد الالكتروني ولابد من الرد عليها.. الخ، ناهيك عن توصيل طفل إلى حفلة عيد ميلاده أو إلى النادي حيث يتلقى درساً في السباحة، أو إلى مدرس الموسيقى عسى أن يكتشف في الطفل موهبة خارقة للعادة. ما زلت أذكر بيتنا وأنا طفل صغير، إذ كان يدق الباب فجأة أخ متزوج وزوجته، أو أخت وزوجها، أو عم أو خال أو ابن خال أو بنت عم، دون أن يخشى أحد من هؤلاء أن يكون بمجيئه قد قطع علينا عملاً مهماً أو أنه يعطلنا عن القيام بواجب، كان يعتقد أننا على الأرجح نجلس للتسامر وتبادل الحديث، وقد كان مصيباً في معظم الأحوال، فلماذا لا ينضم إلينا في ذلك؟ وهو إذا جلس يطيل الجلوس، وقد يشاركنا تناول الطعام إذا حل موعده، إذ إن ما يكفي أربعة أو خمسة يكفي أيضاً ستة أو سبعة. المهم ألا أحد كان في عجلة من أمره. قد يبدو الأمر وكأننا كنا عاطلين عن أي عمل، يأتينا الرزق دون أن نبذل أي جهد، ولكن الحقيقة أننا كنا كلنا نؤدي أعمالاً مهمة، الابن التلميذ أو البنت التلميذة، الأب الموظف، والأم التي تحمل كل مسؤوليات البيت من طهي الطعام إلى غسيل الملابس وتنظيف البيت، ولكن كلنا أيضاً كان لدينا وقت فراغ، أو بعبارة أخرى كان لدينا من الوقت ما يفيض عن اللازم للقيام بمسؤولياتنا المختلفة، فأين ذهب وقت الفراغ هذا؟ المدهش أن اختفاء وقت الفراغ حدث في الوقت نفسه الذي تضاءل فيه حجم الأسرة، فأصبح الزوجان يكتفيان بطفلين أو ثلاثة بعد أن كانت العادة أن يكون لهما خمسة أو ستة أطفال، حدث أيضاً هذا الاختفاء لوقت الفراغ، في الوقت نفسه الذي انتشرت فيه المكينة «أي إحلال الآلة محل العمل الإنساني»، فأصبح ما كان يستغرق ساعة أو ساعتين بالعمل المجرد يستغرق دقيقة أو دقيقتين باستخدام الآلة، فأين ذهب ذلك الوقت الذي وفرناه بتقليل عدد الأطفال وانتشار استخدام الآلة؟ حدث هذا الاختفاء لوقت الفراغ في وقت زادت سرعة وسائل المواصلات، بحيث أصبحت الرحلة التي تستغرق أياماً في باخرة تتم في ساعتين بالطائرة، فأين ذهب الوقت الذي وفرناه بالوصول إلى المكان الذي نقصده قبل الموعد بأيام عدة؟ ليست هناك إلا إجابة واحدة على هذا السؤال: وهي أنه مع كل اختصار للوقت اللازم لأداء الأعمال المطلوبة، زادت الأعمال المطلوبة بمعدل أكبر، فإذا بنا نضيع باليد اليسرى ما كسبناه باليد اليمنى، وينتهي بنا الأمر إلى اللهاث أملاً من أن نستطيع القيام بالأعمال الحديثة، واللامحدودة، في الوقت المتاح الذي ما زال محدوداً. انظر مثلاً إلى ما أصبحنا نعتقد الآن أنه مطلوب وواجب وضروري لتربية طفل أو طفلين، لم يعد الأمر قاصراً على توفير الغذاء والكساء والمسكن والتعليم المناسب، بل أصبح من الضروري أيضاً أن يتعلم الطفل المهارات الجديدة، من استخدام الكمبيوتر إلى تكوين الجسم السليم بمختلف أنواع الرياضة، إلى تنمية أي موهبة قد تكون كامنة فيه كالعزف على آلة موسيقية، واستخدام الألعاب التي يفترض أنها تزيده ذكاءً، ناهيك عن تنمية شخصيته اجتماعياً بتوفير الصحبة اللازمة له، وترتيب الحفلات في عيد ميلاده، وتوفير الهدايا لكي يعطيها لأصحابه في أعياد ميلادهم...إلخ. أصبح من اللازم لتربية الطفل (أو بالأحرى ما أصبحنا نعتبره لزاماً لتربيته) يكفي لشغلنا طوال اليوم، فيضطر الأب (أو الأم) إلى مضاعفة ما يحصل عليه من دخل لتوفير كل هذه الأشياء له، مما يتطلب بدوره قضاء ساعات أطول في العمل، وتنفق الأم ما بقي لديها من وقت فراغ لتحقيق هذه الطلبات للطفل، ولكن الأطفال ليسوا وحدهم الذين زادت مطالبهم. بل زادت مطالبنا جميعاً لأننا لا نكف عن تحويل الكمالي إلى ضروري، أو عن اختراع مطالب جديدة لم نكن نعرفها أصلاً، فأصبحت من ضروريات الحياة. إن الاقتصاديين لديهم اصطلاح «السلع المكمّلة» أي تلك السلع التي لا يتم الاستمتاع بإحداها إلا بتوافر الأخرى، فيقولون إن السكر سلعة مكملة للشاي (إن كنت لا تستمتع بالشاي إلا مع بعض السكر)، والوقود سلعة مكملة للسيارة، إذ لا يمكن الاستمتاع بالسيارة إلا بتوفر الوقود..إلخ. ولكن يبدو أن من السمات الأساسية للحياة الحديثة أن قائمة السلع «المكملة» للاستمتاع بالحياة نفسها تزداد طولاً بمعدل سريع للغاية، فإذا بالاستمتاع بأي شيء يصبح مستحيلاً إلا إذا توفر عدد كبير جداً من السلع والخدمات الأخرى، فعلى سبيل المثال كان النزول إلى البحر للاستحمام في الماضي، لا يتطلب إلا لباس البحر ومنشفة لتجفيف الجسم، فأصبح النزول إلى البحر يتطلب الآن من الملابس والأدوات والمركبات الآلية وغير الآلية والنظارات الشمسية ومراهم الوقاية من حرارة الشمس.. الخ. ما أصبح يعتبر الآن ضرورياً «لاكتمال» عملية الاستحمام، وكان الانتقال من مكان لآخر يتطلب المشي أو ركوب الترام أو السيارة العامة ثم أصبح يتطلب سيارة خاصة، ولكن السيارة الخاصة الآن لا تكتمل إلا بوجود عدد لا يحصى من وسائل توفير الراحة والترفيه والأمان، التي لا «تكتمل» عملية الانتقال إلا بها. كل هذه السلع المكملة، التي أصبحت تعتبر ضرورية، تتطلب دخلاً إضافياً، والدخل الإضافي يتطلب عملاً إضافياً، والعمل الإضافي يقتطع أكثر وأكثر من وقت الفراغ، حتى كاد وقت الفراغ أن يصبح سراباً، أو شيئاً تسمع عنه ولا تراه. [c1]مؤرخ مصري[/c]