في ذكرى توحيد اليمن
نخطئ إذا قصرنا ذكرى قيام الوحدة اليمنية على الجانب الاحتفالي، بل علينا أن نجعل منها، بالنسبة لتجديد الفكر السياسي الوحدوي والقومي العربي وقفة إعادة نظر، ومراجعة علمية متجددة بالنظر لما تقدمه من شواهد إيجابية على أن الأوطان العربية بكياناتها الراهنة، على نواقصها، ليست كلها سلبا ومدعاة لليأس والاكتئاب والخروج من التاريخ وإنما هي قاطرة وجسر لدخوله من جديد، وصولا الى مرحلة أهم من التقدم العربي المتكامل، إذا عرفنا كيف نعبر من خلالها بما يتوافق مع مغزاها التاريخي الخاص بها، الذي لا يندرج ضمن أي تصنيف فكري شائع في ثقافتنا الايديولوجية القومية، بل يقف - نظريا - مستقلا عنها وإن يكن - عملياً - مؤدياً لها.وليس من المبالغة القول إن وحدة اليمن الكبير هي أهم منجزات شعب اليمن في العصر الحديث، كما قال رئيسه، وذلك ما ينطبق، بدرجة أو بأخرى، على مختلف الأقطار العربية.واللافت انه منذ ان اكتملت وحدة القطر اليمني، وهي موضع ترحيب وإشادة كافة "الوحدويين" العرب، رغم كونها وحدة "قطرية" حسب المصطلح الايديولوجي للأحزاب والحركات القومية.ذلك ان تجربة توحيد اليمن تصلح مثالا حيا معاصرا على أن الوحدات "القطرية" العربية الراهنة - سواء كانت من معطيات التاريخ أو الظروف الدولية - تجمع وتوحد مختلف "العصائب" القديمة الموروثة القائمة بداخلها في إطار مشروع وطني، حتى إذا تم إنضاجها في بوتقة ذلك المشروع الوطني الحديث اتجهت وحداتها الى وحدة أكبر حسب منطق التقارب والتماثل فيما بينها، وحسب منطق التطور العالمي الذي لا يتسع إلا للكتل الكبيرة.وعلينا أن نلاحظ في تطور أخير خارج الوطن العربي، أن قرار شعب الجبل الأسود بالانفصال عن صربيا ليس قرارا بالانفصال المطلق، وإنما هو من أجل الخروج من "وحدة" جمدت الى وحدة متنامية أكثر تطورا وأفضل مستقبلا هي الوحدة الأوروبية التي لن تلبث دولة الجبل الأسود المستقلة والأكثر تقدما من صربيا في السعي للانضمام اليها حسب تقديرنا في وقت غير بعيد. وإذا عدنا الى صعيدنا العربي، فإن كل ما يأمله العرب للعراق اليوم هو أن يحافظ الكيان "القطري" العراقي على وحدة مكوناته، دون تقسيم! علماً أن العراق الحديث، ضمن خريطة الهلال الخصيب، قد رُسمت حدوده الراهنة في إطار مقايضات دولية استعمارية بين بريطانيا وفرنسا دخلت التاريخ تحت عنوان "سايكس - بيكو"، الى جانب سوريا والأردن ولبنان.. سوريا، التي كتب عن وحدة كيانها "القطري" المفكر الوحدوي العروبي ساطع الحصري مذكرا: "إن الفرنسيين عندما احتلوا سوريا، قسموها الى دويلات حلب ودمشق وجبل الدروز وبلاد العلويين، وكان من مفاخر حلب، انها لم تلتفت الى مغريات الاستقلال بدولة خاصة بها... (و) لم تتردد في هدم آمال الفرنسيين، بالانضمام الى دمشق، وبعد هذه التجربة أبقت (فرنسا) دولتي جبل الدروز وبلاد العلويين خارج نطاق الجمهورية السورية، ولكن الحكومات السورية لم تنقطع عن الاحتجاج، وظلت تطالب بإلحاق تلك البلاد بها. ومن مفاخر أهالي الجبلين المذكورين أنهم رضوا بهذا الاندماج على الرغم من اختلاف بيئاتهم عن البيئات السورية الأخرى جغرافيا وبشريا واجتماعيا" (الحصري، الإقليمية، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت ،1985 ص 34- 35).والأمثلة العربية كثيرة، والتحديات الماثلة أمام وحدة السودان اليوم تذكير آخر بها. ولكن ما يهمنا ويستوقفنا في هذا المقام تجربة توحيد اليمن، فإذا كان قيام دولة اليمن الموحدة - شمالا وجنوبا - يمثل الخطوة الأخيرة نحو قيام الكيان القطري المركزي في اقليم اليمن، فإن الخطوات السابقة لذلك يجب أن ننظر اليها الآن بصورة أكثر تفهما وتقديرا ما دامت أدت في النهاية الى هذه النتيجة المهمة في إنضاج ظاهرة "القطرية المركزية" في القطر اليمني الكبير والموحد، وإن بدت قبلها وكأنها كيانات "انشطارية" في الشطرين الشمالي والجنوبي.تجمع الدراسات السوسيولوجية المختصة في البنية المجتمعية اليمنية على أنها بنية تقوم اساسا، كغيرها من البنى المجتمعية العربية، على الوحدات القبلية والعشائرية الصغيرة والمتعددة، حتى في حالة الاستقرار الزراعي. وكانت الصراعات بين تلك الوحدات شبه المستقلة سياسياً ظاهرة شبه دائمة (يراجع بين مصادر أخرى: قائد الشرجبي: الشرائح الاجتماعية التقليدية في المجتمع اليمني، دار الحداثة، بيروت 1986). كما كان الصراع والتقابل بين البادية الجبلية والسهل الساحلي الحضري ظاهرة مؤثرة في التاريخ اليمني (كما هو الصراع بين البادية والحاضرة في حالة العراق والجزيرة العربية الشمالية ومعظم الأقطار العربية). وهو صراع مجتمعي بنيوي اتخذ في اليمن، كما في غيره من المجتمعات العربية ايديولوجية مذهبية ذات مرجعية دينية بحكم إسلامية المجتمع (زيود- شوافع) ومثّل العامل الأخطر، وإن يكن غير المعلن في الحرب الأهلية اليمنية بين الملكيين والجمهوريين بعد قيام الثورة اليمنية في 26 ايلول/ سبتمبر ،1962 وحتى استقرار الجمهورية العربية اليمنية - في الشطر الشمالي - كدولة موحدة في حقبة السبعينات والثمانينات:1- هكذا، فإن التطور البطيء للدولة القطرية اليمنية في الشمال في عهد الإمامة، ثم التفاعل السريع للبنى الاجتماعية المتعددة فيها في العهد الجمهوري، باتجاه توحيد السهل والجبل في كيان عضوي، يمثل خطوة توحيدية في الشمال تمت في إطار الكيان القطري لدولة الشطر الشمالي من اليمن، وهي مسألة - في ضوء تعدديات وصراعات السهل والجبل - لم تكن محسومة قبل هذا التطور.2- من ناحية أخرى، وقبل قيام دولة اليمن الجنوبي، كان الساحل اليمني الجنوبي الطويل، الممتد من أقصى حضرموت في الشرق بمحاذاة سلطنة عُمان الى عدن على مضيق باب المندب، عبارة عن "موزاييك" من السلطنات والإمارات لا توحدها - سياسياً وإدارياً - غير الإدارة الاستعمارية البريطانية. وقد شهد هذا الساحل محاولة لتوحيده في ظل سلاطين الجنوب، لكنها لم تفلح.ولو أن النفط اكتشف بكميات كبيرة في اليمن الجنوبي قبل رحيل الانجليز لشهدنا تثبيتاً لتلك الخريطة الانقسامية بين السلطنات والإمارات، وربما خلقاً وتأسيساً للمزيد منها (كما حدث في بعض مناطق الخليج بعد اكتشاف النفط)، غير ان الثروة التي أدت الى مزيد من التجزئة في الخليج، لم تظهر في جنوب اليمن، واتحد الناس هنا (اليمن الجنوبي) في "الفقر" حيث انقسموا هناك "الخليج" في الغنى!وأياً كان الأمر، فإن دولة اليمن الجنوبي مثّل قيامها بعد الاستقلال تجربة توحيدية - في كيان قطري واحد - لجميع تلك السلطنات والمشيخات والإمارات، وإن بدت من منظور قومي رومانسي مثالي حينئذ، بمثابة تكريس ل "التجزئة" بين شطري اليمن.لكنها بمنظار الواقع التاريخي، المتعرج في سيره، الذي يتطلب نفساً طويلاً وصبراً أطول، فإنها حققت توحيداً سياسياً وكيانياً بين سلطنات ومشيخات كانت تعيش وتتصرف كما لو كانت كيانات أو دولاً مستقلة. من هنا فإن دولة اليمن الجنوبي - على صغرها وقلة سكانها - مثّلت خطوة نحو "القطرية المركزية"، على صعيد الشطر الجنوبي لليمن الكبير، قبل أن تندمج ذاتها في "قطرية مركزية" أكبر بقيام دولة اليمن الموحد (يراجع تكوين العرب السياسي للكاتب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ،1994 ص 113 - 114). وكما نعلم، فإن هذه الوحدة قد تمت أولاً بتوافق غير حاسم، تلاه حسم عسكري فيما بعد، وذلك ليس بجديد في التجارب الوحدوية. ولكن المهم في الوقت الحاضر، إعطاء النموذج الوحدوي الصالح لجميع المشاركين فيه من أبناء اليمن، لتجاوز آثار ذلك "الحسم" وليشعر الجميع بأن الوحدة شراكة حقيقية.وبلا شك، فإن قيادة الوحدة اليمنية، استفادت من الظروف الدولية القائمة بما في ذلك "الضوء الأخضر" الدولي بإجراء ذلك الحسم، وصولاً الى عدن التي أصبحت تعاني من "فراغ استراتيجي" بعد انحسار الاتحاد السوفييتي والقوى المحلية التابعة له. ولا يمكن لأي وحدة- خاصة في المنطقة العربية الواقعة في قلب العالم - أن تتم وتستمر إلا بتعامل حذر مع المعطيات الدولية، كما تثبت تجارب التوحيد العربية التي تمكنت من الاستمرار.* مفكر من البحرين/ عن صحيفة ( الخليج ) الاماراتية