يستقبل المسلمون يوماً عظم الله قدره، وخلد التاريخ ذكره، وهو يوم التضحية ويوم النحر الذي فضله الإسلام على غيره من الأيام، وقد أخبرنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ويوم القر) ويوم القر هو اليوم التالي ليوم النحر، أي الحادي عشر من ذي الحجة، وسمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون فيها ويقيمون.وفي هذا اليوم تتم فريضة الحج، وتشهد الدنيا جموع الحجيج عند مهبط الوحي تلبي نداء ربها وتقتدي بسنة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) في الإيمان والتضحية، وتشكر خالقها على نعيم فضله، ورحمته الواسعة، وتسأله أن يعز كلمتها بالحق، وأن يخذل أعداءها بالعدل.وما تكاد بشائر الحج تلوح في كل عام حتى يردد الوافدون على ربهم ذلك النشيد الإسلامي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). ثم يعقدون مؤتمرهم الإسلامي الأكبر الذي تباركه رعاية الله. ويكمل جلال هذا المؤتمر إذا كان أهلوه في ألفة ووحدة لا فرقة بينهم ولا شتات، فليس لأمة الإسلام أن تسود أو تنال مرادها إلا إذا تجمعت وأزهقت من بينها روح الشتات والفرقة، فالرسول الكريم يقول: (الجماعة بركة والفرقة عذاب) ويقول: (يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار) وليس بخاف أن أعداء الأمة يتربصون بنا الدوائر ويحرصون كل الحرص على تفريقنا وتمزيقنا، لأنهم يريدون إذلالنا واستعبادنا وكسر شوكتنا والقضاء علينا، عن طريق تفريقنا وتمزيقنا.وأمام هذه الأخطاء لابد لنا من تأكيد وحدتنا وتعزيز أخوتنا وتوحيد صفنا وهدفنا، ولابد من اجتماعنا على كلمة واحدة، والعيد الذي يعقب فريضة الحج إنما سمي بعيد الأضحى لأن المسلمين فيه يضحون ليس بالذبيحة فحسب، بل بمساعدة بعضهم بعضاً، فهو يوم التوسعة الإلهية والضيافة الربانية، فبعد أن يؤدي الحجاج أعمال الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف ورمي وذبح، يبدؤون يومهم بالخروج جماعات إلى مصلى العيد والوقوف صفوفاً متراصة بين يدي الله في وقت محدد لأداء صلاة العيد في جماعة.والعيد في الإسلام ليس للحجاج فقط وإنما هو للمسلمين جميعاً، للغني والفقير، والصغير والكبير، للرئيس والمرؤوسين، للذكور والإناث، للشبان والمشايخ، للقوي والضعيف، للقرية والمدينة، لكي تدخل الفرحة فيه كل قلب، وتعم البهجة فيه كل بيت، فتتقارب القلوب على التآخي والود والمحبة، وتتطهر النفوس من البغض والكراهية والحقد والحسد.وفيه تتصافح الأيدي بمحبة، ويتناسى الناس ما بينهم من مشاحنات، وتظهر العواطف الإنسانية النبيلة بين الناس بالرضا والشكر.والعيد الإسلامي فرصة لترابط المجتمع، وموسم امتثال لأمر الله بالتعاون على البر والتقوى، فتخفف المآسي، وتكفكف الدموع، فيرتبط المسلمون ببضعهم برباط المودة والمحبة.وتروي لنا كتب التاريخ الإسلامي حكايات عجيبة عن بعض ما كان يفعله المسلمون في العيد، وكيف كانوا يتعاونون، ويساعدون بعضهم لتوفير مستلزمات العيد وتوفير متطلباته حتى أن بعضهم كان يؤثر غيره على نفسه، ومن ذلك على سبيل المثال ما ذكره الواقدي، وهو من علماء القرن الثاني الهجري، فقال: كان لي صديقان، وكنا الثلاثة كنفس واحدة، فنالتني ضائقة، وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البأس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء، فقد قطعوا قلبي رحمة بهم، لما عليهم من ثياب رثة، فانظر كيف نعمل لكسوتهم.قال الواقدي: فكتبت إلى صديقي الأول أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيسا مختوماً فيه ألف درهم، فلما استقر في يدي، كتب إلي صديقي الثاني يشكو إلي مثلما شكوت إلى صديقي الأول، فوجهت إليه الكيس بختمه، ثم أخبرت امرأتي بما فعلته فاستحسنت ذلك، ولم تعنفني عليه، فبينما أنا كذلك إذ أتاني صديقي الأول ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: إنك حين طلبت مني المال لم أكن أملك إلا ما بعثت به إليك ثم أرسلت إلى صديقي الثالث أسأله المواساة فوجه إلي الكيس الذي بعثت به إليه.قال الواقدي: فتقاسمنا الكيس فيما بيننا كل واحد ثلاثمائة درهم ثم أخرجنا للمرأة مائة درهم، ونما الخبر إلى المأمون الخليفة، فدعاني وسألني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل منا ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.وبهذا السلوك بنى المسلمون الأولون مجدهم، وبسلامة العقيدة، وبالإيثار تغلبوا على متاعب الحياة، فهل لنا أن نستلهم من سلوكهم العظة والعبرة ولله در القائل:بين عيد مضى وعيد آتي عبر توقظ الضمير القافي[c1]خطيب جامع الهاشمي / الشيخ عثمان[/c]
أخبار متعلقة