آلفن توفلررغم المصاعب المحيطة بأي عملية للتنبؤ بالمستقبل، فإن هناك رهاناً أكيداً لن تخيب نتائجه مطلقاً، ويتمثل في القول إنه ما إن يقْدم الإرهابيون على تفجير مكان عام في المرة القادمة، حتى يبدي العالم كله دهشته إذا كان القتلة من الأطباء والمهندسين وكبار الفنيين، بدلاً من أن يكونوا من الفقراء الفلاحين أو من غاسلي الأطباق اليائسين الأميين. وذلك بالضبط ما كان عليه رد الفعل، عندما أحبطت محاولة بعض الإرهابيين تفجير أماكن عامة في لندن وجلاسجو، حيث تم القبض عليهم مؤخراً.لكن عندما نأخذ في الاعتبار بالخلفية الاجتماعية والتعليمية لمفجري برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001، فإنه من الواجب أن يكف العالم عن دهشته هذه. كما لا ينبغي لأي منا أن ينسى ذلك النداء الذي وجهه قائد تنظيم "القاعدة" في بلاد الرافدين، في خريف العام الماضي، بخصوص ما أسماه حاجة التنظيم الماسة للكفاءات والخبرات العربية الإسلامية في مجالات الكيمياء والفيزياء والإلكترونيات، والإعلام والصحافة، وغيرها من العلوم والتخصصات، لاسيما للعلماء النوويين وخبراء المتفجرات، للانخراط في صفوف الجهاد. وقال لهؤلاء جميعاً بالحرف الواحد: "فما أشد حاجتنا لكم". ولم يضف ذلك المسؤول أو يفسر الأسباب التي تدعو الكثير من شباب المسلمين الراغبين في دراسة العلوم إلى مغادرة أوطانهم الأصلية لتلقي تخصصاتهم هذه خارجها. وبالقدر نفسه أغفل أو تناسى ذكر الأسباب التي جعلت العالم أحمد زويل، الشخصيةَ العربية الإسلامية الوحيدة التي نالت جائزة نوبل في الكيمياء من هذه المنطقة كلها عام 1999. وفي واقع الأمر فإنه ليس مطلوباً البتة النظر عبر عدسة مجهر مكبر للتوصل إلى حقيقة إدارة العالم الإسلامي المعاصر ظهره للعلوم اليوم، وهو الذي يتباهى بإسهاماته وإنجازاته الكبيرة في هذا الحقل خلال الألفية الماضية. وإنها لمفارقة محزنة بحق العلماء المسلمين الذين كانوا قادة النهضة العلمية في تخصصات الكيمياء والطب والرياضيات... اعتباراً من بدايات القرن الثامن الميلادي، أن تؤول علاقة الإسلام بالعلوم إلى ما آلت إليه حالياً. ففي عصرنا هذا -كما كتب "تانر إيديز"، وهو عالم فيزياء أميركي (من أصل تركي) ومؤلف كتاب "وهم التجانس"- فإن الإنتاج العلمي للمسلمين يعد منخفضاً جداً اليوم. وفيما لو كف المسلمون عن الإسهام العلمي، فقل أن ينتبه العالم أو يعير هذا الإعراض بالاً. واستطرد إيديز في القول: "فالمجتمعات الإسلامية مترعة بوجهات النظر العلمية الحديثة المتناقضة، ما حدا بالإسلام أن يصبح حاضنة للكثير من المعتقدات العلمية الزائفة القوية التأثير في ذات الوقت". بل تزداد أعداد المسلمين المنتمين إلى مختلف الأمم والطوائف الدينية ممن يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن التطورات الحديثة التي طرأت في مجالي العلوم والتكنولوجيا قد وصفها القرآن سلفاً. ولاحظ إيديز أيضاً أنه وما إن يأتي الأمر إلى مجال العلوم، حتى يستحيل الحديث عن عقيدة إسلامية واحدة. ففي هذه الحالة، عادة ما تتباين سلوكيات الأفراد والجماعات، نظراً لرجوح تأثرها بآراء وتفسيرات المشايخ المحليين أو الإقليميين، وهي جد متباينة ومختلفة عن بعضها البعض في هذا الأمر. لكن رغم ذلك كله -كما يلاحظ إيديز- فإن أدبيات الإسلام تزخر بالثناء على العقل والعلم. ذلك أن المسلمين طالما أصروا على عقلانية عقيدتهم وعلى حضها على التأمل والبحث العلمي.وعلى نقيض ذلك تماماً، فها أنت تنظر إلى المتطرفين الإسلاميين، وهم يلقون بعبء بؤس وسوء حال المواطنين في العالم الإسلامي على كل شيء خارج إطار عقيدتهم: من الاستعمار الأجنبي وحتى الهرطقة. بيد أنه في وسع المسلمين فعل ما هو أفضل من هذا وأنفع لهم، فيما لو اطلعوا على تقرير التنمية الاقتصادية الاجتماعية لعام 2003، وهو التقرير الذي شارك في إعداده ما يزيد على 30 عالماً ومحللاً مسلماً، تحت رعاية كل من صندوق التنمية الاقتصادية الاجتماعية العربي، والبرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة. فالملاحظ أن هذا التقرير يصف عالماً عربياً تساوي كثافته السكانية 5 في المائة من إجمالي الكثافة السكانية العالمية، إلا أنه لا ينشر سوى نسبة 1.1 في المائة فحسب من جملة الكتب التي تنشرها بقية دول العالم. ويصف التقرير أيضاً عالماً عربياً موسوماً بالتخلف عن بقية دول العالم في الانضمام إلى شبكة الإنترنت. يلاحظ هنا أن المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال لا الحصر، اعتبرت أن ارتفاع عدد كتابها من المساهمين عبر الشبكة الدولية إلى ألفي كاتب، يعد تقدماً في هذا المجال، رغم مضي ثلاثة أعوام بالتمام والكمال على صدور التقرير المذكور. كما سلط التقرير الضوء على المدى الذي يعزل به العالم العربي نفسه عن بقية دول العالم، من ناحية الأفكار والمعارف وتطوير الفكر المبتكر الخلاق. فالشاهد أن العالم العربي يكتفي بترجمة القليل جداً من الكتب من اللغات الأخرى، ويجنح إلى ضرب عزلة عن البشرية حول نفسه، وإلى الانطواء على الذات وبناء أسوار بلا منافذ حول مجتمعاته، على حد وصف البروفيسور أحمد كمال أبوالمجد، أستاذ القانون بجامعة القاهرة. أما في رأي ريما خلف هنيدي، نائبة رئيس الوزراء الأردني السابقة، ومديرة المكتب العربي الإقليمي للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لاحقاً، فإن السبيل الوحيد لانتشال المجتمعات العربية من بؤسها وفقرها، هو هدم ذلك الجدار المغلق. غير أن ذلك لن يتحقق -والحديث لا يزال لريما هنيدي- ما لم يتم تطوير منهج عربي يقوم على حرية الرأي والفكر النقدي والإبداع والابتكار والتعدد الثقافي، فضلاً عن الالتزام بالالتحاق بركب ثورة المعلومات خاصة، وكذلك الالتزام بنشر العلوم في المجتمعات العربية. وخلاصة القول إن المجتمعات العربية والإسلامية في أمسِّ الحاجة إلى "الجهاد" غير أنه "جهاد" آخر ليس على شاكلة ذلك المنسوب إلى أسامة بن لادن على الإطلاق، كما قال العالم أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل للعلوم، لكونه "جهاداً تعليمياً" في الأساس... فذلك هو نوع الجهاد الذي لا يأنف العالم من الالتحاق به والانخراط فيه. * [c1]نقلاً عن /صحيفة "الاتحاد" الإماراتية[/c]
“الجهاد" التعليمي... حاجة عربية ماسة
أخبار متعلقة