بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر نزار قباني
محمد سعيد غانم منذ ثمانية اعوام ترجل عن صهوة الشعر العربي المعاصر واحد من ابرز فرسانها هذا الفارس هو الشاعر العربي الكبير نزار قباني الذي كان رحيلة في شهر ابريل 1998م .وقد رحل نزار ولكن شعره لايزال باقياً خالداً ينبض بالحياة في وجداننا واحاسيسنا،ولاتزال اغلب قصائدة مطبوعة في افئدتنا وعلى السنتنا نتداولها ونستشهد بها في احاديثنا وليالي خلوتنا وقد عالج نزار قباني في هذه القصائد كثيراً من المواقف الوطنية والانسانية البحتة. وقد يتساءل المرء كثيراً : هل ترك نزار قباني الشاعر فراغاً ادبياً وشعريا في حياتنا بعد ثمانية اعوام من رحيلة ام ان تاريخه الابداعي الشعري الكبير جعلنا لانحس البتة باي فراغ؟ اذ مازلنا حتى اليوم نردد اشعاره بل يمكننا ان نقول اننا مازلنا نكتشف اشعاراً ماسمعنا بها من قبل كلما توغلنا في القراءة النزارية .. لذا فرحيل نزار قباني في الثلاثين من ابرايل عام 1998م وهو رحيل آخر العمالقة ومن ابرز صناع الكلمة والحرف الحقيقيين الذي عشنا معه احلامنا وآمالنا الكبيرة كما كان نزار قباني ايضاً من الشعراء الذين عبروا عن احلامنا وآلامنا واوجاعنا .. واضحى واحداً من ابرز شعراء هذا القرن الذين يعيش شعرهم وكلماتهم وادبهم على مر العصور وتعاقب الاجيال .والان .. وبعد مرور ثمانية اعوام على رحيلة يبرز سؤال مهم وهو : لماذا عاش نزار قباني في وجدان العرب على اختلاف مشاربهم وظلت كلماته تنساب عذبة رقراقة تنبض بالحياة ؟ لماذا تفوق نزار قباني على اقرانه من شعراء عصره ولمع نجمه في سماء الشعر العربي كشاعر كبير ؟وفي هذا الخصوص يقول نزار قباني : " ان احلامي منذ البداية كانت دائماً ان اكون شاعراً باتساع هذا الوطن العربي من المحيط الى الخليج ... لم اكن شاعراً متواضعاً كانت طموحاتي بحجم الوطن العربي وعملت بصمت رويداً رويداً حتى استطعت ان اصبح شاعر هذا الوطن الكبير " ويتابع نزار القول : " إن الشاعر يجب ان يبقى دائماً متربصاً كثعلب في غابة، والا يتحول الى حيوان منزلي اليف فالكتابة هي عمل انقلابي ، هي تغيير ولاتوجد كتابة لاتؤمن بحركة التغيير بل تؤمن بأن الشعر هو تفجير لرؤى جديدة قادراً على التقاط ادق تفاصيل الحياة" ويردف قائلاً : »لايمكن للشعر ان يكون شاهد زور".وفي ضوء ما تقدم يمكننا ان نقول ان نزار قباني قد استطاع ان يوجد لغة شعرية جديدة آخذاً من الاكاديمية رصانتها ومن اللغة العامية حرارتها فاخرج لغة يمكن ان نسميها مجازاً " لغة ثالثة" هي من السهل الممتنع وفي هذا السياق يقول الشاعر نزار قباني : " انا لا اؤمن بالشعر الطبقي الذي يكتب لطبقة برجوازية او عالية او الصفوة من المثقفين والقراء انا كسرت طبقية الشعر وجعلته في متناول الجميع".وقال كذلك : " انا عممت الشعر العربي حيث لم يعد كمالياً اوترفاً بل اصبح يقرؤه ويفهمه شرائح مختلفة من الطبقات الاجتماعية وعلى مختلف الثقافات " لهذا استطاع نزار قباني من خلال اشعاره ان يوحد بين الطبقات على فهم ومحبة وتذوق شعره واستطاع كذلك ان يخلق لغة جديدة يصل بها الى معادلة لغوية لايحتاج المرء فيها الى قاموس فنقرأ مثلاً مقاطع من قصيدة له بعنوان (الشفة):منظمة مزقزقةمبلولة كالورقةسبحانه من شقهاكما تشق الفستقةكم قبلة زرعتهاعلى فم كأنماخلاقة ماخلقهفعلاً ان كل من يقرأ ويتابع شعر نزار قباني ،يستطيع ان يجد فيه البساطة دون تعقيد ويفهم المعنى المقصود الذي يرمي اليه الشاعر .. وبهذا الصدد يقول نزار : " انا لم اكتب شعري للخاصة، بل كتبته لكي يقرأه مئتا مليون عربي"وهذا إن دل علي شىء فانما يدل علي ان نزار قباني بعد رحيلة ترك فراغاً كبيراً ،لما له من بصمات واضحة وبارزة على صعيد الشعر العربي المعاصر .. ورحيله ايضاً اعتبر كارثة قومية فقد فيها العرب شاعراً متميزاً ومؤثراً استطاع ان يصل الى قلب ووجدان كل قارئى ومثقف في الوطن العربي على الرغم من اختلاف بعض النقاد حول شعره وحول بعض المفردات التي يوردها في قصائده .وبعد كل ماتقدم يمكننا ان نعود الى البدايات الاولى عند نزار قباني ومن هذه البدايات نجد ان نزاراً كان متعدد المواهب الابداعية وقد تشكلت معه منذ نشأته الاولى وكان لها دور كبير في تحديد ورسم مسار حياته الابداعية ،حيث بدأ اولاً بممارسة هواية الرسم بالألوان ،ثم اقلع عنها ليقينه انه لن يكون رساماً من الدرجة الاولى وهو لايطيق.. ذلك لايطيق ان يكون رساماً من الدرجة الثانية او الثالثة،ثم انتقل الى ممارسة الموسيقى ولكن هي الاخرى هجرها وهكذا حتى وجد ضالته في الشعر وعلى اية حال اليس الشعر رسماً بالكلمات ؟ اليس الشعر موسيقى؟ لذا نجد أن الموهبة عند نزار قباني تألقت مع الشعر بعد ان جرب هذه الموهبة في الرسم والموسيقى الا انه رغم ذلك فان (نزار) قد مارس الهوايتين في الشعر ،فكان الشاعر واصبح كما يريد شاعراً متالقاً .. فمزاج والده كان مزاج شاعر وهو طاقة شعرية كامنة وجدت تحققها في ابنه نزار والى جانب ذلك ايضاً وضمن تشكله ونضوجه الابداعي تاثره بوجود استاذه في الكلية العلمية الوطنية ( خليل مردم) وهو الشاعر الدمشقي العربي الكبير .. فمن حسن حظ نزار ان الشاعر خليل مردم كان استاذاً في فترة حرجة من حياته،هي فترة التحصيل والتكوين والتشكيل فقلما يتاح للطالب العادي ان يكون استاذ الادب في مدرسته هو شاعر وناقد واديب كبير يمتزج الشعر والادب بكيانه، فكل تلكم العوامل التي ذكرت( الوالد،الاسرة، المعلم والمكونات الثقافية الاخرى) ساهمت اسهاماً كبيراً في تشكيل نزار قباني كشاعر في اواخر الثلاثينات ،ثم تألقه في سماء الشعر العربي كشاعر كبير..نزار ولغة جديدة للشعركان لظهور نزار قباني - كشاعر تأثير كبير علي صعيد الشعر العربي ،حيث استطاع بموهبته وقدراته الابداعية الفذة ان يشكل حالة شعرية متفردة عن بقية شعراء جيله وهذا التفرد تجسد في خلق لغة جديدة وجميلة في الشعر لم يألفها القارىء العربي من قبل فأتت كلمات ومفردات جديدة في نصوص شعرية جميلة حتى اختياره لعناوين دواوينه كانت غريبة و جديدة وقد تتسم بالتحدي والمغايرة في الوقت نفسه.. ومن هذه العناوين على سبيل الذكر لا الحصر : ( قالت لي السمراء ،سامبا،الرسم بالكلمات وطفولة نهد) والاخير اثار كثيراً من الجدل ،بل وصل الى حد الرفض عند صدوره لاول مرة.. وديوان (طفولة نهد) كان الديوان الاول لنزار قباني.ومن احد دواوينه نجتزىء بعض المقاطع التالية:ثوري .. احبك ان تثوريثوري على شرق السبايا والتكاياوالبخور ثوري وانتصريوحطمي الوهم الكبيرثوري على شرق يراك وليمة فوق السريرفي هذه المقاطع يبرز نزار نظرة الرجل الشرقي لوضع المرأة العربية التي ينظر اليها نظرة ضيقة تنحصر بالجنس وباعتبارها للمتعة فقط دون النظر لها من زوايا اخرى مشرقة واكثر انسانية وايجابية ويدعوها هنا للتحرر من عبودية الرجل واجباره على احترامها ككائن اجتماعي.نزار قباني والمرأةكان نزار قباني من اكثر الشعراء اتساعاً وجرأة لانظير لها في معالجة موضوع قضايا المرأة.. فقد اطلق عليه النقاد " شاعر المرأة والحب" حتى التصق بنزار قباني هذا اللقب عند الحديث عن شعره وقد بلغ عدد دواوينه تقريباً عشرين ديواناً معظمها يدور حول الحب والمرأة التي شغلت حيزاً كبيراً في دواوينه .لذا يعتبر نزار قباني من اكثر وافضل الشعراء الذين تحدثوا وعالجوا قضايا المرأة والحب كثيراً في مختلف النواحي ولهذا فقد كان لقب نزار بشاعر المرأة في المرحلة الاولى يسليه ،ثم اصبح لايهتم به كثيراً ،لكنه في المرحلة الاخيرة اصبح يزعجه ويؤذيه .. وفي هذا الخصوص قال نزار قباني : " ان هذا اللقب تحول من نعمة الى تهمة ،ومن وردة الى رمح مزروع في خاصرتي".ومرة سُئل نزار قباني : لماذا تكتب عن المرأة ؟ وكان يجيب بمنتهى البساطة ( لماذا لا اكتب عنها ؟ ) وقد اعترف نزار بكل صراحة " ان قصيدة (نهداك) التي وردت في مجموعة (قالت لي السمراء) كانت بمثابة الشرارة الاولى التي اطلقتني وكانت المفتاح الى شهرتي".ملهمتا نزار قباني1- بلقيس صديقة شعري:كانت بلقيس الراوي زوجته الثانية، على مدى اثنتي عشرة سنة شريكته في السراء والضراء حتى وافتها المنية في اواخر عام 1981م حيث كانت تتميز بطيب شمائلها وخصالها وبقيم روحية وانسانية وكان حزنه على هذه الحبيبة والملهمة يفوق تصوره واحتماله فقد كان لها الفضل الكبير - كما يقول نزار قباني عنها - في ترك نار الموهبة الشعرية متأججة دائماً في حياته ،والدليل على ذلك قصيدته الشعرية الرائعة والذائعة الصيت التي يقول فيها :هل تعرفون حبيبتي بلقيس ؟فهي اهم ماكتبوه في كتب الغرامكانت مزيجاً رائعاًبين القطيفة والرخامكان البنفسج بين عينيهاينام ولاينام2- بيروت: اما الملهمة الثانية لنزار قباني فقد كانت مدينة بيروت هذه المدينة التي سكنها وعاش فيها بشكل متواصل طوال عشرين عاماً منذ اوائل الستينات وكانت مدينة بيروت بالنسبة له هي توأم دمشق .. وفي بيروت - كما في بلقيس- كتب اجمل القصائد فعشقه لبيروت التي سماها (ست الدنيا) ماكان له مثيل وعندما سُئل عن السبب كان يقول " لا ادري ماذا فعلت بي هذه الدنيا .. ماذا وضعت في فنجان قهوتي ..حتى انبهرت لا ادري كيف دخلتها على هيئة انسان وخرجت منها على هيئة كتاب.." وبسببهما معاً اخذ قلبه الكبير يتعب شيئاً فشيئاً منذ بداية الثمانينات الى أن انطفأ نوره فجر الثلاثين من ابريل عام 1998م وهو في قمة عطائه الابداعي لذا لم يكن بمستغرب ان يكون نزار قباني محباً لشعره عاشقاً له ومدافعاً عنه الى ابعد الحدود فالشعر هو الاول عنده، شعره هو صورته ومادته ونهجه وظاهره وباطنه ان كل عصر من عصور الادب له خصائصه وشخصيته المتميزة ونزار قباني وجد في عصر استطاع هو نفسه ان يوجد مدرسة شعرية خاصة به لها اسلوبها المتميز بالجرأة والتمرد والصراحة وقد صدق الشاعر والكاتب المسرحي الدانماركي فردريك ديرنمات عندما قال : ان الشعر هو محاوله للسيطرة على العالم بالكلمات.