نهلة عبدالله مما لاشك فيه أنّ جهودَ الرواد الأوائل في قضية ثقافة الطفل أمرٌ له دلالة كبيرة باعتبار أنّ ثقافة الطفل جزء من الثقافة الإنسانية عامة .والأدب الشعبي يعتبر من أبرز وجوه هذه الثقافة، من هنا جاء الاهتمام بالحكايات الشعبية، والأحاجي الفلكلورية، إضافة إلى الأهازيج والأغاني والقصص والأساطير. و(اليمن) خصوصاً تتمتع بمخزون هائل من الموروث الشعبي الذي يدخل تحت مصنف مأثورات الثقافة الروحية، ولكن للأسف ظل هذا الجانب على وجه الخصوص مغيباً لعدم اهتمام الاستعمار بجوانب الاستفادة من القيمة الفنية والأدبية والجمالية لهذا التراث الذي تميزت به (اليمن) من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وعلى الرغم من ضخامة الموضوع وأهميته تحمل الرواد من الكتاب والفنانين في "عدن" مسؤولية الاهتمام بتعميق الهوية الوطنية والقومية لأبناء هذا الشعب، وبمفهوم علمي أدق سعوا باتجاه تكوين أسس أدبية وفنية ترتقي بثقافة الطفل؛ لأنّ تخلف الخدمة الثقافية لهذه الفئة في المجتمع قد يخلق العديد من المشكلات في المستقبل؛ واعتقد أنّ الجهود الفردية للشعراء لطفي أمان، إدريس حنبلة، أحمد شريف الرفاعي، والإعلاميين علوي السقاف وعديلة إبراهيم، عبدالرحمن باجنيد، أشرف جرجرة، والتربويين عثمان عبده، والعلامة الشيخ عبدالله حاتم، والفنانين أولاد فقيه حسن وحسين وفتحية الصغيرة، وصباح منصر، وأمل بلجون، والفنان الموسيقار أحمد قاسم - نهضت بمسألة تقديم نتاجاتهم الأدبية والإبداعية في الإذاعة وكتب المحفوظات والتلفزيون، وقد كان لها مردودها الإيجابي بما تضمنته من رؤى وتفاصيل وتنويعات تعبيرية لها سمات مشتركة مع أدبيات الأدب الكلاسيكي المدرسي، وانطلاقاً من هذا المفهوم قد يبدو جهد الشاعر (لطفي أمان) شديد الطموح؛ لأنّ مشروعه لمحفوظات الأطفال بإمكاناته المتواضعة قد وضع في اعتبار أهمية إخراج أول مطبوعة لنصوص الأطفال من معطف الشعراء العرب الذين كتبوا للأطفال وتميزت كتاباتهم بالطابع العروبي وبالقيم الجمالية الحميدة، وبأشعارهم المبسطة المعتمدة على الأوزان القصيرة وعلى التركيب المبسط للجملة، والاهتمام بالإيقاع، الابتعاد عن الضرورات الشعرية، التنويع في الأوزان والقوافي.. وبما حظيت به هذه النصوص من رسومات جديدة من وحي البيئة (العدنية) بنكهتها وملمسها (الكموزموبوليتاني) على هذا النحو تحمل الشاعر (لطفي) هذه المسؤولية ليس بحكم المهنة التربوية فحسب وإنّما لأنّه هو وأقرانه من الشعراء التربويين خاصة كانوا أقرب الناس لهذه الفئة؛ لأنّهم بطبيعتهم لا يضيقون ذرعاً بمسؤولياتهم من منطلق الاهتمام بكتاب الطفل.ومن هذه المقدمة خرجت ثلاثة كتيبات لمحفوظات الأطفال من معطف (لطفي أمان) والذي أدرك ضرورة إخراج هذه النصوص بات مرتبطاً بشروط الطباعة أقلها الحرف المناسب والرسمة المصاحبة للنص، وقد تكون محفوظة(غنِ غنِ يا عصفوري) في مقدمة النصوص التي بلغت الذروة دليلاً على وصول الشاعر إلى وزن (فريد) بحاسته الشعرية الفريدة.ولا شك أنّ هذا النص في قوة النصوص العربية الشهيرة وقد لا تحتاج هذه المقولة إلى برهان لتكون المقارنة جائزة يكفي تميزها وانتشارها بين الأطفال آنذاك. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر (إدريس حنبلة) كانت له بصماته مع شعر الأطفال ومما بلفت في نظم هذا الشاعر اهتمامه بالحكمة والموعظة وقد جاءت معظم أشعاره بنفس قومي ووطني جارى في ذلك الشاعر سليمان العيسى في القطر السوري الشقيق.وقد وضع هؤلاء الشعراء في الاعتبار مسألة الاختلافات بين الأطفال في المراحل العمرية لذات السبب استهدفت أشعارهم في الغالب (الأطفال) في السنوات العمرية الأولى (الابتدائية) لتكوين حصيلتهم اللغوية، وتعويدهم على القراءة بالتدريج، ولكل هذا تأكدت الحاجة إلى ضرورة التأليف للأطفال في مختلف مجالات ثقافتهم وبمعنى أدق بدأ الشاعر (أحمد شريف الرفاعي) بكتاب الأوبريتات الإذاعية والتمثيليات القصيرة والاستكتشات الغُنائية على مراحل تمشياً مع مفهوم الإسراع بتقريب المسافة الحضارية ومواكبة أطفالنا للأطفال العرب فكتب تفاحة، وبنه والعنزات الثلاث. وغنى الموسيقار أحمد قاسم (آيسكريم يا ملاي) وغنوا أولاد فقيه حسن وحسين وفتحية الصغيرة (أوبريت البالونة)، وتحمل الإعلامي المعروف (علوي السقاف) مسؤولية إعداد الكادر الفني الذي يناط به إدارة برامج الأطفال وكان (بابا علوي) على درجة كبيرة من الفهم لطبيعة العمل الفني مع الأطفال وكانت ماما (عديلة بيومي) قادرة على حب الأطفال والتعامل معهم، واعتقد أنّ الجميع أبدعوا في تقديم كل ما لديهم باعتبار أنّ القضية تتعلق بمستقبل الطفل.بالطبع ثقافة الطفل جزءاً لا يتجزأ من تكوين ثقافة الإنسان التي هي امتداد للتراث الثقافي الإنساني بصورة عامة.. إذن ثقافته تعتبر حصيلة للتفاعل بين الآداب والفنون، كمفاهيم تركيبية تصف منجزات البشر، فكان لابد من الاهتمام بالتشكيلة الثقافية التي تستهدف الطفولة في مراحلها العمرية الابتدائية من خلال القراءة، المشاهدة، الاستماع واللعب.وأعتقد أنّ الاتفاق المبدئي على ضرورة تعاون الكادر المثقف مع الاستعانة بالخبرات المعروفة ممن خاضوا تجارب ذات قيمة في مجال أدب وتربية الأطفال من أبناء الوطن الذين هم أقرب إلى فهم ظروف ودوافع الطفل، ويمكن أن تثرى اهتمامه وانتباهه أو ما يمكن أن يؤثر فيه إلى غير ذلك، لضمان استمرار تدفق تيار الخبرة والإبداع وإثارة الحماس بالعمل مع الأطفال ولخدمتهم المباشرة، إضافة إلى توافر كثير من المسائل التي لابد من معرفتها لتشكيل معرفتهم وإيصال المادة الفنية والثقافية التي ستقدم إليهم إذاعياً وتلفزيونياً وتربوياً ومسرحياً، ولأنّ البداية كانت صحيحة والواقع مبكراً؛ فإنّ ذلك وفر كثيراً من الجهود المبعثرة التي أسفرت عنها التجربة الناجحة التي شارك في صنعها أدباء وشعراء وفنانون ينفذونها بأقلامهم وريشهم بعد أن كان من يكتب للأطفال يستعين باسم مستعار، وبما أنّ الثقافة الشعبية، هي المصدر الأساسي الذي يرتكز عليه أدب وثقافة الطفل اليمني، لم تنحصر بالأحاجي والقصص بل بالسيرة التي نجدها في نماذج من حكايات التراث الشعبي اليمني ونسمعها على ألسنة الرواة الشعبيين في (عدن) والمداحين وعازفي الربابة. ومنها.. جليلة والجساس، وعنترة، حمزة البهلواني، علاوة على ما يصاحب سير هذا النشاط الثقافي من أعمال أخرى فكاهية وهزلية (للأرجواز) الذي نستخلص منه الدروس والعبر المتعلقة بالمرأة العاصية أو الخائنة، وبالزوج البخيل أو الغيور. ويتميز الأراجوز في عدن بدوره الموجه إلى الأطفال بحكم طبيعته الاجتماعية وقدرته الساحرة على التأثير وعلى إحداث التفاعل الخلاق بين الطفل وبين العمل الفكاهي وكثرة هذه الأعمال التي كنا نشاهدها في المواسم والأعياد وأيام الإجازات والتي غالباً ما تكون موجهة أو مصلحة، بل وراجعة إلى مفاهيم اجتماعية ودينية و(وطنية) والأخيرة كانت دائماً تسعى إلى تصحيح كثير من المفاهيم عند الأطفال وملاحظ مدى ما وصلت إليه محاربة الأهالي ورفضهم للاستعمار والرغبة في التغيير والخلاص من الاحتلال وبالطبع الطفل كمتلقٍ يجد نفسه بشكل أو بآخر منتمياً إلى العرض ومستمتعاً فيه. ولكن ماذا عن السياسة الاستعمارية نفسها وكيف استطاع الاستعمار أن يرسم معالمها في هذا الاتجاه؟كان الاستعمار في سياسته الثقافية يستورد الكتب والمجلات التي تخدم أفكاره ولنضرب مثلاً مجلة (أحمد وجوني) التي تهدف إلى ربط العَلاقة بين أبناء المستعمرات، خصوصاً وأنّ الطفل سرعان ما يألف جيداً الأشياء التي تدور من حوله، كذلك المنهج لا تخرج مواده عن إطار تمجيد دور الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فالجغرافيا تدرس طبيعة مُناخ إنجلترا وتضاريسها، وآدابها تفوق النصوص العالمية والتاريخ بدلالته الاستعمارية ينطوي على رسالة ويمتزج فيها الدرس بكثيرٍ من التقليل للشأن العربي؛ لأنّه يستمد موضوعه من تاريخ الأسرة المالكة وعلى أية صورة يفترض أن يُربى أبناء المستعمرات، كذلك انتشرت مجلات (الكومكس) و(الكوفيك) بكثرة لما لها من تأثيرات سلبية على تغذية تطلع الطفل إلى القراءة.وعلى هذا الأساس لابد أن يكون واضحاً لدى أبناء الوطن دور الرجل الأبيض ومعجزاته الدائمة في غابات سهول وجبال وبحار آسيا وأفريقيا، كما يحدث في محلات تان تان. [c1] فما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور بها شكل المواجهة أو المجابهة؟[/c] للإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نضيف عدداً من الأمور لتكملة ما تحدثنا عنه، حول التجرِبة الإبداعية المتعلقة بالدور الأدبي والثقافي الخاص بثقافة الطفل والاتجاهات التي أسسها أو فعلها الأدباء والكُتاب والمثقفين في حدود مسؤوليتهم الوطنية والقومية وتحديهم للسياسة الاستعمارية شكلاً ومضموناً.وعلى ضوء كل ما سبق من اعتبارات كان لابد من إعداد الأطفال بطريقة تساعدهم على فهم الواقع والتاريخ والبطولة العربية والوطنية وعلى تشكيل جوهر المواطن الصالح داخل الطفل والذي يجعله يحس بعظمة قضيته والاعتزاز بوطنه. [c1]فغنوا الأطفال في عدن :بابا جاب لي هدية دبابة وبندقية[/c] وغلب هذاالمعنى أيضاً على الجوانب الأخرى التي انعكست على ألعاب البنات والأولاد مثلاً (لعبة) : [c1]من فين بدخل صعبة / عليكمن فين بخرج / صعبة عليك[/c] وهذا يدل دلالة واضحة على أنّ هذه الألعاب والأغاني لها مغزاها وغايتها وأنّ الواقع في ظل الصراع بين الشعب والاستعمار من أشق المهمات وأكثرها صعوبة وتعقيداً، أمام الحركة الوطنية اليمنية التي كانت مهمتها بالدرجة الأولى التصدي لقوة استعمارية زرعت قواعدها على طول وعرض بلادنا وبنت حسابها على بقاء الاحتلال لاستمراره وربط البلاد بترتيبات إستراتيجية عسكرية رهيبة، وضمن تلك الظروف التاريخية التي كانت تعيشها بلادنا تحدد الأخذ بأسلوب الكفاح المسلح، كشكل رئيس من أشكال النضال ضد الاستعمار، وركائزه كافة، فانتزع الاستقلال في 30 من نوفمبر عام 1967م، والذي أسفر عن جلاء أضخم قوات عسكرية للاستعمار البريطاني في الشطر الجنوبي من الوطن آنذاك ويمكن لنا أن نستخلص دلالات هذه البهجة أدبياً وثقافياً بالجلاء. [c1]وفي موجة من الحماس غنوا الأطفال :- ذاهب للدرس، لكن ناوليني البندقيه- ثورتي إلى المجد هيا اصعدي- في النصر عاش القلم فوق الوطن يحيا العلم فرحة كبرى بيوم النصر كانت يوم عيد لله أكبر يا بلادي هللي نصرك أكيد[/c] ولم يكن تمر مناسبة وطنية من دون إصغاء في مختلف أرجاء الوطن بدافع الحب والرغبة في التعبير عن فرحة الشعب. ومع الزمن فقدت معظم هذه النتاجات فظل معظمها طريقه، فلم تهتم الدولة أدنى اهتمام بها بل وشطب أغلبها تارة لحجة المحلية وأخرى بالظروف القائمة آنذاك وتناقضاتها الرئيسية والثانوية. [c1]هوامش : [/c](1) لا شك أنّ أمير الشعراء أحمد شوقي أول من ألّف أدباً للأطفال، بعد عودته من الدراسة بفرنسا، فكانت تجرِبة شوقي تدشيناً على مستوى الكتابة للأطفال العرب قاطبة.نظم للأطفال على أسلوبه وطريقته الجديدة التي أصبحت معروفة في ديوانه الشوقيات. (2) لطفي أمان/ نصوصه الخاصة بالطفل هي عبارة عن جهد تجميعي فكانت أقرب ما يكون إلى نفسيتهم والذي لا يخفى أنّ له محفوظة واحدة من تأليفه بعنوان (غنِ غنِ يا عصفوري).(3) جيل الرواد في عدن كان متأثراً بالقصص الشعبية العربية - وبالشوقيات وبقصص كامل الكيلاني ومحمد عطية الإبراشي ومحمد عز العرب، وفرج الجمل، علي الهراوي محمد عثمان جلال.(4) في العقد السادس من القرن العشرين كان ظهور بوادر الكتابة للأطفال نظماً ونثراً في عدن.(5) وان لظاهرة المسرح المدرسي تأثير واضح على حركة الكتابة للأطفال في عدن.(6) وأكثر ما يُلاحظ في تمثيليات إذاعة عدن الخاصة بالأطفال أنّها على جانب كبير من السلاسة والوضوح وأنّها تتناسب والمراحل العمرية للسنوات الأولى وصولاً إلى سن الناشئة.. يعني من الأول ابتدائي حتى الثانية عشرة.(7) معظم محفوظات (لطفي أمان) للأطفال كانت مأخوذة من سمير الأطفال للبنين (بتصرف).(8) يقال إن الإعلامي (علوي السقاف) كان يلحن معظم الأعمال الإذاعية للأطفال وان عازفاً جيداً للعود ويُقال أيضاً أنّه تعلم العزف على يد خاله رحمه الله.(9) من ضمن المغنيات في أوبريت تفاحة، وبنه (رجاء حامد عبدالغني).(10) الأراجوز عُرف بعدن بالكركوس.(11) اختفت مظاهر الثقافة الشعبية وقل الاهتمام بها بتطور برامج الأطفال في التلفزيون. [c1] المراجع : [/c]1 ) في أدب الأطفال الدكتور علي الحديدي مطبعة الأنجلو 1990م.2 ) المحفوظات الابتدائية الجزء الأول. 3 ) لطفي أمان/ نشر وتوزيع مكتبة الجيل الجديد (عدن). (12) الشعراء العرب الذين كتبوا للأطفال واستعان الشاعر (لطفي أمان) بأشعارهم :محمد الهراوي، عادل الغضبان، عبدالعزيز عتيق، فايد العمروسي، محمد ابي بكر إبراهيم.(13) معظم أغاني الأطفال هي في الأصل للكبار أقصد الأغاني الخاصة بالثورة والاستقلال كان يرددها الأطفال دائماً. - الصحف : صحيفة 14 أكتوبر العدد (13187) والعدد 13506، وصحيفة الاتحاد 27 مايو 1991م.
|
ثقافة
في ثقافة الطفل قبل وبعد الاستقلال
أخبار متعلقة