حمد الماجد :ما أسعد حظ «القاعدة»، قادتها مختفون مختبئون غائبون مترقبون هائمون على وجوههم لا يعرف أحد أية سماء تظلهم ولا أية أرض تقلهم، تفاهمهم بينهم بالشيفرة، وحديثهم في مجالسهم بالإشارة، وصراخهم في كهوفهم بالهمس، تسلطت عليهم أكثر أسلحة العالم المتقدم فتكا، وترصدت لمراقبتهم أكثر أجهزة التجسس دقة، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لسان حالهم يقول إذا (نزل القضاء ضاق الفضاء)، كوادرهم وأتباعهم في غياهب السجون أو مثل حال قادتهم في التيه الذي لا يعرف أحد نهايته ، ومع ذلك فما أن تثور في العالم كله ثائرة أو يدبر تفجير أو تزرع قنبلة أو تتمرد حركة حتى يجير «الإنجاز» للقاعدة ، غنيمة باردة، أشبه بالثعبان الأعمى الجائع الذي كلما فتح فمه وجد على أسنانه طائرا تائها فقضمه.ما إن قادت «فتح الإسلام» حركة التمرد الأخير في النهر البارد في الشمال اللبناني حتى سمعنا من ينسبهم إلى «القاعدة»، وفي العراق نسبوا معظم ضربات المقاومة الموجعة ضد الاحتلال الأمريكي إلى «القاعدة»، وبسرعة جعلوا «المحاكم الإسلامية» في الصومال التي قضت على أمراء الحرب وضبطت الأمن من «القاعدة»، ولا تسأل عن حوادث التفجير التي تجري في الدول العربية والغربية كلها أتوماتيكيا مجيرة لرصيد «القاعدة». أنا لا أنفي ولا أثبت ولكني أطالب بالتريث والدراسة المهنية المتأنية لأية ظاهرة وأي حدث.«القاعدة» ضربت البرجين الأمريكيين في مانهاتن، لكنها أقامت بعدها بروجا مشيدة من «الإنجازات» التي نسبت لها وهي أضعف من أن تقوم بهذه الأعمال الضخمة في ظل ظروف الملاحقة والمطاردة والاعتقالات والاغتيالات. ثمة تشابه كبير بين الطريقة العربية في نسبة مشاكلنا وخلافاتنا وحروبنا وصراعاتنا وإسقاطاتنا إلى المؤامرة اليهودية، وبين نسبة كل أعمال العنف والتمرد والتكفير والتفجير والحركات والتوجهات والاغتيالات إلى «القاعدة»، حتى وصل تخبط المحللين إلى درجة الدعوى بوجود علاقة بين «حزب الله» الشيعي وخصمها اللدود «القاعدة» التي تنسب نفسها إلى الاتجاه المعاكس: السلفية الجهادية، بل ذهب بعض المتخبطين الأمريكيين إلى الزعم بوجود علاقة حميمية تحالفية بين «القاعدة» ذات التوجه الإسلامي المتشدد وحزب «البعث» ذي التوجه العلماني المتطرف وتذكرون أن هذه إحدى مسوغات الاحتلال الأمريكي للعراق!وما أزال أتذكر حين قاد جهيمان حركة «الخروج» الإرهابية الدموية في الحرم المكي عام 1980 وهي أيضا كانت تنسب نفسها إلى «السلفية»، هل تصدقون أن هناك من المثقفين والمحللين من نسبهم إلى «جماعة التبليغ»، لمجرد أنهم ملتحون معممون يستاكون عرضا ويدهنون غبا! ونحن جميعا نعلم أن جماعة التبليغ ليس في مفردات منهجها كلمة جهادية واحدة، ناهيك من أن يجعلوا الجهاد من ضمن ممارساتهم التطبيقية، بل لا أبالغ إذا قلت ان أعضاء في هذه الجماعة كانوا يتجولون على عدد من المساجد في أفغانستان إبان حركة الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال الشيوعي السوفيتي، والمعارك بين المجاهدين الأفغان والشيوعيين على بعد أمتار منهم وأفرادهم يكتفون بإلقاء المواعظ والتذكير بالرقائق، حتى أن أحد العرب الأفغان ذكر لي أنهم حاولوا إقناعه للخروج معهم في جولاتهم الوعظية الدعوية!(أحمد بن حنبل مؤدلج) هذه وجهة نظر زميل أكاديمي، ولكني أضعها في سياق هذه الأغلاط التي ترتكب في دراسة الظواهر التي تطفو على سطح عالمنا العربي ومنها نسبة كثير من الأعمال للقاعدة وهي لم تسمع عنها إلا في الأخبار مع بقية المستمعين، وسنسمع في المستقبل من يحلل بأثر رجعي فينسب الإمام الذهبي إلى «الإخوان المسلمين»، وابن تيمية إلى «الوهابية»، والعز بن عبد السلام إلى «السرورية» والإمام ابو حامد الغزالي إلى «التبليغ»، وتظل النظرة إلى «فتح الإسلام» التي فتحت علينا المشاكل في لبنان حلقة في سلسلة هذه التخبطات الكثيرة والكبيرة.[c1]نقلاً عن صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية [/c]
رؤية لـ «القاعدة» من أعماق «النهر البارد»
أخبار متعلقة