هل سئم محمود درويش من القضية؟
كتب: د. أسامة عثمان الشعر أبعد الأجناس الأدبية عن الإلزام؛ لأنه ألصقها بالذات، وحينما تغنى شعراء فلسطين بفلسطين، وحملوا قصائدهم ثقل القضية، لم يكونوا يفعلون ذلك، إلا لأنهم تماهوا فيها، وأصبحت المكوِّن الأهم من مكونات شخصياتهم الفكرية، والوجدانية. إذ كيف لشاعر مثل محمود درويش ـ ولعله الأكثر تمثيلاً للشعر الفلسطيني ـ أن يعزل شعره عن فلسطين، وقد وقعت عليه، في بدء الحياة، واختلطت مأساتها العامة بمأساته الفردية الخاصة؟! لقد دخل العام في الخاص؛ ولما أدرك ذلك، واستوعبه، وعبر عنه، شعراً، رأى فيه أقرانه في الفلسطينية لسانهم الأصدق، وصوتهم الأعلى، والأنضج فنيا، ووجدانيا. وحينها اتسع درويش بوسع فلسطين، الوطن، وغدا شعره عالياً بعلو صوت القضية.ولما انتكست الأوضاع العربية، وتراكمت الانتكاسات المؤلمة، عربية، وفلسطينية، ماذا حدث لمحمود درويش، أو ماذا أصاب شعره الفلسطيني المقاوم، بالمعنى الأوسع للمقاومة؟ لقد عبر درويش عن تعبه من حمل عبء القضية شعرا، وانتحى جانباً، بشعر يبدو أقرب إلى الذات، متخففاً من القضية، ومقتربا من الذات الفردية، وأوجاعها، وشجونها. كما قد يمثل لذلك في مجموعاته الأخيرة، (كزهر اللوز، أو أبعد) و(سرير الغريبة)و(أثر الفراشة). وهنا يثور سؤال: هل التغني بالقضية الفلسطينية، شعرًا، يتسع؛ ليطغى على كل المساحات الشعرية؛ فيلغي ما لم يكن شديد الإخلاص له، وشديد الاحتفال به؟ لا دليل نظريا يدعو إلى تصديق هذا الظن؛ فما المانع من الناحية الشعرية الخالصة أن تنطوي نفسُ الشاعر، وتجربته على الوطني العام؟ وإن كان مع عمومه، شديد الاستجابة لنداءات الذات الفردية الموجوعة بوطنها، تماما كما يمكن أن يصدر عن الشاعر في لحظة شعرية معينة شعر عاطفي، ثم لا يمنع نفسه أن تفيض بشعر ديني صوفي، مثلا، بل إنهما قد يندمجان، على سبيل الاستعارة والرمز، كما في الشعر الصوفي، عند شعراء العرب، كابن الفارض، وغيره. كما يتداخل الوطن والمرأة, معا, في الشعر الفلسطيني الحديث، والعربي, كذلك؛ فالمناطق الوجدانية، داخلَ النفس الشاعرة مفتوحة، وخيوطُها متشابكة متفاعلة على ما يبدو. وسؤال آخر: هل حين عبر درويش عن تعبه من حمل القضية شعرياً، كان يتخذ قراراً باتاً، وواعياً، أم لعله كان احتجاجاً، يعبر به عن شيء من إحباطاته، وخيباته، أو أنه، وقد أفرط في التماهي مع الهم الوطني، حتى نسيان الفردي الشديد الخصوصية، أراد أن ينتصر لتلك المناطق التي ظُلمت، وقد يكون - وهذا ما صرح به درويش - قد استاء من حصر شعره بالقضية الفلسطينية، والنظر إليه بوصفه المدافع عنها، أو الممثل لها، دون أن يحفل النقد بتجربته الشعرية الجمالية، كما ينبغي، ودون أن يقيسها بمقدار ما أضافته، على صعيد الشعر.ومن يتصفح كتابات درويش الأخيرة، لا يجدها منبتةً، عن الشأن الفلسطيني، ولو أنه لم يتقصد ذلك، ولربما تقصد سواه، فهي مستقرة في لا وعيه، تتسلل في معظم حالاته الشعرية، وإنك تجده، وهو في حالة إنسانية عامة لا ينسى فلسطين؛ لأنها إنسانية، في المقام الأول، ومن ذلك مثلا، قولُه في نص (فكر بغيرك) من ديوان (كزهر اللوز، أو أبعد):وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك (لا تنس شعب الخيام)بالرغم من هذا النص إنسانيّ الاتجاه. .ولأن فلسطين السليبة، هي ذاكرة محمود الأكثر إيلاما، والأكثر إبهاجا، أيضا، فقد استقرت في نتاجه الذاتي، أيضا، كما يبدو في قوله:[c1]كنا طيبين وسذجاً. قلنا: البلاد بلادنا قلب الخريطة، لن تصاب بأي داءٍ خارجي[/c]وقد ظل درويش وفيا لفلسطين، ومتقمصا لها، حتى أيامه الأخيرة، كما في ديوانه الأخير:[c1]‘لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي’نحن من نحن، ولا نسألمن نحن، فما زلنا هنانرتق ثوب الأزلية...وطنيون، كما الزيتونلكنِا مللنا صورة النرجسفي ماء الأغاني الوطنية[/c]وقد يكون في هذا المقطع الأخير بعض الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان، أنَّ محمود درويش لم يسأم من القضية، بقدر ما قد يكون سئم من طريقة تناولها، أو من فرط الربط بينه شاعرا، وبينها، إلى حد الإتيان على كل شعر، يبتعد في مضمونه، عن التناول المباشر لفلسطين، كما قد يكون تأذى من الإجحاف الذي استشعره تجاه تجربته الشعرية، ومشروعه الجمالي، لصالح البحث عن المضامين الثورية، أو الوطنية في شعره؛ فلم يكن من الإنصاف، ولا من المقاربة الموضوعية للشعر أن يتم القفز عن أدواته، وتحولاته، الفنية، كما لو أنه خطاب غير أدبي، ولا شعري، أيضاً. وإذا كانت فلسطين اغتنت عن الشعراء وشعرهم، فإن الشاعر المطعون في وطنه، لا يغتني عنها؛ وهو حين يعبر عن ذلك شعراً لا يدعي أنه يقدم لفلسطين قرباناً، ولكنه لنفسه يستجيب، وعن نفسه يعبر.