سواء اكان العراقي مغفلاً أو عاقلاً، أحمق أو حكيماً، فإن في قلبه حكمة سومرية عمرها خمسة الاف عام تقول: “الأشياء التي تؤخذ بالقهر تصبح وسيلة للتحدّي”. وما أجرأ تحدّي العالم الشاب العراقي جميل الخليلي، أستاذ الفيزياء النووية في جامعة “سَرْي” البريطانية.. فقد ألقى الأسبوع الماضي محاضرة في أكاديمية العلوم البريطانية “رويال سوسايتي” موضوعها “بيت الحكمة” في بغداد. ولم أصدق عيني حين وجدت صف الانتظار الطويل في شتاء لندن القارس. فالمحاضرات في تاريخ العلوم لا تجمع في أفضل الأحوال أكثر من خمسين مستمعاً. فما الذي اجتذب هذا العدد الكبير من الناس الذين انتظروا أكثر من ساعة؟ هل يعود ذلك إلى أن المحاضرة كانت بمناسبة منح الخليلي جائزة “فاراداي» Faraday الرفيعة في العلوم؟ أم لأنه من نجوم العلوم في التلفزيون؟ أم لأن صورته معروضة ضمن 21 من مشاهير علماء بريطانيا المعاصرين في المتحف الوطني للوحات الشخصية “ناشينال بورتريه غالير ي”؟ أم لأنه معروف بالتحدي الذي جعله ينشر مقالة في صحيفة “الجارديان” عنوانها: “حان وقت الإشادة بالعلم العربي الذي سبق داروين ونيوتن”؟ لا أعتقد أن هناك تحدياً للمجتمع العلمي البريطاني أجرأ من إعلان عالم عراقي أن أبا عثمان الجاحظ، والذي ولد في القرن الثامن الميلادي في البصرة، اكتشف نظرية الانتقاء الطبيعي قبل تشارلس داروين بألف عام، وأن مؤسس علم البصريات لم يكن إسحاق نيوتن، بل سبقه في ذلك بسبعة قرون محمد بن الحسن بن الهيثم، المولود في البصرة أيضاً في القرن العاشر الميلادي، والذي يعتبره الخليلي أول عالم فيزياء في التاريخ، ومؤسس المنهج العلمي الحديث قبل علماء وفلاسفة عصر النهضة الأوروبية بقرون عدة، وأن علاء الدين بن النفيس، الذي ولد في دمشق في القرن الثالث عشر الميلادي اكتشف الدورة الدموية قبل وليام هارفي بأربعة قرون، وأن حسابات وجداول عالم الفلك السوري ابن الشاطر المولود في دمشق في القرن الرابع عشر الميلادي، اعتمدها نيكولاس كوبرنيكوس في اكتشاف المنظومة الشمسية. وقد يتساهلون مع الخليلي حين يقول إن المرجع الرئيسي في الطب في أوروبا خلال سبعة قرون كان كتاب “القانون في الطب” لابن سينا المولود في القرن العاشر في خوارزم بإيران، لكن كيف يوافقونه الرأي بأن الفيلسوف وعالم الرياضيات والفلك أبا ريحان البيروني، الذي عاصر ابن سينا، يستحق الذكر في قائمة “أعظم عشرة علماء في التاريخ” جنباً إلى جنب مع ليوناردو دافنشي؟ ولعلهم يتعاطفون مع العالم العراقي عندما اعترف بأن حنينه الشديد إلى طفولته الهنيئة التي قضاها في بغداد، حيث ولد عام 1962، قد تكون وراء مشاعر إعجابه بتاريخ العلوم العربية، ويفهمون اعتزازه بمشاركته الفكرية مع الخليفة العباسي أبي جعفر عبد الله المأمون، الذي شيد “بيت الحكمة”، والذي كان، حسب الخليلي، “أعظم مركز للتعلم عرفه العالم عبر التاريخ». لكن كيف يمكن قبول إعلان عالم عراقي “أن الثورة العلمية في العصر العباسي في بغداد ما كان يمكن أن تحدث لولا الإسلام”؟ لن يخفف من الصدمة، بل قد يضاعفها، اعتراف الخليلي بأن أمّه إنجليزية من أتباع الكنيسة البروتستانتية، فهو يذهب إلى حد تفضيل تعامل الإسلام مع العلوم، و”الذي يختلف تماماً عن المسيحية التي لم تملك عبر القرون الماضية، ما يماثل ذلك من التأثير في حفز وتشجيع الفكر العلمي الأصيل». ولم تسمح حدود الوقت ودواعي التهذيب الإنجليزي التقليدي بتوجيه أكثر من بضعة أسئلة، كان أهمها سؤال يتردد في كل مناسبة مماثلة، وهو “لماذا تأخر العرب والمسلمون في العلوم والتكنولوجيا”؟ في الجواب عن هذا السؤال ذكر الخليلي، والذي أكد أنه ليس مختصاً بتاريخ العلوم، أن بعض الباحثين يعتقدون أن الغزو المغولي لبغداد عام 1258م وضع نهاية العصر الذهبي للعلوم، فيما يلقي آخرون اللوم على العقيدة الدينية المحافظة التي دمرت روح الاستقصاء الفكري. لكن السبب الحقيقي، في تقديره، هو “التجزؤ التدريجي للإمبراطورية العباسية، ولامبالاة الحكام الضعفاء بالعلم». ولا أعتقد أن الخليلي المختص بالفيزياء النووية يجهل تعقيدات واحدة من أكبر معضلات الحضارة الإنسانية: صعود وانحدار العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي والإسلامي. وقد يكون بحكم بحوثه في “فيزياء الكوانتوم”، أكثر تأهيلاً من المفكرين السياسيين في فهم الطبيعة الملغزة لحركة المجتمعات العربية والإسلامية. فهذا العلم يستكشف باطن الذرة التي تكون مادة كل شيء في الكون، من أجسامنا الحية وحتى الكواكب والنجوم، وفيها قد تكون الأشياء جسيمات وأمواجاً، وفي موضع آخر في آن واحد، ولا يمكن تحديد وضعها وموضعها إلا بارتطامها بجسيمات أخرى تغيرها، أي بمقدار ما نعرف موضعها بدقة نصبح أقل معرفة، والعكس بالعكس. وإذا كانت الفيزياء النظرية هي الفلسفة الحقيقية، حسب عالم الفيزياء “ماكس بورن”، فلعل “فيزياء الكوانتوم” التي تتحدى الحدس والمنطق التقليديين، تساعدنا في تفسير التباسات المجتمع العربي والعراقي منه خاصة، والطبيعة المتناقضة لأفراده. وقد نجد مادة خصبة للتأملات السياسية والفلسفية في كتب الخليلي عن “الثقوب السوداء وآلة الزمان”، و”الأكوان المتوازية”، و”الرحلة إلى قلب المادة: النواة”، و”دليل المحتار إلى الكوانتوم”. وتاريخ العلوم العربية والإسلامية مرتبط أصلاً بتاريخ الفلسفة، وأبرز العلماء العرب والمسلمين كانوا فلاسفة. ويبدو العالم العراقي في بحوثه الأخيرة قريباً من هموم علماء عصر النهضة العربية الإسلامية. ففي بحوثه لتحويل نفايات محطات الطاقة النووية إلى طاقة، يستخدم بصراحة مفاهيم جابر بن حيان الذي كان أول من أراد تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. وفي بحثه عن “الأكوان المتوازية” يعرض مفاهيم علماء فيزياء الكون الذين يعتقدون بوجود أكوان أخرى، ويناقش المبدأ “الأنثروبي” القريب من الاعتقاد الديني بأن الكون مهيأ مسبقاً للوجود البشري، وإلا فإن هذا الوجود مستحيل حسب قوانين الطبيعة. وما لا يذكره الخليلي عن سبب تأخر العرب والمسلمين في العلوم والتكنولوجيا، لا يقل أهمية عما يقوله. فهو لا يركن إلى التفسير السطحي الذي تردده حتى المجلات العلمية البريطانية المرموقة حول دور انعدام حرية التفكير والتعبير والنشر. ويعرف العراقيون والعرب الذين خرجوا مع مليوني بريطاني إلى الشوارع محذرين من التورط في الحرب على العراق، قيمة وجدوى حرية التفكير والتعبير التي لم توقف كارثة قتل 150 بريطاني و4 آلاف أميركي ومليون عراقي. ألا تدلنا تلك الحرب على سبب مهم من أسباب تأخر العرب والمسلمين في العلوم والتكنولوجيا؟ أليست هي آخر فصل من فصول العلاقات العراقية البريطانية منذ أكثر من قرن، والعلاقات العربية الأوروبية منذ القرون الوسطى؟ المهمة هنا، كما يقول “إروين شرودنغر” عالم “فيزياء الكوانتوم”، “ليست في رؤية ما لم يره أحد بعد، بل التفكير في ما لم يفكر فيه أحد بعد حول ما يراه كل شخص آخر».[c1]عن / (الاتحاد) الإماراتية [/c]
اثار عراقية قديمة
الاحتلال الامريكي للعراق
الحضارة السومرية
رسم تصويري لاحلام عباس بن فرناس في الطيران