أبدع كلماتها الشاعر (بن عبود) وصاغها لحنًا المبدع (علي بن محمد)
منذ عشرة أيام خلت كنت جالسًا بين أولادي الثلاثة وأختيهم وأمهم في صالة المنزل أحتسي الشاي على الطريقة البخارية "الحضرمية" مع بعض قطع البسكويت المحلاة وفي خضم شقاوة الأولاد وإزعاجهم لي بما فيها اللعب بجهاز التحكم التلفزيوني "الريموت كنترول" أن ضغطت إحدى البنتين عشوائيًا الزر على قناة روتانا الموسيقية وسمعت وشاهدت صورة وصوت مطربة لم ألفها من قبل على الشاشة كانت تشدو بغنوة عرفت عندما سمعتها أن لحنها لحن حضرمي (عوادي) فطلبت من البنت عدم تغيير القناة ورفعت صوتي عاليًا فيهم أن يلتزموا الصمت حتى أتمكن من التركيز قليلاً حيث أحسست أنّ ذلك اللحن قريب إلى نفسي واعتقدت في البدء أنّ المطربة هي مطربة يمانية (حضرمية) حتى انتهت الأغنية المصورة فقلت إنّ هذا اللحن لحن حضرمي عوادي. وتمكن مني الفضول فرحت أقلب القنوات لعلي أشاهد الغنوة في قناة أخرى دون جدوى .. وفي اليوم الثاني تكرر المشهد وعرفت أنّها مطربة مغربية اسمها (أسماء المنوّر) وعلى الفور طلبت إحضار نسخة من شريطها الذي اكتشفت بعدما سمعته أكثر من مرة أنّه قد وجه طعنة صائبة إلى خصور مطربات الدلع الغُنائي وكان المفاجأة وهذه حكايتها :استمعت إلى كل ما حواه الشريط المفاجأة فتارةً أحلق مع ألحان المبدع الرومانسي (يوسف المهنا) وأخرى أفرد جناحي أرفرف في ولهٍ واستمتاع مع كلمات الشاعر (بن عبود) ولحن المبدع (علي بن محمد) وعذوبة صوت بنت المنور الذي لاشك أنّ كلمات القصيدة وقافيتها المنوعة الثرية كانت من أهم عوامل نجاح بن محمد في صياغة ذلك اللحن الرصين كي تترجمه بنت المنور شجوًا وطربًا يذهل من سمعه فقد اندمجت المطربة مع اللحن والكلمات وأجادت وكأنّها قد تربت وعاشت على شواطئ مدينة المكلا الخلابة واستقت من معين وادي دوعن وعسله الصافي لذا كانت أجادتها لهذه الغنوة إجادة لم تضاهيها فيها أكبر المطربات العربيات ممن قدمن هذا اللون الطربي المميز سواء من ألحان الأستاذ أبوبكر سالم أو دكتور عبد الرب إدريس أو غيرهما إلا قلة قليلة منهن كالمرحومة ذكرى والفنانة أصالة وأنغام واستطاع الملحن بلحنه الحضرمي العوادي أن يستخرج إمكانيات المطربة الصوتية وإبرازها بأسلوب شجي وراقي، وأعادتني هذه الغنوة إلى الأشكال الموسيقية الحضرمية الكلاسيكية التي يؤديها المطربون الشعبيون الحضارمة أمثال كرامة مرسال وعلي العطاس وعبد الرحمن الحداد وغيرهم الذين استقوا هم الآخرون من فيض معين محمد جمعة خان رحمة الله عليه والعملاق أبوبكر بلفقيه أطال الله عمره حتى إنني استشعرت أثناء سماعي لها بنكهة حضرمية مختلفة امتزجت فيها أصوات أبوبكر سالم وخليفته (من وجهة نظري) علي بن محمد وكأنّ بن محمد قد عصر في هذا اللحن البديع أداءه وأداء أبو أصيل وشطحات صوته الإعجازي ثمّ أضاف عليها من بهاراته الخاصة ما جعل الطعم شهيًا والاستماع إليها أشهى حتى إنني احترت بيني وبين نفسي فيما إذا كنت قد سمعت هذا اللحن في السابق أم لام ذلك؛ لأنّه يعبق بنكهة حضرمية صافية نقية عشقتها صغيرًا وكبيرًا وكهلاً متخيلاً صدى صوت كرامة مرسال القوي الشموخ وعبد الرحمن الحداد الساحلي وعلي العطاس وصوته البدوي العذب مرورًا بمحفوظ بن بريك وسعيد عبد المعين في الجانب الآخر من شاطئ المكلا (الشحر) مسقط رأس الشاعر النابغة السيد حسين المحضار رحمة الله عليه وصولاً إلى تخوم سيئون مسقط رأس الشاعر ا لرومانسي المرحوم حداد بن حسن الكاف والغنّاء تريم مسقط رأس الصوت المعجزة أبوبكر سالم ثم شبام بدوي زبير رحمه الله الذي يتفق كثيرون أنّه أقدر من قدم الدان الحضرمي، كل هذه الأشياء أحسست بها وأنا أسمع هذه الغنوة الطربية وكلفني ذلك الاتصال بالملحن كي أشكره على هذا الإنجاز الطيب والاكتشاف الأطيب ثمّ اكتب بعد ذلك ما اختلج في صدري الهزيل الذي يقرأه القارئ حاليًا، ولو كان لدي هاتف الشاعر كنت أتصلت به مرددًا بيتين آخرين من الشعر كان قد قالهما :ذكرتني باللي مضىوقت السلا والمغانيفي سفح قيدون انقضىوفي بظه يا زمانيثمّ أشكو إليه وأعاتبه على ما فعلت بي كلمات قصيدته (قلبي دائم معاكم) الرائعة، حتى إنّه ساورتني بعض الشكوك من انّ ابن عبود قد تعمّد فعل هذا بي وحدي وأنا الغريب عن حضرموت طويلاً وأظن أنّ الملحن قد تواطأ معه في ذلك ثمّ اكتملت خيوط المؤامرة العذبة على قلبي الضعيف بالركن الثالث، لهذا العمل بنت المنور فقد أجروا دمعي شجوًا وأسهرت كلمات بن عبود عيوني وانشغل مثل باله بالي مثل ما ذكر في قصيدته ولن أسامح أحدًا منهم؛ إلا إذا أكرموني أكثر وجعلوا الصبر يهنأ لي ويلين لي الوقت مثلما تمنى الشاعر وأسمع تحفة أخرى يجسدها بن محمد لنا طربًا يمانيًا حضرميًا صافيًا صفاء عسل مسقط رأس الشاعر (دوعن) ونقاوته وسحر صوته هذه المطربة المغربية اليمانية الهوى وعندها قد أسامح لأنّ ملعقة عسل واحدة لا تكفي يا جماعة ولا تشفي غليل أو سقم.أما الشيء الغريب الذي أود أن أحكيه للقراء عن هذه الغنوة والمطربة (أسماء المنور) هو أنّه لم يتشجع لها الملحنون كثيرًا رغم أنّها طرقت أبواب العديد منهم خصوصًا الملحنين المصريين حتى التقت صدفة بصاحب الصوت القادم من محيطات العذوبة والرجولة مثلما يروق لي أن أسميه وصفًا علي بن محمد الذي استشعر بعد أن سمعها أنّه قد وجد ضالته التي يمكن أن تجاريه في عذوبة وقوة الصوت وإنسيابيته حيث وافق شن طبقة لذا آثرها على نفسه؛ بأن أهدى لها هذا اللحن الصعب الذي من الصعب أن تجيده غيرها وبعدها لفتت انتباه الملحنين العرب وتهافتوا عليها خصوصًا بعد أن صورت الغنوة للتلفزيون (سبحان الله) الأمر الذي جعلني أتمنى أن يقدما الاثنان معًا يومًا ما أغنية مشتركة وأن تتحقق لي أمنية أخرى مثلما تحققت أمنيتي في السابق عندما وقفت نجوى كرم مع العملاق وديع الصافي ليقدمان ذلك الدويتو الممتع ومثلما فعلها قبلهما صاحب الصوت المعجزة أبوبكر مع الراحلة ذكرى كما إنني قد وجدت في صوت أسماء المنور عزاءً لي لحزن ظل يرزح بين جنبات صدري الهزيل منذ رحيل أجمل الأصوات (اسمهان تونس الخضراء) ذكرى في غفلة من هذا الزمن، كما علمت أنّ إعداد اللحن وتجهيزه قد استمر حوالي الشهرين حتى تم تقديمه بهذه الروعة في زمن السرعة الذي نعيشه.وإلى هنا أعذروني فقد حانت ساعة تناول وصفتي العلاجية وقد أكثرت الحديث وأنا بحاجة الآن.. لأعود وأسمع بنت المنور وتغريدها فصوتها أصبح عندي مثل دواء الروح ومن المؤكد أني سوف أُكرر بيني وبين نفسي في همس ما قاله الشاعر الفذ بن عبود في نهاية قصيدته المؤثرة :عظيم الحب كم جمع ما بين المحبين.وكل حكاية وأنتم بخير