سلوى صنعانينظر إليهن بحنان أثناء جلوسهن على مائدة الطعام الذي حمله إليهن من أحد المطاعم المشهورة بمدينة كريتر، ورغم الفتهن به إلا أنهن لأول مرة يجتمعن معه على مائدة طعام.على استحياء أكلن معه ولاحظ ذلك فهتف بهن يحثهن على الأكل قائلاً “كلوا الأكل كله يا بناتي الصغيرات، فالأكل عبارة عن حرب” ثم نهض مودعاً البنات الصغار.. ومضى ومضت به السنون لترميه إلى هاوية الردى.ليلة وفاته ظلت الصغيرات يتذكرن تلك اللحظة وتلك الوصية... ولا يعلمن لماذا قالها لهن ومضت دموعهن منهمرة حزناً لفراق العم طه.ذلك الرجل كان الأستاذ والصحفي والأديب طه حيدر.. الذي يصادف يوم السادس من يونيو ذكرى رحيله....!![c1]واغيبتك يا أبا حيدر[/c]عدت بذاكرتي إلى تلك الأمسية التي ودعت فيها صغيراتي مغادرة إلى خارج الوطن وقد وصيت زميلي وأخي على صغيراتي... وكان الرجل والإنسان طه حيدر وكما عرفته شهماً ونبيلاً وصادقاً في كل مشاعره... واخترته هو دون الناس المحيطة بي من أهل وأقارب وأصحاب لحمل الأمانة.فكان عند حسن ظني وهكذا عهدته خلوقاً ومحباً ووفياً لكل من حوله من أصدقاء وزملاء.ذكريات ومواقف كثيرة ذات وجوه متعددة جمعتني وطه أثناء عملنا في بلاط صاحبة الجلالة، وعشنا معاً الحياة بحلاوتها ومراراتها فهو من أقرب الزملاء إلى نفسي ومعه الزميل الراحل والكاتب الفذ أحمد مفتاح. ومثلما عهدته بنبله ووفاءه وحنانه عهدت فيه الشجاعة والرفض لكل ما هو معاد للإنسانية من قهر وظلم الأمر الذي جعله لدى بعض المتسيدين في صحيفة 14أكتوبر في دائرة الاستهداف. فقد عانى من الألم والعذابات وظل يكابد مرارة الغربة والبعد عن الوطن وكان مع ذلك ناجحاً وإنسانياً في كل علاقاته... مستقطباً حب الجميع، وبقدر ما كان من حوله محب له... كان هو محباً لهم.طه حيدر الكعبي ابن بغداد التي حملها بين حناياه واجبر قسراً على الهروب منها تجنباً لبطش نظامها القاهر حاله حال الكثيرين من المثقفين في هذا الوطن العربي والذي لا يقبل حرية الرأي الآخر ويعاني من قمع وتعسف سلطاته المهيمنة. فكانت المنافي الغريبة ودروب الآلام والجوع والتشرد في المرافي البعيدة وسهر الليالي تحت سماوات غريبة كانت وطناً له كغيره من الشرفاء.غادر بغداد ليلاً ليصل إلى دمشق ثم ليبيا ثم بلغاريا فاليمن التي استقر به المقام فيها وتنقل بين جنباتها وكانت حنونة عليه... استقر في زنجبار فجعار فعدن وعمل في البداية مدرساً للرياضة وهو المتخصص الحاصل على بكالاريوس في الرياضة من جامعة بغداد. ثم انتقل بعد كتابات عديدة إلى صحيفة 14أكتوبر ليرأس القسم الرياضي وكان فارساً في هذا المضمار. ثم انتقل ليصبح رئيساً لدائرة التحقيقات التي مررنا جميعاً خلالها... وكان ناجحاً للغاية في نسج علاقات الزمالة ثم عمل رئيساً لقسم الإعلانات ونسج أيضاً علاقات طيبة مكنت الصحيفة من جذب الكثير من الإعلانات بحكم دماثة أخلاقه وحب الناس له. هذا غير تلك القدرات والكفاءة التي تمتع بها الرجل في مجال الصحافة والإعلام. ولم يكن طه رياضياً لم يسفر عن نفسه وبل وأديباً جميلاً في مجال القصة وقد صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (وشمان للحبيبة والأرض) وأخرى لم تر النور بعد.وظل طه الزميل والأخ والإنسان يحمل في داخله عذاباته لبعده عن وطنه وإن كانت عدن موطنه والتي أوصى خلال فترة مرضه بأن يدفن في تربتها الحبيبة بالقرب من أبنائه الأربعة.رحل طه حيدر بعد معاناة مع مرض السرطان وكان قد غادر إلى الأردن وهناك عرف من الأطباء حقيقة مصيره وبرفقته زوجته الفاضلة التي وضعته أمام اختيار موطنه الأخير.. إما بالسفر من عمَّان إلى بغداد التي كانت أقرب إليه من عدن جغرافياً للبقاء فيها والموت هناك أو العودة إلى عدن... فرجح عشقه لعدن الكفة... وعاد إليها ليمضي معنا أشهراً معدودة ورحل يوم السادس من يونيو والتي يصادف الأسبوع الماضي ذكرى رحيله السادسة وأغمض عينيه ولم يكتمل الحلم الذي عاش له وهو العودة إلى الحبيبة بغداد وإلى الأهل والديار. فدفن في مقبرة القطيع بكريتر عصر ذلك اليوم... تاركاً لنا آلام فراقه وغيابه الذي مازال قائماً إلى يومنا هذا ولم يستطع أحد أن يملأه بعد رحيله.كم يؤسفني أن اختصر عبر هذه السطور مشوار الآلام والعذابات والمعاناة لهذا الرجل ولكنني افتقده كثيراً... وأقول له واغيبتك يا أبا حيدر.
أخبار متعلقة