في الذكرى 88 لميلاده 2-2 ر
في عدد يوم الأحد الماضي نشرنا الجزء الأول من هذه المقالة المهمة التي تضمنت استعراضاً عاماً للكتب الثلاثة التي صدرت بمناسبة الذكرى (88) لميلاد الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر الذي صادفت يوم 15 يناير الحالي، حيث ركزت المقالة على كتاب الصحفية الإنجليزية آن تايلور الصادر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة في شهر أبريل الماضي بعنوان "ناصر : حياته وزمانه" وقدمت عرضاً مفصلاً لفصول الكتاب، نشرنا جزءًا منه في عدد الأمس وفيما يلي ننشر الجزء الثاني والأخير من هذا العرض المفصل لهذا الكتاب المهم.لفلسفة والدوائر المتداخلة وبكل بساطته.. وعلى سبيل دورية الاستكشاف العسكرية الأسلوب.. طرح عبدالناصر ربما بصياغة صديق عمره هيكل أهم معالم رؤيته فى ركيزتين أساسيتين كان عمره وقتها لا يتجاوز 35 عاما وهما: 1- إن لكل شعب فى الدنيا ثورتين: الأولى سياسية والثانية اجتماعية. 2- إن مصر هى بحكم التعريف دولة دور، وأن مقتضيات هذا الدور تفرض عليها بحكم الموقع والموضع مصطلحات جمال حمدان فيما بعد أن تتحرك فى دوائر ثلاث هى: العربية الإفريقية الإسلامية والدوائر متداخلة بالطبع على نحو ما قد يرسمها الضابط الثورى الشاب خريج كلية الأركان. ثم جاءت لحظة الفصل فى تحول ضابط الأركان إلى زعيم العرب بعد تأميم القناة ورفض الإنذار الإنجلو فرنسى من فوق منبر الأزهر الشريف وبدء الاستعداد الشعبى المسلح لمقاومة العدوان الثلاثي. كاريزما العيون ونزاهة السلوك فى هذا السياق تقول المؤلفة الإنجليزية ص 96: هكذا نجح رهان عبدالناصر فكان أن اضطرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى الانسحاب.. أما على المسرح العربى فقد ظهر ناصر لأول مرة تجسيدا للعزة العربية.. زعيما استطاع أن يلحق الهوان بالدول الإمبريالية وحافظ على استقلاليته بعيدا عن القوى العظمي.. هكذا بدأ الصحفيون الأجانب يبدون مزيدا من الاهتمام بالزعيم المصري.. وكم كان المراسلون الغربيون مبهورين بنظرات عينيه النفاذتين وقامته المهيبة الفارعة، لدرجة أن يطالعها الكاتب الفرنسى لاكتوتور فإذا بها تذكره بتمثال يبعث على الرهبة.. مصنوع من الجرانيت.. منصوب فى المتحف المصري. أما البروفيسور الأمريكى جون بادو رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة فقد كتب يقول: خصاله الشخصية كانت أقرب إلى السلوك النموذجي.. يعيش فى جو يفتقر إلى أبسط مظاهر الترف المظهرى فى فيللا قاهرية متواضعة.. ولكنه يعيش حياة عائلية سعيدة.. وهو مسلم شديد الإخلاص لدينه ولا يقرب الخمر إطلاقا. وهنا تعلق آن تايلور قائلة ص97: كان قصاراه أن يوفر حياة أسرة متوسطة راضية لزوجته وأطفاله الخمسة.. وبعدها لم يكن يعنيه على ما يبدو مغريات السلطة ومظاهرها.. بل كان معنيا فى الأساس بما تعنيه السلطة من مضمون. المخابرات الأمريكية تمقته لاتزال الكاتبة الإنجليزية تتحدث عن عبدالناصر: هذا الأسلوب التقشفى فى الحياة تصفه بأنه اليعقوبى بمعنى الزهد فى مظاهر الكماليات المترفة هو الذى أذكى سورات الغضب، بل والبغض فى نفوس أعداء جمال عبدالناصر.. وكم جأر عملاء المخابرات المركزية بالقاهرة بشكوى مريرة لأن *موضوعهم* عبدالناصر لم يكن يعيبه نقيصة فى الخُلق أو السلوك.. وهو ما ذكره لاكوتور الفرنسى حين نقل عن جماعة ال *سي. آي. إيه* قولهم إن مشكلتهم مع ناصر أنه رجل بغير رذائل أخلاقية سلوكية فلا نحن نستطيع شراءه ولا ابتزازه.. ولذلك فنحن نكرهه إلى حد التحريم. هكذا استحق الرجل أن تخلع عليه الملايين لقبها الأثير.. الريس.. وكانت هذه الجماهير تنتظر خطاباته الموجهة إليها.. وترقب وجوهها المشرئبة موكب الزعيم إلى مؤتمراتها الشعبية.. الشعبية بحق وعفوية وقد صدقت عليها كلمات شاعر عظيم حين لمح واحدا من هذه الوجوه التى كانت: *وجه ذكرت به مواكبك التي/ كانت طعام العام للفقراء أبناء السبيل*. طبعا مؤلفة الكتاب لم تذكر هذا البيت الجميل المفعم بالشجن.. والشاعر الجميل هو الأستاذ أحمد عبدالمعطى حجازى عفا الله عنه. تواصل المؤلفة ملاحتها فى الزمان والمكان عبر صفحات الكتاب.. تتابع عبدالناصر وهو يخطب فى الجماهير.. تتأمل التراث الحافل الذى أصبحت تجسده خطابات وتصريحات الزعيم وبعضها كان أقرب إلى النجوى السياسية والاجتماعية بين الرجل وملايين الأفراد فى مشرق وطن العروبة وفى مغربه، وبعضها الآخر على نحو ما تلاحظ الباحثة الإنجليزية ص 101 وما بعدها أصبح يشكل إضافة إلى أدبيات البلاغة السياسية العربية فى زماننا.. وثم تنقلها السياحة الفكرية إلى صروح إقرار العدل وإنصاف المستضعفين وتعويض ملايين الفلاحين المعدمين والعمال الفقراء عن عقود طويلة من الحرمان وصولا بالإنجاز إلى السد العالى وتكوين بحيرة ناصر.. التى تمتد فوق مسطح من المياه العذبة الثمينة بطول 500 كيلو متر.. ثم اصطداما بالانكسار فى 5 يونيو 1967.. يوم يصفه مراقب أمريكى هو هارى هوبكنز فى كتاب أصدره فى بوسطون بعنوان الثورة التى لم تكتمل فى العالم العربى فيقول: كان الإسرائيليون قد اتقنوا استيعاب حقائق الحرب فى الغرب بعد دروس 1956 ولذلك عمدوا إلى كبح تصريحاتهم.. ولكن عندما قرروا الضرب.. ضربوا بقسوة وقتلوا الآلاف فيما كان الكثيرون فى الغرب أوروبا وأمريكا يهللون كما لو كانوا يشاهدون مباراة فى كرة القدم ! رأى كاتب إنجليزي يومها أعلن ناصر استقالته وتحمله المسئولية كاملة عن الهزيمة وبعدها بساعات أجبرته الجماهير الثائرة بل الغاضبة فى مصر والأقطار العربية على أن يعود عن قراره ويواصل حمل المسئولية.. وبصراحة تقول المؤلفة كان هناك من اتهم ناصر بتدبير واقعة التنحي.. وبصراحة أيضا تنقل المؤلفة تحليلا مهما يؤكد أن الناس كانت تفكر بشكل مختلف بعيد تماما عن حكاية التدبير أو التشكيك.. يقول كاتب إنجليزى آخر هو الأستاذ روبرت ستيفنس فى كتابه بعنوان ناصر: لم يكن المصريون ساعتها يحكمون على عبدالناصر ببساطة من منظور نجاحه أو فشله كقائد عسكري.. لقد ظلوا يرون فيه الرجل الذى أطاح بالملك وانهى الاحتلال البريطانى واتاح لمصر سيطرتها الكاملة على قناة السويس.. وشرع فى تشييد السد العالي، وطبق قوانين الإصلاح الزراعى وأقام المزيد والمزيد من المصانع والمدارس وزود القرى والنجوع بمياه الشرب النقية ونور الكهرباء.. وبدأ نظم التأمينات الاجتماعية لصالح العمال.. فيما اتاح لأعداد متصاعدة من أبناء الشعب المصرى مزيدا من المشاركة فى إدارة مقاليد بلادهم ولو ضمن حدود مرسومة*. ماذا يبقى من عبدالناصر الفصل الأخير من هذا الكتاب يحمل عنوانا منطقيا بالضرورة وهو. .. تراث عبدالناصر.. وقد يلخص دلالته سؤال بسيط يقول: ماذا يبقى من عبدالناصر.. فى المواقع وللتاريخ؟ سأله يوما صحفى إنجليزى عما يتصوره أكبر إنجازاته. أجاب عبدالناصر.. إنها ثورة 1952. لماذا؟ لأنها كانت الأساس الذى قامت عليه كل جهود عبدالناصر ورفاقه من أجل خلق المزيد من الفرص المتكافئة أمام جموع المصريين العاديين. ويكفى يضيف الزعيم ناصر أن ابن سائقى استطاع يوما أن يدخل الجامعة بفضل مجموعة درجاته فيما عجزت ابنتى شخصيا عن دخولها لأنها لم تحصل على ما يكفى من مجموع الدرجات. فى الصفحات الأخيرة من الكتاب تستعرض المؤلفة محاولات الإساءة إلى عبدالناصر فكره.. اجتهاده.. تراثه.. إنجازاته.. طروحاته وذلك ابتداء من منشور توفيق الحكيم بعنوان *عودة الوعي* وليس انتهاء بمخططات الثورة المضادة لما تحقق من إنجازات العدل.. والكفاية وحشد الطاقات الوطنية ودعوة القومية العربية ومناهضة الاستعمار والانحياز للفقراء وهى المخططات التى شهدتها وما برحت تشهدها ساحة العمل الوطنى فى مصر بالذات منذ حقبة السادات وحتى صدور كتاب سطور المؤلفة.. وأيضا حتى كتابة هذه السطور. سطور الكتاب الأخيرة على الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب.. ترصد المؤلفة ظاهرة الحشود التى ما برحت تشهدها الساحات العربية.. ما بين ميدان التحرير فى القاهرة أو ميادين بيروت أو عمان.. آلاف من المتظاهرين شبابا وطلابا وكهولا من الجنسين.. يعيدون إلى الذاكرة حشود الغضب فى عقد الأربعينيات وربما تدفعهم كما توضح آن تايلور نفس الأسباب الاقتصادية السياسية الاجتماعية، التى سبق وعبأت بالغضب جبل عبدالناصر وزملائه.. أما الجديد هذه المرة.. فهى *إن صورة ناصر ترتفع فجأة هنا وهناك على أيدى المتظاهرين الغاضبين لا فى ميادين القاهرة فقط، بل أيضا فى بيروت أو فى عمان* ص165. أما آخر السطور فتودع بها المؤلفة قارئيها قائلة: فى الحالة المصرية، عملوا على محو تراث جمال عبدالناصر حرفيا: مشوا عليه باستيكه.. ورغم ذلك.. فربما تظل شوارع مصر تنتفض بروح الحركة التى سبق واستجاب لها فكان أن دفعت به إلى مواقع السلطة فى 23 يوليو من عام 1952.