أضواء
كانت قضية فلسطين القضية الكبرى التي انعقدت من أجلها قمة عربية في أنشاص عام 1946 ثم غابت القمة عشر سنين، لتنعقد مرة ثانية عام 1956 لدعم مصر يوم تعرضت للعدوان الثلاثي، لكن القمة لم تتحول إلى مؤسسة إلا بعد عام 1964 يوم انعقدت في الإسكندرية مع بروز زعامة في مصر للمشروع العربي يومذاك، ودعت القمة يومها إلى تحديد الهدف القومي ومواجهة التحديات، ولكن التحديات كبرت بعد نكسة حزيران، فجاءت قمة الخرطوم عام 1967 لتعلن اللاءات الشهيرة (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف). وقد استمرت القمم اللاحقة تدور في هذا الإطار حتى قمة بغداد 1978 التي رفضت اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعتها مصر مع إسرائيل، وتم تعليق عضوية مصر في الجامعة ونقل مقر الجامعة إلى تونس، حتى جاءت قمة الدار البيضاء عام 1989 لتعيد مصر إلى عضوية الجامعة، ولتبحث قيام الدولة الفلسطينية، والمؤتمر الدولي للسلام.والمتابع لتاريخ القمة العربية يجد أنها تشكل محطات مهمة في تاريخ العرب الحديث، وأن هدفها معالجة قضايا الأمة، وكان الشعب العربي يترقب هذه القمم، ويرجو أن يجد ترجمات ميدانية لقراراتها، ولكن أحلامه كانت كثيراً ما تتعرض لانكسار وخيبة، فالخلافات العربية مهما تكن مبرراتها تتحول إلى هموم ثقيلة تجثم على قلوب الناس الذين يريدون أن يجدوا قادتهم متفاهمين متحابين، ولاسيما بعد أن تدرج الأمل العربي الوحدوي في الانحدار من المطالبة بالوحدة العربية الاندماجية الشاملة (كما حدث بين سوريا ومصر) إلى الاتحادات الثلاثية التي بقيت شكلاً بلا مضمون، إلى المجالس العربية الإقليمية التي يتعرض بعضها للجمود، وبعضها الآخر للبطء في تنفيذ القرارات.ولقد قبل العرب بميثاق التضامن العربي الذي أكدت عليه قمة الدار البيضاء منذ عام 1965، لكن الأمل بالتضامن استمر في التدحرج حتى وصل إلى رجاء الحفاظ على الحد الأدنى من التضامن العربي. والمؤسف أن يتزامن هذا الإحباط في آمال الوحدة والتضامن والحد الأدنى منه، في الزمن الذي تحتاج فيه الأمة إلى قيادة عربية متماسكة موحدة الهدف والرؤية، قادرة على مواجهة التحديات التي باتت تهدد العرب جميعاً، وتجعلهم أمام أحد خيارين إما البقاء أمة ذات هوية عربية وكيان دولي ذي سيادة واستقلال وحضور في المجتمع الدولي، وإما الذوبان في سياسة الآخرين، والتنازل عن مقومات العروبة والسيادة والاستقلال الوطني، والتسليم المطلق بالتبعية للآخرين.ولست مع القائلين إن الأمة تعاني اليوم من شقاق بين فريقين، أحدهما يمانع الذوبان والآخر يستسلم له، فقد اتفقت الأمة كلها في قمة بيروت ثم في قمة الرياض على ثوابت ما تزال قائمة، وكانت المبادرة العربية للسلام منعطفاً تاريخياً أعلنت فيه الأمة رؤية شمولية لحل نهائي للصراع العربي/ الصهيوني، ومع أن هذه المبادرة لم تلق استجابة من إسرائيل، فقد أكد القادة العرب حرصهم على التجاوب مع كل الدعوات إلى التسوية السلمية وكانت آخر استجابة في مؤتمر «أنابوليس» الذي أحسب أن العرب ذهبوا إليه على هدي قولهم (اِلحق الكذاب إلى الباب) وكي لا يقال إن الولايات المتحدة دعتهم إلى السلام فلم يستجيبوا. ولكن الأمر الذي بات شديد الوضوح هو أن إسرائيل ترفض السلام، لأنه مكلف ويتعارض مع وجودها، وهي كما أكد تقرير “فينوغراد” تحضر اليوم لحرب جديدة، تريد منها استعادة هيبتها العسكرية التي فقدتها في حرب تموز 2006، ولتتابع استراتيجيتها بالحضور في المنطقة بفعل قوة عسكرية مهددة ومرعبة للعرب وللمنطقة كلها، وليس بفعل عقود واتفاقيات دولية وشرعية. والأمر الواضح أن إسرائيل والولايات المتحدة ومن يساندهما مصممون على القضاء النهائي على المقاومة في فلسطين وفي جنوب لبنان، لأن هذه المقاومة أفشلت أخطر ما استفادت منه إسرائيل من نتائج جريمة 11 سبتمبر، وهو اعتبارها إرهاباً، فقد تمكنت المقاومة من تجاوز هذا التشويه، واستعادت مكانتها في قلوب الأمم وعقول الشعوب، ولاسيما بعد أن حققت صموداً كبيراً في فلسطين وانتصاراً ضخماً في جنوب لبنان، وبعد أن ارتفعت معنويات العرب الذين كان بعضهم يشكك في قدرة قلة مقاومة على الثبات أمام طوفان العنف الذي توجهه إسرائيل في كل اتجاه.أرجو أن يتسامى الشعور العربي الجمعي بالمسؤولية، ولئن كانت ثمة خلافات في الرؤى بين الأشقاء، فإن هدف اللقاء في القمم هو إيجاد حلول لها. ومن يتأمل وضع الأمة اليوم يجد مفارقة تاريخية، فهي تعيش حالتين متناقضتين، الأولى حالة ضعف مُريع، يتمثل في اتساع رقعة الخلافات العربية، واختلاف الرؤى حول حلول الأزمات والمشكلات التي باتت بحاجة سريعة للحل، فضلاً عن الوضع المأساوي المفجع الذي يعيشه شعب العراق، وعن الأوضاع المُحزنة التي يعيشها الشعب اللبناني، وعن التمزق المريع في الجسد الفلسطيني، وعن القلق الذي تعاني منه الأمة كلها في محاولات الولايات المتحدة جر العرب إلى صراعات مفتعلة مع إيران، وما قد ينجم عن مثل هذا التورط من نتائج مأساوية، بالإضافة إلى ما تعانيه الأمة من إثارة مفتعلة للصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية، التي وجدت فيها إسرائيل نقاط ضعف كامنة فخططت للضرب على أوتارها الحادة. وأما الحالة الثانية التي تعيشها الأمة فهي حالة قوة وصمود تذكِّران بتاريخ الفتوحات والأمجاد البطولية التي كان يتغنَّى بها العرب في فترات ضعفهم، ولكنهم يجدون اليوم ما هو أعظم منها وأشد حضوراً ومتانة، فكل الأقاصيص التي تروى عن بطولات قام بها الفاتحون أو المرابطون الرواد في اليرموك أو القادسية وسواهما من معارك العرب الكبرى، تبدو اليوم عادية أمام الأقاصيص التي نعيشها من الصمود والإقدام والقدرة على الفداء والتضحية، فلئن كنا نتغنى مثلاً على مدى تاريخنا بالخنساء التي فقدت أبناءها فأمامنا اليوم مئات الخنساوات اللواتي تجاوزن ما فعلت تماضُر، وحسبنا مؤخراً أم عماد مغنية التي فقدت أبناءها الثلاثة فأحزنها ألا يبقى عندها من الأبناء من تقدمه. وفي فلسطين يقدم شعبنا من الصبر والثبات ما يدهش العالم، وهل ثمة في العالم اليوم شعب يصبر على الحصار المريع الذي تفرضه إسرائيل على غزة كما يفعل شعب فلسطين؟ وهل ثمة شعب تعرض لمثل ما يتعرض له اليوم شعب العراق، ومع كل ما يلقى من عذاب وتعذيب ما يزال يتمسك بثوابته، ويصبر على بلائه؟ ولن أسرف في وصف هذه الحالة الثانية التي أراها حالة قوة هائلة تجسدها الأمة، فهي لا تخفى إلا على من يريدون الاكتفاء برؤية الحالة الأولى التي تمثل العجز والضعف والتردي. ولئن قيل إن الكثرة المطلقة في واقع الأمة تقع في الحالة الأولى، فهذا صحيح، وتلك حالة مرت بها كل الشعوب والأمم التي تعرضت للغزو والاحتلال، فقد كان المقاومون على مدى التاريخ قلة محدودة العدد، ولكنها الفئة القليلة التي تصنع التاريخ وترسم مستقبل الأمم، أما كان المقاومون في فرنسا للنازية فئة قليلة؟ وأما كان المقاومون الفيتناميون البسطاء قلة كبرت وكثرت مع ما حققت من انتصارات، والتاريخ القريب يقدم الشواهد على أن الأمم لا تنهض إلى حالة القوة إلا بعد أن يستبد بها الضعف المريع.إنني من موقع المواطن الذي يترقب القمم العربية ويشعر بطمأنينة حين يرى أي قائدين عربيين يلتقيان بمودة ورحابة، أؤكد على أنني متفائل بقوة الأمة، وواثق من قدرتها على النهوض، وأرجو أن يتسامى الشعور العربي الجمعي بالمسؤولية، ولئن كانت ثمة خلافات في الرؤى والتوجهات بين الأشقاء، فإن هدف اللقاء في القمم هو إيجاد حلول لها، ونرجو أن يجد العرب في حالة قوة الأمة ما يدعوهم إلى مقاومة أسباب ضعفها المفتعل.عن/ صحيفة «الاتحاد» الاماراتية