وصل تعليمه إلى ( رابع ابتدائي ) وأجاد أربع لغات وكان من أمراء البيان..
نجمي عبدالمجيدعرفت الثقافة العربية في العصر الحديث شخصية عملاق الأدب العربي الأستاذ عباس محمود العقاد كظاهرة فكرية موسوعية لم يظهر لها مثيل منذ عصور الحضارة الإسلامية في قمة مجدها، فكان بحق العبقري الذي وصل في مجال المعارف الإنسانية إلى حدود واسعة من القراءات والدراسات والأبحاث التي جعلت منه صاحب رؤية كونية في عالم الفكر العالمي.وما تركه العقاد من مؤلفات في المجالات التي كتب عنها، تعد من الموسوعات المهمة التي ساعدت على تطور عالم الكتابة المعرفية ـ الموضوعية وتقدم قراءة النص والاعتماد على البراهين في صياغة البحث، والإحاطة الشاملة بجوانب الموضوع حتى تصبح الأرضية المستند إليها في حجة الكاتب الذي يجعل من جوهر الفكر الدليل الواضح في عملية الإبداع، وتوسع المعارف يعطي أبعاداً مختلفة في صياغة المذهب الفكري عند الكاتب الذي يجعل من المعلومات الطريق المرشد إلى معالم الاهتداء.بلغت مؤلفات الأستاذ العقاد 160 كتاباً، أما المقالات التي كتبها في الصحافة في مختلف الأغراض 15.000 مقالة وهذا يدل على تواصل إنتاجه حتى أيامه الأخيرة (1889 ـ 1964م) وتعد كتبه من الدراسات الجادة والمهمة في عالم التأليف وقد كتب في النقد الأدبي والتاريخ والشعر والسياسة والإسلاميات والأديان والترجمة وسير أعلام الفكر والدراسات الأدبية وعلوم اللغة، والفلسفة والكتابات العلمية ونقد المذاهب والعقائد، أما مقالاته الصحفية فتعد موسوعة في مجالات متعددة لا يوجد غرض من أغراض الحياة الا وكان لقلم العقاد فيه نصيب من الدرس والبحث، حتى قيل عن أسلوبه الصحفي انه يجعل من المقال (دراسة قائمة بذاتها في الموضوع الذي كتب عنه). قال عنه زعيم الأمة سعد زغلول:أديب فحل له قلم جبار ورجولة كاملة ووطنية صافية واطلاع واسع ما قرأت له بحثاًَ أو رسالة في جريدة أو مجلة الا أعجبت به غاية الإعجاب وهو لا يعالج موضوعاً الا أحاط به جملة وتفصيلاً إحاطة لا تترك زيادة لمستزيد وله أسلوب أدبي فريد).وعن الجانب الفلسفي في فكر العقاد يقول الناقد سامح كريم (للعقاد فلسفة خاصة به .. أعترف بها أساتذة الفلسفة في الجامعة ومنهم الدكتور عثمان أمين والدكتور زكي نجيب محمود والدكتور عبدالفتاح الديدي وغيرهم.والعقاد الفيلسوف لا يقل مكانة عن العقاد الأديب أو الناقد أو الشاعر أو المفكر الاجتماعي .. فكما كانت له نظريات في الفلسفة خاصة به .. ومع أنه درس مذاهب الفلاسفة العرب وغير العرب قديمهم وحديثهم ووعى نظرياتهم الفلسفية فقد اجتهد بحيث لم يسيطر عليه مذهب أو نظرية وحاول في نجاح أن ينفرد بفلسفة خاصة به دلالة عليه .. مبتعداً عن الهياكل التي حصر الفلاسفة انطباعاتهم داخل نطاقها .. فلسفة لا تعتمد على العقل والحواس وحدهما في الوصول إلي الحقيقة وإنما تعتمد على الوعي الكوني، وهو طاقة وجدانية يحسها من يملك ذخيرة روحية واسعة.باختصار فلسفة العقاد قوامها الإيمان بالروح والاحتفال بالمثل الأعلى والاعتزاز بكرامة الإنسان. والشعور بالحاجة إلى التغيير في المحور والأساس والدعوة إلى التعاطف والتفاؤل والسلام.أما الصحفي والكاتب الأستاذ أنيس منصور يقول عنه:أعجبني في العقاد هذا الصفاء العقلي. وهذا الرواء الفني. هذا الشموخ الهندسي في مقالاته.هل كان العقاد ساحراً؟ رأيته كذلك. فهو يخرج بالمعاني من المعاني، ولا أعرف كيف؟ ثم هو قادر على أن يستدرجنا إلى ما لم يخطر على البال من نتائج.هل كان محامياً عظيماً؟ هل كان مهندساً فكرياً جباراً ؟ كان كل ذلك.أن هذا التاريخ من الشهادات وغيرها الكثير عن موقع هذا العملاق في تاريخ العرب المعاصر يجعلنا ندرك مدى أهمية ومقدرة الكاتب في حياة الشعوب والحضارات، وبه يتمثل ضمير الأمة ووعيها الإنساني وموقفها الحضاري من أحداث زمانه، وكذلك دور الحرية في خلق مقدرة الفرد، وعن هذا يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: حرية الفكر هي حرية التعبير عن الشخصية الإنسانية بكل ما تشمل من حس وإدراك وخلق ومزاج ومجهود وحرية الفكر بهذا المعنى هي شيء لا يختلف عن حرية الحياة أو حرية الوجود.فسيان أن تمنع الإنسان أن يحيا، وأن تمنعه أن يفكر ويستوفي جوانب الشخصية التي تبلغ تمام مظاهرها في التمييز والتفكير.وسيان أن تمنع التفكير وأن تمنع التعبير عن التفكير، لأن الفكرة التي لا ترى ضوء الشمس هي فكرة ميتة أو هي فكرة حية ولكن حياتها هي سبب الألم والكبت والفساد.وإذا كانت حوادث الدفاع عن حرية الفكر لم تبلغ ما بلغته حوادث الدفاع عن حرية الحياة من الكثرة والعنف . فذلك لا يدل على أن حرية الفكر أقل من حرية الحياة. لكنه يرجع إلى أسباب متى اتضحت ظهر لنا أن الفكر والحياة في الشخصية الإنسانية شيئان قلما يختلفان.وغاية الفرق بين القضاء على الحياة والقضاء على الفكرة أن الحياة يقضى عليها مرة واحدة ثم ينتهي الإشكال فيها بين القاتل والمقتول أما الفكرة فقد يطول أجل القضاء عليها أياماً أو شهوراً أو سنوات. فإذا كان صاحبها يصابر قاتليها احياناً فليس ذلك دليلاً على أن تأجيل الدفاع عن الحياة مستحيل حين تهدد بالهلاك خلافاً للفكرة التي يجوز تأجيل الدفاع عنها ذهاباً مع الأمل في صيانتها وتغليبها بعد حين .تؤرخ الكلمات لأفكار الشعوب، بل تصبح هي المرجعية الذاتية والموضوعية لما سعت إليه عبر حقب من الأزمنة، فإذا كانت الكلمة هي بعض من جوهر الفكر الإنساني فهي لا تنفصل عن إدارة الحياة، لأن في حياة الشعوب، قادة فكرهم يحملون الرؤية والهدف ويحولون التصورات إلى أعمال وتصبح معاني الحقائق بما قدموا للحياة عبر قيادتهم للتاريخ .والأستاذ العقاد كان صانعاً لأحداث زمنه في مصر ولكن عبقرية المبدع لا تقف عند حدود مساحة الجغرافيا التي تقف عليها. بل تتجاوز إلى مساحات أوسع من الاتصال مع العالم عبر طرق المعرفة.ذلك ما وصلت إليه كتابات العقاد، فهي إنسانية واسعة، قوية الصلة بروح الحضارة، عالمية النزعة ويوضح الناقد سامح كريم هذه الصفات الفكرية عند العقاد وموسوعية ثقافته العالمية قائلاً: والعقاد نموذج للمفكر القادر على الانتقال من جو إلى آخر في سهولة ويسر ففي الوقت الذي نراه فيه يقوم بأكبر المعارك الفكرية التي عرفها القرن العشرين نراه وقد عالج العديد من المشاكل في صميم فلسفات أرسطو وافلاطون أفلوطين والقديس توما والقديس أغسطين وتطوع بشرح مواقف الغزالي وأبن رشد وأبن سينا ووازن بين فلسفات الإسلام وأحدث الفلسفات الأوروبية وجودية إلى برجماتية الى جدلية).من قضايا الفكر والحضارة التي بحث فيها الأستاذ العقاد مكانة الحضارة العربية ـ الإسلامية في العقل الغربي، ويعد كتابه (أثر العرب في الحضارة الأوروبية) الصادر عام 1960م من الدراسات التي أضافت إلى هذا الموضوع عدة حقائق ومعطيات عن اتصال الحضارات عبر حقب ومراحل.ومن خلال فصوله نتعرف على إسهامات العقل العربي والإسلامي في صنع المعارف المختلفة، وريادة حضارة الإسلام في نقل الشعوب من حقب إلى أخرى.يعد كتابه (الله) من أهم الكتب التي درست تاريخ نشأة العقيدة الإلهية، فهو دراسة جمعت بين علم الأديان وتاريخ المذاهب والأفكار الروحية والمعتقدات الإنسانية حول مبدأ التوحيد، مروراً بكل الأديان حتى وصل الإنسان إلى الإسلام ليجد فيه نزاهة التوحيد وحقيقة الإيمان وصلة الفرد بالحق.عن هذا الكتاب يقول سامح كريم : وفي حديثه الفلسفي عن الذات الإلهية يتناول العقاد نشأة العقيدة منذ اتخذ الإنسان إلهاً إلى أن عرف الله الواحد واهتدى إلى نزاهة التوحيد وقد بدأه العقاد في الأقوام البدائية ثم لخص عقائد الأقوام التي تقدمت وفي عصور الحضارة ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية وشفع هنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الاسبقين ومذاهب الفلاسفة التابعين. في عالم السياسة وصراعاتها عاصر العقاد ثورات مصر الكبرى الثورة العرابية بقيادة الزعيم احمد عرابي عام 1882م والتي قرأ عنها وكتب عدة مقالات فيها وثورة مارس 1919بقيادة الزعيم سعد زغلول الذي اتخذ من العقاد كاتبه الصحفي وثورة 23 يوليو 1952م بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر . كذلك كانت له كتاباتة وأفكار من أحداث الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) والحرب العالمية الثانية (1939-1945) وكان له أحاديثه عبر الأثير في الإذاعة محللاً ومعلقاً لأحداث الحرب العالمية الثانية وقد جمع العديد منها في عدة كتب وقد دلت هذه الأشياء على سعة مداركه في الجوانب العسكرية والسياسية التي تتطلب عند الحديث عند هذه الجوانب. فعن الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها يقول العقاد : من الأشياء التي اعتز بها هتلر وموسوليني كثيراً أن السكان البيض في ألمانيا وايطاليا أوفر عدداً من السكان البيض في الإمبراطورية البريطانية لان الألمانيين والايطاليين يبلغون نحو مائة وعشرين مليوناً في أوروبا ولا يزيد أبناء الجزر البريطانية وكندا وأفريقيا الجنوبية واستراليا وزيلاندة الجديدة على السبعين مع أننا نعلم أن الأجناس الملونة في الإمبراطورية تبلغ أضعاف ذلك ولها من القوة الخلقية والشجاعة العسكرية ما لا طاقة للنازيين والفاشيين بمقاومته في ميدان الحرب أو في ميدان الصناعة الحربية. وعند هتلر وموسوليني أن الأمم السمراء والسوداء والصفراء أو الأجناس الملونة لا يحسب لها حساب كبير أو لا تتساوى قوتها وقوة الرجل الأبيض في الأغراض الحربية ولا سيما أغراض الحرب على النمط الحديث. أما في مجال الدراسات الأدبية فقد أسهم الأستاذ العقاد بعدة مؤلفات تعد من روائع الإنتاج الأدبي في الثقافة العربية الحديثة ومن مؤلفاته في هذا المجال كتاب التعريف بشكسبير، رجعة أبي العلاء، عمر بن أبي ربيعة ، ابن الرومي ، ديوان في النقد ، تذكار جوتي، خواطر في الفن والقصة، بحوث في اللغة والأدب، آراء في الآداب والفنون، بين الكتب والناس يسألونك مراجعات في الآداب والفنون ،أما في عالم الشعر فقد صدرت له عدة أعمال جمعت في ديوان كبير ومنها وحي الأربعين، أشباح الأصيل ، هدية الكروان ،عابر سبيل، أشجان الليل، وفي عالم الرواية لم يكتب غير رواية وحيدة هي (سارة) وعدداً من القصص القصيرة. تلك هي بعض من ملامح وشخصية عملاق الأدب العربي العقاد وبالرغم من مرور سنوات عديدة على رحيله ما زالت مكانته في عالم الفكر والأدب لها قوة الحضور الثقافي ولا يمكن لكل طالب معرفة ودراسة تجاوز اسم العقاد وما زالت مؤلفاته تتحدى أصحاب الشهادات الجامعية على الدخول إلى عالم التأليف وهو الذي وصل تعليمه إلى رابع ابتدائي وأجاد أربع لغات وكان من أمراء البيان في اللغة العربية وعلومها فاستحق هذا الخلود المعرفي على مر الأجيال. [c1] المراجع :[/c]ماذا يبقى من العقاد سامح كريم دار القلم - بيروت دون تاريخ2- العقاد في معاركة السياسية سامح كريم دار القلم - بيروت دون تاريخ 3- في صالون العقاد كانت لنا أيام أنيس منصور دار الشروق - مصر الطبقة الثانية - 1988م 4- في السياسة والأدب والفن مكتبة B.B.C - هنا لندن أحاديث عام 1939 - 1952م الناشر : مدي جرافيك - 1991م